معرض «خلل وظيفي» للسوري حكمت شطا: عن ذلك المستنقع الذي حدد وجودنا كذباب

عمر الغدامسي
حجم الخط
0

«أنا لست ذبابة» تحمل هذه الجملة إيقاع الصرخة والاحتجاج والرفض، إلا أنها بالنسبة للفنان السوري حكمت شطا، هي أقرب إلى المانيفستو، الذي يقدم به معرضه المقام حاليا في فضاء ألف ورقة في ضاحية المرسي، تحت عنوان «خلل وظيفي»، ذلك أن كل مانيفستو، يبني محتواه من حالة الرفض والتمرد ورسم أفق جديد.
ليس حكمت شطا، إلا واحدا من أولئك السوريين، الذين عاشوا قيامة الحرب في بلده، وعرف بسببها، مثل الآلاف من السوريين غيره، الهجرة القسرية والاقتلاع، غادر سوريا حاملا بين ضلوعه ذكرياته الدمشقية كفرد من أهلها ومن نخبتها وهو المهندس المعماري، وثيق الصلة بالحياة الإبداعية كمصمم وسينوغرافي. علّ حكمت شطا، أو هذا ما استنتجناه في لقاء سريع معه، قد قدم للفن ليس فقط لإطلاق تلك الصرخة الاحتجاجية «أنا لست ذبابة» التي جاءت مكتوبة بالفرنسية في معلقة كبيرة الحجم، كجزء من أعمال معرضه، بل أيضا لتفكيك الأسباب العميقة والخفية التي جعلته يستفيق ذات صباح مغمسا برائحة الرصاص والدم، ليجد نفسه وقد تحول «في نظر الآخر» إلى ذبابة، تماما مثلما حصل لبطل كافكا. لم يكن هناك شيء ينقص حكمت شطا لخوض غمار تجربة الفن، فهو قد عايش حرارة المحنة ويمتلك الوسائل والتقنيات كمصمم ومعماري ليحول الفكرة إلى مادة ومنجز، وأكثر من كل ذلك فهو فرد حر وذات مفكرة لا تطمئن للأفكار المعلبة والجاهزة. لتجهيز أعمال معرضه، وجد شطا ضالته في تقنيات الفن المعاصر وأساليبه. عبر عمل ذهني لتحويل الفكرة إلى عنصر مادي وبصري، إما بعدسة التصوير الشمسي، أو بتطويع المواد والخامات والتصرف فيها بالدمج، أو بالجمع، أو بإعادة التركيب، أو بالكتابة، كما دأب على ذلك بعض جماعة الدادائية، خاصة الفرنسي بان فوتييه Ben Vautier.

بقدر ما تبدو الأغراض والمعاني، التي دفعت حكمت شطا لإنجاز معرضه مؤلمة وموجعة، إلا أننا وفي الوقت ذاته، نجد أنفسنا أمام أعمال لا تخلو من اللعب والتلاعب وروح التهكم، وهذا في اعتقادنا، لا يبدوا غريبا، ذلك أن عالمنا عبثي ومفرط في لاعقلانيته، لأجل ذلك نجد الفنان في معرضه في فضاء ألف ورقة، يعيد صياغة وظائف الأشياء، نحو وظائف مغايرة محملة بالدلالات. يخيط المفارقات ويتلاعب بالمكونات، وهو يسمي كل ذلك تحت عنوان واحد «خلل وظيفي»، كأن يقوم مثلا بنزع الشباك من صائدة الحشرات البلاستيكية اليدوية، لكي تفقد وظيفتها وتصبح فتحاتها الكبيرة مجرد نقطة عبور ونفاذ للذباب، وكأنه بذلك يمنحنا الحل اليتيم لإنقاذ أنفسنا، كذباب، من ولائم المطاردة والقنص. بروح النكتة السوداء نفسها، نجده في عمل آخر يتلاعب بالكلمات، حيث يحمل الوجه الطيني، في شكل منحوتة شبه محترقة، في أذنها خرص مشكل من كلمة «خردل» بالأحرف العربية، وفي الأذن الأخرى قرط مشكل من كلمتي «غاز السيرين» بأحرف لاتينية، وترجمته بالعربية «غاز الخردل»، وإذا ترجمنا «الخردل» إلى الفرنسية فسيحيلنا إلى صلصة الموتارد، وبين غاز قاتل وصلصلة بنكهة مشبعة ببذرة الخردل، تتعطل اللغة وتفقد وظيفتها الاتصالية، ويتأكد خللها الوظيفي، وإذا ما تتبعنا أطروحة عالم الألسنية فرناند دي سوسير، فإن عمل حكمت شطا يشير هنا وبدقة أكثر إلى تعطل اللسانLa langue بوصفه ظاهرة اجتماعية، تلخص نظاما من الاتفاق والتواطؤ، كجزء محدود وأساسي من اللغة La langage، بوصفها ملكة يشترك فيها كل البشر مهما تنوعت لغاتهم. هذا التلاعب بدلالات الألفاظ يتكرر في أعمال الفنان حكمت شطا، وهو أمر لا يخلو من معاني تصب في ذلك التفكيك أو التشريح الضمني، لذلك المستنقع الذي أنتجنا كذباب، بعد أن دمر صفتنا ككائنات اجتماعية تحتاج إلى حالة من الانسجام اللساني والتناسق الوظيفي، لكي تتواصل.

في رواية 1984، لجورج أورويل، هناك دولة أوقيانيا، متربعة على كرسي حكم سيقانه الحديدية مثبتة على الأرضية، برؤوس بشرية، تماما مثل الكرسي الذي يستقبلنا في معرض حكمت شطا، فرضت هذه الدولة لغة خيالية سمتها «نيوسبيك»، مفرغة من كل تلك الدلالات أو الشحنات التي تعبر عنها كلمات مثل الحرية والإرادة والخيال، لتصبح مفرغة وباردة ومحايدة. تماما مثل تلك الكؤوس ذات الأشكال المتنوعة، التي يقدمها لنا حكمت شطا في معرضه، والتي تبدو في أشكالها وفي ألوانها جميلة وجذابة، غير أنها لم تكن معدة لتمتلئ بالسوائل، بل بالإسمنت، تماما مثل عقولنا التي أفرغت من مجاري الأنهار والينابيع التي تشير لإنسانيتنا وقد تم تعويضها بقوالب الإسمنت المسلح.

هذا الخلل الوظيفي في معرض الفنان لا يشمل اللغة ولا الأشياء الوظيفية فقط، بل يكاد يغطي كل أعمال المعرض، بتلك الروح نفسها التي يختلط فيها التهكم والعبث بالأسى والحزن، وكأن الفنان في كل ذلك قد جعل من عملية إنشاء أعماله رحلة صيد لدلالات لامرئية، فجعل أعماله مدججة بالكمائن والفخاخ البصرية، نواجهها ونكتشف من خلال ما زرعه فيها من اختلالات وظيفية ومن «تحويل وجهة» ما يدفعنا إلى التفكير ومغادرة صندوق ذلك البراديغم المتحكم في وظائفنا الحسية والبصرية وفي ردود أفعالنا واستجاباتنا، إنه حجاب لا يختلف في مضمونه، عن تلك التنصيبة المقدمة في معرضه، التي هي علي هيئة حاجب بيتي Paravent، مصنوع من أسماك صغيرة بلاستيكية معدة كطعم للصيد، وموصولة بخطافات من المعدن المعقوف. في كل واحدة من تلك الأسماك البلاستيكية يتبين من أفواهها المفتوحة والعالقة، ذلك اللون الأحمر القاني، لون الدم، الذي يعزز فرص جذب الأسماك الحية لتلك الطعوم من الأسماك البلاستيكية.
في عمل فوتوغرافي يلتقط حكمت شطا حركة لاعب في قفزة هوائية، يوجه كرة السلة نحو الهدف، المفارقة أنه لم تكن هناك سلة، بل مجرد مربع خشبي متهالك وفارغ، هنا يتبين الخلل الوظيفي بين ما يحدث في عقولنا، وما يوجد في الواقع المادي، بين ما نستأنفه كشيء موجود وثابت في عقولنا، وما اندثر ولم يبق منه إلا أثر بعد عين. هذا البعد الذهني في أعمال الفنان يكاد يشكل جل أعمال معرضه، بما فيها تلك الصور الفوتوغرافية، التي لا يخلو بعضها من قسوة عندما يسيح جسد البطيخ الأحمر «الدلاع» على الأرضية كقطع اللحم النيئ وتتناثر داخله بذوره السوداء وكأنها الدم المتخثر.

يقع فضاء ألف ورقة، في قلب ضاحية المرسي، الطابق الأرضي عبارة عن مكتبة تعد محجا موثوقاً وثرياً للتونسيين المغرمين بالكتب، أما الطابق العلوي، فيضم قاعة العرض، وتطل منه شرفة، اختار حكمت شطا أن يستغلها لتعليق تلك المعلقة الكبيرة، التي كتب عليها بالفرنسية جملته الاستنكارية «أنا لست ذبابة» المعلقة بحجمها اللافت لا يمكن أن تغفل عنها عيون المارة الذين تمتلئ بهم الساحة المطلة علي فضاء ألف ورقة والضاجة دوما بالحركة، ما يجعلنا نسأل عن وقع تلك الجملة في نفوس المارة، ذلك أن الشعور بأنك ذبابة أو حشرة قد يداهمك وأنت تدفع جسدك بين الجموع المكتظة داخل حافلة متهالكة، قد يداهمك أيضا وأنت تجر عربة مشترياتك داخل تلك المساحات التجارية، قد يداهمك وأنت تسير بلا وجهة في هذا الزمن السائل، فإن يتم تحديدك كذبابة، فذلك يعني أن هناك خللا وظيفيا يمس جوهر إنسانيتنا. لطالما ارتبط الذباب في ذاكرة البشرية ومعتقداتها ليس كعقاب فقط، بل كنذير بما هو أسوأ مثل الوباء والموت، هكذا فإن صرختك بأنك لست ذبابة، هي صرخة من أجل الحق في الحياة.

ويبدو هذا المعنى لافتا وعميقا في أعمال حكمت شطا، التي وإن كانت مصنفة ضمن الفن المعاصر، إلا أن هواجس مضامينها نجد أصداءها في القديم أو الكلاسيكي، ذلك أن الهاجس الإنساني واحد وهو فقط يعيد، في كل حقبة، صياغة أسئلته وانتباهاته، بوسائل مغايرة، حتى إن ذبابة حكمت شطا، هي الذبابة نفسها التي رسمها جيوتودي بوندوني Giotto di Bondone ( 1266 ـ 1337) أحد أهم فناني عصر النهضة وأقربهم تأثيرا في الحداثة الفنية الأوروبية، حين جعل الذباب مادة دسمة في رسوماته للتعبير عن الزوال والتعفن البشري والسطحية، وهو ما سيعرف تحت اسم لاتيني musca depicta أو الذبابة المرسومة. الفرق هنا أن حكمت شطا، لم يرسم الذبابة، ذلك أنه إذا رسمها، لن تكون ذبابة، تماما مثل ما ذهب إليه رونيه ماجريت في لوحة غليونه، أو مثلما ذهبت إليه فوتوغرافيا لاعب كرة السلة، في انعدام وجود السلة. ما عرضه حكمت شطا هو تفكيك لذلك المستنقع المتشعب الذي جاءت منه الذبابة، أو بالأحرى ذلك المستنقع الذي حدد وجودنا كذباب.

فنان وناقد من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية