في لوحات السوري معن علي سعيد: تعبيرية التعري على السطح التصويري

إن تعرية الجسد تأخذ فهما آخر ليس اصطلاحيا أو أخلاقيا، وفق الشائع من المفاهيم الثقافية والاجتماعية، حسب دلالاتها الظاهرية السطحية، لكنها تغدو فلسفة لتطهير وترميم الذات الإنسانية عندما يكون هناك تصالح نفسي وفكري بين الجسد والروح والعقل.
بيّن مارسيل موس في دراسته المعنونة «التعبير القسري عن المشاعر» أن العواطف لا تنتمي إلى سيكولوجيا فردية، ولا إلى فيزيولوجيا غير مبالية، وحالما تظهر المشاعر من خلال الجسد، وتبرز من خلال السلوكات، تصبح انبثاقات اجتماعية تفرض نفسها بمحتواها وبشكلها على أعضاء مجموعة تنتمي إلى وضعية معنوية، ومثال ذلك، ذرف الدموع مرتبط بالألم، الفرح، التحية، إلخ.
إن النص البصري التعبيري للجسد في لوحات الفنان السوري معن علي سعيد يأخذ منحنى مغايرا له رؤيته ومفاهيمه، وهذا ما نلمسه في لوحاته الأخيرة التي اتسق فيها تعبير الجسد بالمحنة الدالة على شخصياته وثيمته، وأذكر هنا كمثال ليس للحصر (لوحة لحن الصمت ولحن الانتظار ولحن الموت ووجوه ونساء والظل وآدم وحواء) فقد حاول الفنان أن يعطي معاني ودلالات للتعري وفق السياق التاريخي واللحظة الزمنية المعاشة للظروف المحيطة التي يعيشها الإنسان السوري بشكل خاص، والانسان العربي عامة، والإنسان بشكل مطلق الذي وقع تحت الضغوط الهائلة من التحديات والمحن المعيشية والتهديدات، التي تحاول كبح وجوده ونفيه من خلال الصراعات والحروب والتغريب، ويصبح الإنسان في هذا الكوكب مجرد أداة للتهكم والاستغلال والظلم، وأداة لتحقيق غايات الآخر فجردت آدميته وكرامته ووجوده لصالح العولمة كعنصر وآلة من آلات الإنتاج والتكسب وخاضع للتجارة والبيع، وهنا يعود بنا التاريخ إلى زمن الرق والعبودية (هناك متخيل آخر للجسد أكثر انتشارا، يرى هشاشة البدن: وعدم قدرته على التحمل والنقص الذي يعتريه في الاستيعاب الحواسي للعالم والشيخوخة التدريجية لوظائف أعضائه، وعدم إمكان اشتغال مهاراته والموت دائم التهديد، هذا المتخيل التحقيري كله للجسد المتهم بالخطيئة الأصلية يدل على عدم التحكم في العالم ويدفع الفاعل إلى الإحساس بالحقد عليه لعدم قدرته على أن يصبح موضوعا، أو شيئا خالصا للإبداع ) .
إن رسومات معن علي التي تظهر الجسد الذكوري والأنثوي بشكل جلي وواضح بهزالته وضعفه، شكل تعبيري وشاخص على فضاء لوحاته بألوانها البنية التي تميل بين الداكنة والواضحة، دون الخوض في تفاصيل الجسد كحالة مثالية، كما يريدها أرسطو، لكنها ذات دلالات وسمات علاماتية توحي بهزالة الجسد وضعفه شكلا لا جوهرا، رغم الأنين الذي يضج في داخله بعد أن سلطت عليه قوى قاهرة أجبرته على أن يكون في غربة قاسية وتغريب عن الفعل الزمني والمكاني والفعل الحضاري والوجودي .

إن آلية اشتغال الفنان هنا يمكن أن نصفها بأنها جامعة بين فن البورتريه والفن التعبيري، وهي محاولة مزج نصية دلالية سيمائية لتعطي خطابها الفلسفي والجمالي والتجريدي .لقد استحضر سعيد المأساة بكل أشكالها كمواطن قبل أن يكون فنانا، ليصف ويحتج بكل تمرد وعري وتظاهر، لما آل إليه الواقع من تدميرية مقصودة للإنسان المعاصر، ومحاولة تجريده من فعله الوجودي أولا ومن ثم فعله الثقافي الإنساني، يشي الفنان هنا رغم تصوير ثيم شخوصه بأنها خضعت إلى فعل التدمير وهانت وخارت لديه قوى المقاومة ووهن جسده، لكنه ما زال رغم انتظاره للموت وحالة الصمت التي ألمت به، لم يتخل عن آلاته الموسيقية رغم ما تصدح به من نغمات وألحان معطوبة تبث الحزن والبكاء، التي تبدو هي الأخرى قد أصابها الضعف والوهن والانكسار والغربة .
وهنا يمكن القول إن حالات التعري على السطح التصويري، ليست بمعناها الفلسفي الطبيعيناتية، وإنما لها دلالات أخرى قد تلامس الزهد والتجلي الروحي وحالة الاندماج بين الظاهر والباطن للخلجات الوجدانية والفكرية في لحظة تاريخانية لها مبرراتها وأسبابها وفلسفتها. إنها لحظة كونية وسمو مخيالي تتعدى الواقع لترسم إشراقة وبعدا وتصورا نورانيا إلى حقيقة الوجود الإنساني بفيّضه وعنفوانه، وفق النسق المعرفي والحياتي له، ولطبيعة وجوده في هذا الكون وتشكله في عالم يسعى لتشكيل حاضره ومستقبله، وفق فهمه وتصوره وغاياته في هذا الوجود الكوكبي .

إن حالة التعري هنا للأشخاص بصفتهم كائنات بصرية وآلاتهم الموسيقية هي ليست الدعوة إلى الانكفاء والعودة للطبيعية والإذعان، بل هي مقاربة معنوية وقاهرة لقوى التدمير، وهي لحظة استذكار وتذكير للأثر الحضاري والجمالي والمنجز الثقافي والإنساني للشعب السوري في مختلف العصور التي أعطت للإنسانية جمعاء رسالتها الإنسانية والإبداعية والجمالية، وهي ليست دعوة من لدن الفنان إلى ثقافة الجسد الحر، كما تدعو لها الفلسفة الألمانية في وقت ما، بقدر ما هي لحظة احتجاج وتسليط الضوء على معاناة الإنسان الذي بات مهمشا ومسلوب الإرادة ومسلوبا من الفعل بوصفه أحد صناع هذا الخلق .
لوحات معن علي، بمثابة خطاب رفض وتمرد ومقاومة والتشبث بالحياة وحيويتها رغم وهن الجسد، وهي رسالة حب بين آدم وحواء للتعايش وصنع الفعل وتخليق طقوس جمالية وكرنفالية عنوانها، دعونا نعيش رغم البؤس والاستلاب، هي لحظات غناء ورقص تتسامى وتترفع على الجراح لتسمو وتحلق في فضاء الوطن والطبيعة ولتحيي النفس البشرية رغم الموت والدمار، شخوص معن علي حالمة غير مستسلمة، وطالما هي تحلم وتتخيل وتعزف الموسيقى إذن هي موجودة في زحمة هذا العالم المحتدم الذي يبنيه كل إنسان، وكل مجموعة وفق مرتكزاته ومرجعياته الثقافية والوجودية .
إن الأسلوب التعبيري الذي اتسمت به لوحاته وإبراز الآلات الموسيقية كظاهرة شاخصة ودالة على معظم سطوحه التصويرية والحركة التعبيرية للجسد وهو في لحظات راقصة ومنصهرة مع النغمات وظهور الجسد عاريا بمظهر نحيف وخائر، أو تشبث الشخوص بالآلة الموسيقية رغم ترنح الشخوص التي احتلت مساحات النور في رؤية ومنظور ثنائي وبلقطة زوم تستفز العين بإشراقتها وسطوع ألوانها وخطوطها والخلفية التي تكاد تكون معتمة باشتغال فني أقرب إلى الفن المسرحي والسينمائي، لتؤكد مشهدية المعنى ولتقرب البنية التصويرية إلى عين المشاهد، لتلامس فكره وقلبه لتثير وجدانه وتستفز مخيلته وفكره، فأراد القول هنا، إن جاع الجسد ووهن فإن الموسيقى هي غذاؤه ونشوته وسر وجوده، وإن البقاء هو للروح، لأنها مصدر حيويته وديمومته، وإن التعري هو مصدر قوة لأنها تمثل لحظة صفاء وتخل عن كل قيد لانطلاق الروح وإشعاعها .
ويمكن القول إن الصمت والانتظار والموت هي إيماءات وشارات فنية وأدواتية طفحت على السطوح البصرية في لوحات معن علي سعيد على النقيض منها تسمع صوت الموسيقى الصاخب الذي أحيا الجسد العليل وبث فيه روح اليقظة وترك أطرافه وجل جسده يرقص ويرتجف ويحلق ليصحو من كابوس الفواجع والمحن، ليستقبل نهارا مشرقا بعد كل تلك الكوابيس التي جسد علي السعيد بألوانه البيضاء والسماوية لتحل محل الألوان المعتمة، ليرسم أملا وفجرا جديدا لتتلاشى المآسي وتصحو نهارات صاخبة ومفعمة بالحياة، والتجدد كما تجدد الفصول ولتستمر الشمس بدورتها ليلحق بها قمر ويعلن عن عيد جديد .

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية