في معرض السوري فايز سارة: وجوه الناس وخلاصات بصرية

الصّادق الرضي
حجم الخط
0

لندن ـ «القدس العربي»: الاعتقال أو السجن السياسي هو منع الحياة عن المعتقل أو السجين، هو منعه من إنتاج ما يفيد ويثمر في مسيرته في حياته الخاصة وفي العمل العام، كيف يتغلب على ظروف السجن والاعتقال ويحتفظ بقدراته الإنسانية، بل وينمّيها لفتح آفاق جديدة لحياته وتحويل فترة السجن من مجرّد تغييب وحَدٍّ للحرية، لفتح أبواب جديدة ومختلفة لاكتساب مهارات جديدة؛ الصحافي والكاتب السياسي السوري فايز سارة، من خلال تجربته في سجون الديكتاتور الأول (1978-1980) وسجون الديكتاتور الأخير (2008- 2010) ومرة أخرى في بداية انطلاق الثورة السورية سنة 2011، طوّر هوايته في الأشغال اليدوية لإنتاج قطع فنية معبّرة، من مواد وخامات بسيطة مثل: بذر التمر وورق الورد وبذر الزيتون، البورسلين على سراميك، النحاس والخشب القماش والخيوط، إلخ، في معرضه الأول (الحياة ما بين دمشق ولندن) الذي افتتح ظهر السبت 4 فبراير/ شباط ويستمر حتى السبت 11 من الشهر الحالي، في صالة جمعية «جراند جنكشن» في غرب لندن، قدّم نماذج من تلك الأعمال، بالإضافة لأعمال أخرى أنجزها في لندن؛ تحدّث فايز سارة لـ«القدس العربي» عن هذه التجربة في مناسبة افتتاح المعرض.

الحياة ما بين دمشق ولندن

تم إنجاز هذه المجموعة من الأشغال اليدوية على مرحلتين، في الخمسة عشر عاما الأخيرة، الأولى في سوريا، والثانية في لندن حيث أقيم، وتضم المجموعة أشكالا لحيوانات ونباتات ووجوه إنسانية وأدوات تمثل دلالات رمزية أحيانا، وفي أحيان أخرى، تدلُّ على ذاتها، وقد أخذت من النبات الأشجار والورود، ومن الحيوان البوم وبيض الدجاج، وأخذت الوجه من الإنسان، ومن الأدوات أخذت السيف الذي حضر وظهر توظيفه في بعض الأعمال.
أول الأعمال تم إنجازها في سجن عدرا القريب من مدينتي دمشق، التي تم تهجيري منها تحت خطر الاعتقال أو القتل من مخابرات الأسد وميليشياته، كما حدث لابني وسام الذي اعتقل وقتل تحت التعذيب سنة 2014 وآخرها اشتغلتها مؤخرا في لندن التي صارت مأواي بعد سنوات من تنقل إجباري من بلد إلى آخر بانتظار خلاص بلدي وشعبي من القتلة، وهو أمل لم يتحقق بعد، لكن سوف يحدث لا محالة لأن كل الطغاة والقتلة ينتهون بالسقوط أو القتل، وأحدهما مضمون سيكون من نصيب الطاغية الموجود على سدة السلطة في دمشق.

فايز سارة

رؤية للبيئة الجمالية

اختياراتي في تشكيل ملامح معرض، وأنا الهاوي البسيط، لم تكن مصادفة، بل كانت مرتبطة مع تصوراتي عن الحياة والناس وحولهما، أحببت أن تكون الأشجار والورود عناصر أساسية في المعرض، ليس لما فيهما من جماليات تشكيلها وفرح ألوانها وفوائدها البيئية والاقتصادية فقط، بل بما لها من صلة وثيقة ومؤثرة في قلوب وأحاسيس البشر، خاصة في تعبيرها عن إرادتنا في زرع الأمل والتفاؤل في حياتنا، ما يجعلنا نزرع الأشجار والورود في حدائقنا وفي بيوتنا، ونرسلها في أفراحنا وأحزاننا، ويتهادى المحبون والمحبات والعشاق الورود تعبيرا عن المحبة والشغف المتبادل. وإذا ظهر استعمالي للأشجار بما هو شائع عنها من جمال وقوة ومنفعة للبشر والطبيعة من حولنا، فقد بدأ تعاملي من الورود فيه بعض الاختلاف، حيث سمحت لنفسي بهامش استخدام الورود في دلالات، فتارة تعطل الورود شرور السيف في القتل، وبذا صارت تعبيرا عن القوة الناعمة، التي تقيد أداة العنف الدموي، وتارة أخرى يركل الوردُ آنيته الجميلة ويتسلق حبل منه الجدار ويخترق شبّاك السجن دلالة على إرادة توقه للحرية مؤكدا غلبة الجمال على مكان وقدر القهر.
اختياري لطائر البوم من مملكة الحيوان وهو أكثرها صداقة ونفعا للإنسان والطبيعة، هو كائن لطيف، وفريد في عدد من صفاته وغير مؤذٍ، حضوره في المعرض جزء من تقريبه إلى الناس، وكان قد أحيط بالغموض عند بعض الشعوب ونسجت عنه أساطير وحكايات كثيرة نسبة لحياته وعيشه في الخرائب والأماكن المهجورة. العنصر الثاني من مملكة الحيوان هو البيض الذي يمثل حاضنة التكاثر الأهم في عالم الحيوان، وهو في جانب آخر أحد أكثر مصادر التغذية حضورا في عالم الإنسان، وقد شاع استخدامه في أعمال المعرض، كان غاية في ذاته، وحاملا وحاضنة لغايات أخرى، ارتبط بمواد وخامات أخرى شاركته التكوين، وكانت كلها مناسبة لمنحه فرصة التعبير عن الجمال والفرح في ألوانها، لدورها الأساسي في تجديد الحياة والتعبير عنها. وهناك بعض الأعمال التي تعكس رؤية للبيئة الجمالية المحلية تصور أبواب دمشق، المدينة القديمة بمداخلها الصغير التي يعبر من خلالها الناس، ومداخلها الكبيرة التي تعبر منها الدواب وهي محملة بالخشب والقمح و»المونة» وتصور كذلك أبواب المدينة الجديدة.

انشغال بالعمل العام

أمضيت الوقت الأكبر من حياتي في الانشغال بالناس وقضاياهم في بلدي وفي العالم، لذلك حازت وجوه الناس حيزا مهما في أعمال المعرض، حيث أكثر من اثني عشر من مشغولات سجن عدرا المعروضة، تمنح الوجوه المتشكلة مادتها من شرائط النحاس، ذات الملامح المختلفة والمتنوعة، وهناك لوحة واحدة مشغولة بالسيراميك تضمنت أربعة عشر وجها تعكس أحاسيس ومشاعر إنسانية متباينة – هذا كان قبل خمسة عشر عاما، يوم لم تكن الوجوه التعبيرية شائعة في وسائط التواصل الاجتماعي؛ الجديد في تعاملي مع الوجوه الإنسانية، هو تشارك الرسم والصورة في إيصال الفكرة. في المعرض هناك بعض النماذج لأعمال فنانين سوريين شباب طلعوا مع الثورة، وبعض الصور التي تعبر عن لحظات مهمة ومؤثرة فيها، أنا هنا أسعى – في الحقيقة – لعرض قضية أكثر من عرض أعمال فنية، وفي سياق التفكير في كيف نقدم خلاصات للقضية السورية؛ جاء هذا المحتوى البصري، بجانب عرض بعض الكتب التي توثق وتؤرخ لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية