فيلم «النافذة الخلفية»: متعة خالدة من زمن السينما الذهبي

عندما يشاهد المرء فيلما أو يقرأ رواية، فإنه يستمتع في الدخول في الحياة الشخصية للآخرين لإرضاء فضوله، على الرغم من كون هذه التفاصيل خيالية غالبا. وللسبب نفسه ينتاب المرء الفضول حول حياة ومشاكل من يحيطون به، أو الشخصيات الشهيرة في مجتمعه.
يعالج فيلم «النافذة الخلفية» Rear Window (1954) هذه الظاهرة بشكل ممتع، ويعد هذا الفيلم من أكثر أفلام المخرج ألفريد هيتشكوك نجاحا بالنسبة للجمهور والنقاد، وما يزال رأي النقاد علامة خالدة من علامات السينما العالمية.. أدى الأدوار الرئيسية فيه النجمان جيمس ستيوارت وغرَيس كيلي.

أحداث الفيلم

تتمحور قصة الفيلم حول المصور الفوتوغرافي «جيف» Jeff (جيمس ستيوارت) الذي يصاب بكسر في ساقه أثناء تصويره لسباق سيارات. وتقعده هذه الإصابة لمدة سبعة أسابيع بسبب قالب الجبس على ساقه، حيث يبقى جالسا على كرسي متحرك بعجلات طوال الوقت.
يكاد «جيف» أن يصاب بالجنون لشعوره بالملل، فيراقب جيرانه من شباك شقته، حيث يواجه جميع شبابيك الشقق الساحة الداخلية للعمارة، وبسبب موجة الحر غير العادية، فقد ترك جميع السكان شبابيكهم مفتوحة، إذ لم يكن التكييف منتشرا آنذاك. ولم يزره خلال تلك الفترة سوى ممرضته العجوز «ستيلا» (ثيلما رتر) وعشيقته «ليزا» (غرَيس كيلي) الرائعة الجمال، التي تنتمي إلى إحدى العوائل الغنية، وتعمل مسؤولة في محل شهير للأزياء الراقية.
وتبدأ القصة مع بداية الأسبوع السابع، أي الأخير، إذ قضى «جيف» ستة أسابيع وهو يدرس تصرفات جيرانه، فهناك الراقصة الساكنة في الشقة المقابلة له، التي تتمرن شبه عارية وتستقبل الرجال فرادى ومجموعات، وهناك الزوجان العجوزان اللذان ينامان في الشرفة ومتعتهما كلبهما الذي تنزله المرأة بالسلة والحبل إلى الساحة وبعد أن يقوم بجولة يعود إلى السلة، وتقوم حينها برفعه لإعادته إلى الشقة. والملحن الذي يتمرن في شقته ولا يستطيع العثور على صديقة، على الرغم من كثرة الفتيات اللواتي يعرفهن، وكذلك الزوجان الشابان اللذان انتقلا الى شقتهما الجديدة، وما أن يفتح الزوج الشاب الشباك حتى تأمره زوجته بالعودة الى غرفة النوم، على الرغم من حاجته لبعض الراحة. ولفتت انتباه «جيف» المرأة الساكنة في شقة الطابق الأرضي، التي تعاني من وحدة قاتلة جعلتها تتصرف في المساء وكأنها تستقبل حبيبا حتى إنها تتكلم مع ذلك الحبيب غير الموجود. وهنالك البائع المتجول (ريموند بر) غير المؤدب والمتزوج من امرأة مريضة، وفي خلاف دائم حيث يبدو أن الزوج على علاقة بامرأة أخرى.
تزور الممرضة العجوز «جيف» حيث تولدت بينهما علاقة ودية قائمة على الاحترام، وتسأله لماذا لا يتزوج «ليزا» فيجيب أنه غير مستعد للزواج وأن «ليزا» مثالية أكثر من اللازم. وتأتي «ليزا» التي بدت رائعة الجمال والشخصية، فهي جميلة جدا وناجحة ومن عائلة مرموقة وتغرقه بحبها، إلا أن «جيف» قليل الأدب والرقة معها كالعادة مما يثير غضبها. وكان أهم نقطة خلاف بينهما أن «جيف» يحب التجوال في جميع أنحاء العالم بسبب عمله، بينما كانت «ليزا» تفضل الاستقرار في المدينة.

المجمع السكني والساحة الداخلية من نافذة شقة جيف

في إحدى الليالي يسمع «جيف» صرخة فتاة قائلة «لا تفعل ذلك» تبعه صوت زجاج ينكسر قبل أن تبدأ الأمطار بالهطول وصاحبها الرعد. ويلاحظ «جيف» أن الزوج غادر المجمع عدة مرات حاملا حقيبة، على الرغم من المطر الغزير. وفي اليوم التالي يلاحظ «جيف» أن الزوج ينظف سكينا كبيرة ومنشارا، ثم يأتي عمال نقل وأخذوا معهم صندوقا كبيرا، لكنه لا يلاحظ الزوج مغادرا شقته مع امرأة في ساعات الصباح المبكرة، لأنه كان يغط في نومه. ويقتنع «جيف» أن الزوج قد قتل زوجته وقطعها، ويخبر الممرضة و»ليزا» باستنتاجاته. وسرعان ما تصدقانه، بل إنهما تشتركان في المراقبة.
يتصل «جيف» بضابط شرطة كان زميلا له في الجيش مبلغا إياه بشكوكه. لكن الضابط لا يجد شيئا غريبا بعد تحريات بسيطة ويستنتج أن الزوجة ببساطة قد تركت زوجها ما يخيب آمال «جيف» لاسيما أنه اكتشف بعد مراقبة شقة الزوج بالنظارات المكبرة أن الزوجة لم تأخذ حقيبتها ومجوهراتها. ويحدث بعد ذلك شيء غريب، إذ قُتِلَ الكلب وأثار ذلك استياء صاحبته. لكن هذا زاد من شكوك «جيف» لأنه لاحظ سابقا إصرار الكلب على الحفر في مكان معين من الساحة. ويستنتج «جيف» أن الزوج قد قتل الكلب لأنه كان قد دفن شيئا مثيرا للاهتمام في ذلك المكان.
تتبرع الممرضة و»ليزا» بالحفر في ذلك المكان، لكنهما لم تعثرا على شيء ويتصل بصديقه ضابط الشرطة، الذي لم يكن موجودا فترك رسالة له. وهنا تقوم «ليزا» بالدخول في شقة الزوج أثناء غيابه وتفتشها، فإذا بالزوج يعود ويقبض عليها ويعنفها. ولإنقاذ الموقف يتصل «جيف» بالشرطة التي تأتي وتنقذ الموقف ويشرح الزوج لهم، أنه وجد لصة في المنزل. ويلاحظ الزوج أن «ليزا» وجدت خاتم زواج زوجته وأعطت إشارة في اتجاه شقة «جيف». وتأخذ الشرطة «ليزا» بتهمة السرقة. لكن الزوج يقرر إنهاء الأمر فيذهب إلى شقة «جيف» ويواجهه ويحدث عراك بينهما، حيث يحاول الزوج إلقاء «جيف» من النافذة. وفي هذه اللحظة يصل صديقه الضابط مع رجال الشرطة حيث يلقون القبض على الزوج القاتل، لكن ليس قبل أن يسقط «جيف» من النافذة ويكسر ساقه الأخرى. وفي نهاية المطاف يبقى «جيف» مع «ليزا» التي تقرأ كتابا عن السفر أمامه، وما أن تلاحظ أنه خلد الى النوم حتى تأخذ مجلة عن الأزياء. وينتهي الفيلم هنا.

تحليل الفيلم

كان الإخراج جيدا إلى درجة أن المشاهد لم يشعر بالتفاصيل غير المنطقية والرسائل الاجتماعية والخفية في الفيلم. وكان الانتقال من مشهد إلى آخر سلسا ما جعل القصة واضحة بالنسبة للمشاهد ودرجة استمتاعه بالفيلم عالية. وقد بدأ الفيلم بمشهد عرض المجمع السكني بأكمله مع الساحة الداخلية ولقطات تبين ما يحدث في كل شقة. ويمثل هذا خير مقدمة لتوضيح الأحداث. وكانت جميع المشاهد تبين ما يشاهده «جيف» من خلال نافذته، وسهل هذا من معرفة أفكاره كما زاد من سرعة تطور الأحداث.
كان الإخراج واقعيا وقد يظن المشاهد أن المجمع السكني الذي ظهر في الفيلم حقيقيا. وقام هواة السينما بزيارة العنوان الذي ذكر في الفيلم دون العثور على ذلك المجمع. والسبب هو أن المجمع في الفيلم لم يكن بناية حقيقية، بل كان بناء مؤقتا مكونا من واحد وثلاثين شقة بني داخل ستوديو شركة بارامونت المسقف بناء على تصميم مجمع سكني حقيقي في نيويورك. وتم تأثيث اثنتي عشرة شقة. على الرغم من عدم ملاحظة المشاهدين، فقد كانت هنالك أخطاء واضحة لكن نادرة في الفيلم بالنسبة للإخراج، وهي مشهد ملاحظة السكان العراك بين «جيف» والزوج، حيث كان مُسَرّعاً بشكل واضح، وكون باب شقة «جيف» غير مغلق طوال الفيلم ما يسمح للجميع بدخولها، والدعاية الواضحة والمفتعلة بوضوح لمجلة شهيرة. يبدو الفيلم وكأنه مسرحية بسبب وقوع الأحداث في مكان صغير. وتعد هذه المرة الثالثة للمخرج في أخراج فيلم من هذا النوع، إذ أخرج فيلم «قارب النجاة» (1944) و»حبل» (1948) بالطريقة نفسها. وقد تحولت قصة الفيلم الى مسرحية في ما بعد. وأشهر من مثل دور «جيف» على خشبة المسرح الممثل الأمريكي الشهير كيفن بيكن، لكن الفيلم كان أفضل بكثير من المسرحية من جميع النواحي.
كانت الموسيقى، التي تنوعت من موسيقى الجاز وألحان أغاني دين مارتن ونات كنغ كول، وكأنها صادرة من الملحن وهو يعزف البيانو في شقته، أما موسيقى المقدمة، فكانت من الجاز. ومن الممكن اعتبار هذا غريبا بعض الشيء، لأن موسيقى الجاز كانت مقرونة في تلك الفترة بأفلام العصابات الإجرامية والنشاطات اللاأخلاقية في تلك الفترة، ولا ينطبق هذا على الفيلم الذي كان مرتكب الجريمة الوحيدة فيه شخصا دون خلفية إجرامية. ومع ذلك كانت الموسيقى مسلية جدا، إذ كانت مأخوذة من أشهر أغاني تلك الفترة.

تصوير أحد مشاهد الفيلم

كان أداء الممثلين ممتازا، لكن جيمس ستيوارت في تمثيله كان يبدو وكأنه يتصرف كشخص قبيح الشكل وكبير في السن وعديم المجاملة، وكان شعره المستعار واضحا، وفي الحقيقة أنه كان في السادسة والأربعين من عمره بينما كانت غرَيس كيلي في الخامسة والعشرين، وبدت امرأة مثالية، بل مزيجا من الملاك وعارضة الأزياء، يضاف إلى ذلك رقة نادرة. ومن الواضح أن كل هذا كان مقصودا من قبل المخرج، لكنه غير واقعي لأنه من الصعوبة أن تقع فتاة مثلها في حب رجل مثله. ولا نعلم سبب اختيار جيمس ستيوارت لهذا الدور، فقد كان هنالك عدة ممثلين آنذاك أكثر ملاءمة للدور. ولا نعلم لماذا أراد المخرج أن يتصرف الممثل بهذه الطريقة. هل كان المخرج يحاول إقناع الرجال القبيحين وغير اللطفاء بأنهم يستطيعون إقناع أجمل الفتيات؟ لكن ما هو كذلك سبب وجود غرَيس كيلي في الفيلم أصلا؟ فلم تكن تقدم أي شيء لمسار الأحداث، وحتى الدخول في شقة الزوج، إذ كانت الممرضة قادرة على ذلك، وقد يكون السبب هو إضافة فتاة جميلة جدا لتجميل الفيلم وقصة حب لجعل حياة «جيف» تبدو أكثر لطافة للمشاهد، لاسيما أن أظهار بطل الفيلم رجلا يعيش بمفرده يعطي مظهرا بائسا، كما أن الرومانسية تزيد من إعجاب المشاهد بالفيلم.
يبين الفيلم مشاكل حقيقية في المجتمع مثل، المعاناة من الوحدة وعدم الإنجاب وعدم العثور على زوج أو زوجة. ونجد أن كل هذه المشاكل تختفي في النهاية، فالمرأة التي تعاني من وحدة وانهيار عاطفي تكاد أن تصيبها بالجنون تتعرف على الملحن الذي كان عاجزا عن العثور على فتاة. وأما المرأة التي يُقتَل كلبها، فإنها تحصل على كلب ثانٍ. وبالنسبة للفتاة الراقصة، يعود حبيبها وهو جندي، حيث كان كل الرجال الذين تستقبلهم في مسكنها لإضاعة الوقت فقط! وبذلك يبين المخرج أن المستقبل أفضل دائما مهما كانت شدة المشاكل، أي أن الفيلم ينقل رسالة لطمأنة الجمهور حول مستقبلهم.
من المشاهد الغريبة في الفيلم زيارة صديق «جيف» الذي كان ضابطا في الشرطة عندما يرى الراقصة وهي تتمرن شبه عارية في الشقة المقابلة، إذ تسحره بجمالها وحركاتها. وإذا بـ»جيف» ينزعج من تصرف صديقه فيذكره أنه متزوج، ما يربك صديقه الضابط. لكن لماذا انزعج «جيف»؟ لا يمكن لأن صديقه يتلصص على الفتاة الجميلة لأنه، أي «جيف» قد سبقه في هذا، ولذلك، فإن السبب الحقيقي هو أن «جيف» اعتبر مراقبة الفتاة من حقه هو فقط، أي أن صديقه الضابط يعتدي على حقوقه وممتلكاته. والمضحك في الأمر أنه على الرغم من أهمية دور تلك الفتاة الراقصة وأدائها الممتاز، فقد كان أجرها ثلاثمئة وخمسين دولارا فحسب.
نجد جانبا سيئا من شخصية «جيف» وهي السادية، فعندما يراقب المرأة المسكينة التي تتخيل نفسها مع حبيب في شقتها وتتكلم معه، نجده يبتسم. ويعيد الممثل الكرة عندما يشاهد الملحن الذي كان يعاني من مشكلة مشابهة.
هل هنالك من يقوم بالتجسس بشكل خفي على جيرانه ومن يعمل حوله؟ على ما يبدو أن هذا ليس بالظاهرة النادرة، فحسب إحصائية قامت بها جامعة ميشيغان الأمريكية، يتمنى اثنين وسبعين في المئة من الذين تم سؤالهم أن يتجسسوا على الآخرين. ومن المعروف البعض يشتري منظارا للتلصص على جيرانه. ونجد في المسلسل الشهير «فريزر» Frasier الشخصية الرئيسية يستعمل منظارا متطورا لمشاهدة ما يفعله السكان في العمارات المجاورة على الرغم من كون ذلك ممنوعا قانونيا. ويقدم علماء النفس عدة أسباب لهذه الظاهرة.
لا يمكن التقليل من متعة مشاهدة فيلم «النافذة الخلفية» واعتباره فيلماً على كل هاو للسينما مشاهدته. وكان قد أعيد عرضه في دور العرض عام 1983 وأعده الكثير من النقاد آنذاك أفضل فيلم لذلك العام، على الرغم من كونه فيلما قديماً.

مؤرخ وباحث من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية