جدل حول كتب السير الذاتية

تمثل كتب السير الذاتية (يسميها البعض مذكرات) جزء مهما من دراسة أي مجال في التاريخ في العالم الغربي، إذ نجد السير الذاتية لكبار المشاهير مهما كان سبب شهرتهم على رفوف المكتبات دائما. وكمثال على أهمية هذا النوع من الكتب، في عام 2023 فقط نشر حوالي 400 شخص من المشاهير قصة حياته في بريطانيا.

أنواع السير الذاتية

تنقسم هذه السير الذاتية إلى نوعين، الأول يكتبه باحث عن شخص شهير، أما الثاني فيكتبه الشخص الشهير بنفسه. وهناك فرق بين الحالتين، فعندما يكتب شخص ما عن حياته، فإنه يعتمد إلى حد كبير على ذاكرته ويتكلم عن الأحداث كشاهد. أما السيرة التي يكتبها باحث عن شخصية ما، فإنها تعتمد على السجلات والكتب والمقابلات مع من يعرف عن تلك الشخصية. واحتمال الخطأ والانحياز موجود في الحالتين، حيث إن الكاتب نفسه ستكون له أفكاره ومشاعره ومصالحه التي ستؤثر على اتجاه ما يكتبه، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن اعتماد الشخص الشهير على ذاكرته، قد لا يكون شيئا موثوقا به، لأن الذاكرة قد لا تكون دقيقة بعد مضي سنوات كثيرة على وقوع الأحداث.
ما هو جدير بالذكر أن السيرة الذاتية لشخص شهير، التي ينشرها ذلك الشخص بنفسه قد لا تكون من تأليفه، بل يكلف كاتبا محترفا بكتابتها. والأمثلة كثيرة، فعندما نشر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب» سيرته الذاتية، لم تكن في الحقيقة من كتابته، بل كلف كاتبا محترفا اتبعه في جميع نشاطاته لفترة من الزمن، وكتب السيرة على أساس ذلك. أما عارضة الأزياء الشهيرة نعومي كامبل، فقد اعترفت بأنها لم تقرأ سيرتها الذاتية التي نشرتها بنفسها لأنها في الحقيقة لم تكتبها هي، بل قام كاتب محترف بكتابتها بالنيابة عنها.. وأقر المغني البريطاني الشهير كليف ريتشارد، بأن سيرته الذاتية التي نشرها ونالت نجاحا جماهيريا كانت في الحقيقة من كتابة أحد الكتاب المحترفين.
في جميع الأحوال، فإن أي سيرة حياة تتكون عادة من ثلاثة أجزاء وهي تاريخ ومكان الميلاد، وتفاصيل عن الطفولة والحياة الخاصة، وأخيرا تفاصيل عن أحداث مهمة أثرت بعمق على حياة الكاتب، وربما محيطه الاجتماعي أو المهني.
أسباب نشر السير الذاتية
ينشر المشاهير في الغرب قصص حياتهم لعدة أسباب:
إنها طريقتهم لطرح وجهة نظرهم حول أحداث مهمة كانت لهم علاقة بها.
للدعاية لمؤلفي هذه السير، ما قد يساهم في تطورهم مهنيا واجتماعيا.
هنالك إعجاب غريب بالمشاهير في العالم الغربي.
تتحول بعض هذه الكتب أحيانا إلى أكثر الكتب مبيعا، ما يجعلها مصدرا ماليا لمؤلفيها.
إرضاء لشعور المؤلفين بالنرجسية وإثبات أنهم ليسوا أقل من زملائهم في المهنة، الذين سبق أن نشروا سير حياتهم. وإظهار أنهم كتاب مثقفون.
دخول المؤلفين في مهنة جديدة، ألا وهي تأليف الكتب.
تعرضت كل سيرة ذاتية تقريبا إلى انتقادات واتهامات مختلفة، على الرغم من نيل بعضها شهرة واسعة ونجاحا تجاريا كبيرا، بل إن كتابا أصبحوا شهيرين بسبب مذكراتهم فحسب.

من تاريخ نشر السير الذاتية

كان أول فنان يكتب عن سيرة حياته، ويحقق مبيعات ضخمة الممثل الكوميدي الأسكتلندي بيلي كونولي عام 2001، حيث باع أكثر من مليون نسخة. وكان هذا الكتاب في الحقيقة قد كتب من قبل زوجته الممثلة والكاتبة باميلا ستيفنسن. ولا غرابة في هذا، فأغلب المشاهير يكلفون كتابا محترفين لكتابة هذه الكتب، لافتقارهم إلى مهارة الكتابة وعدم امتلاكهم الوقت الكافي للكتابة. وكمثال على شعبية هذا النوع من الكتب، عندما أعلنت المغنية الأمريكية الشهيرة باربرا سترايساند أنها ستنشر كتابا عن حياتها، ولم يكن الأول، أصبح عدد الذين حجزوا نسخة منه كبيرا، إلى درجة أن الكتاب أصبح الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل نشره بتسعة أشهر. أما الأمير البريطاني هاري، فيقال إنه كي ينشر كتابا عن حياته استلم مقدما من الناشر بلغ عشرين مليون دولار أمريكي. ومع ذلك، إذا توقع البعض أن أيا من هذه الكتب سيكشف سرا خطيرا، وعدد هؤلاء المخدوعين كبير جدا، فهوعلى خطأ لأنها في الواقع لا تختلف عن الأفلام السينمائية ونشرات الأخبار التلفزيونية، سواء أكان ما يذكره المؤلف حقيقة أم كذبا، فمثلا كتب الممثل ماثيو بيري، كتابا حقق مبيعات هائلة عن إدمانه على المخدرات، وكيف استطاع التغلب على هذه المشكلة وترك المخدرات إلى الأبد، لكنه توفي بسبب المخدرات بعد النشر بفترة قصيرة، ما يدل على كذب ما كتبه، إذ كان الكاتب يحاول ترويج كتابه بشتى الطرق.

الاحتيال في السير الذاتية

لم يخلُ تاريخ كتابة السير الذاتية من الفضائح. وقد يكون أول مثال شهير لهذه الفضائح الكاتب الأمريكي أليكس هيلي، الذي نشر رواية بعنوان «جذور: قصة عائلة أمريكية» عام 1976 مدعيا أنها عن تاريخ عائلته منذ اختطاف أحد أجداده من غامبيا في افريقيا، وبيعه كعبد في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان نجاح الرواية هائلا، إلى درجة أن الرواية بقيت الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة الأمريكية لستة وأربعين أسبوعا. وأُنتِجَ مسلسل تلفزيوني مقتبس من الرواية، ونال نجاحا منقطع النظير. لكن سرعان ما لاحظ المؤرخون الكثير من الأخطاء، كما رفع بعض الكتاب قضايا على المؤلف متهمين إياه بالسرقة من أعمالهم الأدبية. ولتعليل كل هذا دافع الكاتب أليكس هيلي عن نفسه، وغير ما سبق وذكره مدعيا ان روايته كانت Faction أي كانت خليطا من الخيال والواقع، إلا أنه قدم تعويضا ماليا إلى أحد الذين اتهموه بالسرقة منهم. وهنالك الكاتب الأمريكي جيمس فرَي، الذي نشر كتابا بعنوان «مليون قطعة صغيرة» مدعيا أنها قصة حياته ومعاناته من الإدمان على المخدرات والكحول. وظهر الكاتب في برنامج «أوبرا» التلفزيوني الشهير عام 2005 ما عزز من مكانة الكتاب لدى الجمهور الأمريكي، حتى أصبح هذا الكتاب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة الأمريكية لخمسة عشر أسبوعا. لكن الخبراء اكتشفوا عام 2006 أن الكتاب ليس سوى مجموعة من الأكاذيب، فتحول الكتاب إلى أشهر فضيحة أدبية في تلك السنة ما جعل الكاتب يتراجع عن الادعاء أنه عن قصة حياته، والادعاء عوضا عن ذلك، أنه رواية خيالية تتخللها بعض «الحقائق التاريخية». وعلى الرغم من كل ذلك واكتشاف حقيقة الكاتب، فإنه قام بنشر كتاب آخر عام 2008 وأصبح من الكتب الأكثر مبيعا أيضا، ما يبين أن الفضيحة لا تؤثر دائما على المبيعات وسمعة الكاتب. وإذا لم يكن هذا سيئا بما فيه الكفاية، فهناك ما هو أسوأ حيث قامت الأمريكية مارغرت زيلتزر عام 2008 بنشر ما ادعت أنه قصة حياتها بعنوان «حب ونتائج» حيث ذكرت أنها من أصول هندية حمراء وأوروبية مختلطة، وعانت من كونها متبناة ثم انضمت إلى عصابات ذوي الأصول الأفريقية. واشتهر الكتاب بسبب المآسي المذكورة فيه وظهرت الكاتبة في مقابلات وهي تتحدث الإنكليزية بطريقة عصابات الافارقة في الولايات المتحدة، وقامت أشهر جريدة في الولايات المتحدة بنشر مقال مطول عنها وعن كتابها. لكن شقيقتها قرأت ما كتبته تلك الجريدة، فاتصلت بوسائل الإعلام لتبلغهم أن كل ما ذكر في الكتاب كان أكذوبة، فالكاتبة من أصول أوروبية تماما وتسكن في منزل والديها الأصليين، كما أنها كانت طالبة في مدرسة غير حكومية، أي باهظة التكاليف. وسبّب هذا فضيحة مدوية أدت في نهاية المطاف إلى قيام دار النشر بسحب الكتاب من الأسواق وعرض تعويض لكل من اشتراه. والغريب في الأمر أن الكاتبة لم تعتذر، بل ادعت أنها كانت دائما تعتبر نفسها هندية حمراء. لكن التزوير الأشهر حدث عام 1970 حيث اتفق الكاتب الأمريكي «كلفرد أرفنغ مع زوجته وشخصين آخرين على كتابة وبيع نسخة خيالية الملياردير هوارد هيوز، أغنى أغنياء العالم آنذاك، مستغلا انعزال ذلك الملياردير عن الحياة العامة والإعلام تماما. واتصل هذا الكاتب بدار نشر شهير مدعيا أن الملياردير المختفي قد طلب منه شخصيا كتابة قصة حياته وعرض رسائل مزورة مدعيا أنها من الملياردير، حيث كان أحد شركاء الكاتب مزورا كبيرا. وانطلت الحيلة على دار النشر والخبراء في التاريخ والخط، الذين اعتمد الدار عليهم في دراسة الأدلة والرسائل التي قدمها الكاتب، ولذلك استلم الكاتب مبلغ سبعمئة وخمسة وستين ألف دولار (وهو مبلغ كبير آنذاك) من دار النشر كدفعة مقدمة وضعتها زوجته في حساب مصرف سويسري، وكان الكاتب قد اعتمد على فرضية عدم إمكانية الملياردير المنعزل على معرفة أي شيء عن هذا الاحتيال والسيرة الذاتية الخيالية، لكنه كان مخطئا، حيث أبلغ موظفو الملياردير رئيسهم بأمر الكتاب المزعوم، ما أثار غضبه، فرفع قضية ضد دار النشر عام 1972 وكسبها. وكانت النتيجة قضاء الكاتب سبعة عشر شهرا في السجن، كما سجنت زوجته في الولايات المتحدة وسويسرا، وإعادة الدفعة المقدمة إلى دار النشر، لكن الأمر لم ينتهِ هنا، إذ قام الكاتب المدان بعد خروجه من السجن بكتابة قصة عملية الاحتيال في كتاب بعنوان «خدعة» Hoax. وعرض عام 2006 فيلم «خدعة» المأخوذ من الكتاب الثاني، وكان من تمثيل ريتشارد جير.

العالم العربي

ماذا عن العالم العربي؟ لا يخلو العالم العربي من المشاهير الذين كتبوا سيرهم الذاتية، على الرغم من كون عددهم بالغ الصغر. وتتعرض هذه السير الذاتية إلى انتقادات تشابه تلك في العالم الغربي، حتى إن هنالك شكوكا واضحة حول بعض السير الذاتية، أو المذكرات، لاسيما التي نشرت بعد وفاة الشخصيات التي من المفروض قد كتبتها، حيث اتُّهِمَ الناشرون بأن تلك الشخصيات لم تكتب سير ذاتية أصلا، وأن ما كتب كان عن طريق كتاب محترفين كُلِّفوا بكتابتها من قبل عوائل تلك الشخصيات. وبالنسبة للعراق قد تكون أفضل السير الذاتية كتاب «مذكراتي» للسياسي الشهير توفيق السويدي، وكتاب «ذكريات بغدادية» للسياسي والكاتب موسى الشابندر، حيث كشفتا الكثير من الحقائق التاريخية التي يجهلها الكثيرون، لاسيما مذكرات توفيق السويدي.

باحث ومؤرخ من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية