فيلم «فرتيغو» لالفريد هيتشكوك: صراع الإنسان مع كوابيسه

لم يكن المخرج الفريد هيتشكوك يتوقع أن يعد النقاد الحاليين فيلمه «فرتيغو» Vertigo أحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق بعد أن كان أقل أفلامه نجاحا عندما عرض عام 1958 بالنسبة للجمهور والنقاد. ولا يثير هذا التطور أسئلة مهمة عن الفيلم فحسب، بل عن تطور مفاهيم النقاد عبر السنين كذلك. وفي نهاية المطاف تحول الفيلم إلى أهم أعمال كبار ممثليه مثل جيمس ستيوارت وكيم نوفاك.

أحداث الفيلم

بعد مطاردة لأحد المجرمين انتهت بحادث أدى إلى مقتل أحد رجال الشرطة وإصابة الضابط «جون سكوتي فرجسن» (جيمس ستيوارت) بمرض الخوف من الأماكن المرتفعة، استقال «سكوتي» من عمله في الشرطة، إذ بدأ يشعر بالدوار (فرتيغو) كلما وجد نفسه في مكان مرتفع. لكن ذلك خلق لديه شعورا بالوحدة والفراغ، فأخذ يزور صديقته القديمة «ميج» (باربرة بيل غديس) التي كانت خطيبته في الجامعة لعدة أسابيع قبل أن تفسخ الخطوبة، لكنها ما تزال مغرمة به، إذ تحاول دائما التقرب منه. يتلقى «سكوتي» اتصالا من «غافن» أحد زملائه القدماء في الجامعة، الذي أصبح أحد كبار رجال الأعمال بعد زواجه من وريثة شركة كبرى لصناعة السفن. يطلب «غافن» منه مراقبة زوجته «مادلين»(كيم نوفاك) بسبب تغييرات تطرأ على شخصيتها أحيانا. يبرر «غافن» ذلك لتأثرها بمأساة جدة لها من القرن التاسع عشر، على الرغم من تأكيده أن زوجته لا تعرف شيئا عن تلك الجدة.
يتبع «جون» «مادلين» ويكتشف أنها تزور قبر امرأة اسمها إسباني، عاشت في القرن التاسع عشر، وكذلك تزور متحفا للفنون وتجلس أمام لوحة لامرأة بالاسم الإسباني نفسه، من القرن التاسع عشر ذات تسريحة شعر مشابهة للزوجة ومرتدية عقدا مميزا من الحلي. وتكشف تحقيقات «جون» أن تلك المرأة كان أحد أغنياء سان فرانسيسكو قد أقام علاقة معها. لكنه طردها بعد أن أنجبت له طفلا احتفظ به. وكانت نهاية الشابة الجنون، ثم الانتحار وهي في السادسة والعشرين من عمرها.
يستمر «سكوتي» في متابعته حتى تصل «مادلين» خليج سان فرانسيسكو، حيث ترمي بنفسها فيه، إلا أن «سكوتي» ينقذها ويأخذها إلى منزله، ليجفف ملابسها ويطمئن عليها ثم تعود إلى منزلها. وفي اليوم التالي تزوره «مادلين» كي تشكره على ما فعل، ويقضيان اليوم في زيارة لغابات سان فرانسيسكو ويحدث استلطاف بينهما ويتعانقان. ثم يلتقي الاثنان في اليوم التالي حيث تصف «مادلين» له حلما يراودها دائما عن دَير وتصفه بدقة. ويخبرها «سكوتي» أنها تصف دَيرا قريبا من المدينة، ويذهبان إليه ويقومان بجولة فيه. وما أن تشاهد «مادلين» برج الدَير حتى تركض في اتجاهه بشكل جنوني وتصعد إلى الأعلى ويحاول سكوتي اللحاق بها ألا أنه يفشل بسبب خوفه من الأماكن المرتفعة. وبعد لحظات يسمع صرخة، ويرى امرأة تسقط من أعلى البرج.
يقرر التحقيق أن وفاة «مادلين» كانت نتيجة انتحار. لكن المحقق يحمّل «سكوتي» المسؤولية الأخلاقية لوفاتها لعدم محاولته إنقاذها. يحاول زوجها «غافن» التخفيف من وطأة الموقف عليه، مؤكدا له أنه لم يقم بأي خطأ، ويبلغه أنه قرر مغادرة الولايات المتحدة الأمريكية متوجها إلى أوروبا. يصاب «سكوتي» بالكآبة الشديدة وتتدهور حالته، ما يضطره لقضاء فترة في مستشفى للأمراض العقلية، ولم يبقَ معه في أزمته سوى «ميج» خطيبته السابقة. وعندما يخرج أخيرا من المستشفى يزور الأماكن التي زارها مع «مادلين» وتسيطر على ذهنه الذكريات وكأنها ما تزال على قيد الحياة، حتى تقع أنظاره في أحد الأيام على فتاة تشبهها في أحد شوارع سان فرانسيسكو. ويعود النشاط إلى شخصيته، وينجح في التكلم معها، حيث تبلغه أنها «جودي» وتعمل موظفة بسيطة في أحد المتاجر الكبيرة في المدينة، وتتطور علاقتهما بسرعة.
تجلس «جودي» في غرفتها الصغيرة والقلق يعذبها، إذ أنها تتذكر لحظة صعودها إلى أعلى ذلك البرج وفشل «سكوتي» في اللحاق بها. وما أن وصلت إلى أعلاه حتى وجدت «غافن» يقذف بزوجته لتهوى وتلقى حتفها. وصرخت «جودي» عندما شاهدت ذلك إلا أن «غافن» أمسك بها وأجبرها على الصمت. وتكتب «جودي» اعترافا كاملا وتضعه في غرفتها وتفكر بإبلاغ «سكوتي» لأنها تحبه بالفعل. تزداد علاقة «سكوتي» بـ»جودي» قوة، لكنه ما يزال مغرما بـ»مادلين» فيحاول إجبارها على تقليد «مادلين» في ملبسها وتسريحتها ما يثير غضبها، لكنها ترضخ لرغباته. ويلاحظ «سكوتي» أنها ارتدت في أحد لقاءاتهما عقدا كانت جدة «مادلين» المزعومة قد ارتدته في اللوحة المعروضة في المتحف. ويجعله هذا يستنتج ما حدث والمكيدة التي دبرت ضد زوجة «غافن» الحقيقية وضده. ولذلك يجبرها على اصطحابه إلى ذلك الدَير والصعود معه إلى أعلى البرج مكتشفا أن خوفه من الأماكن المرتفعة قد انتهى. وعندما يصلان إلى أعلى البرج يتهمها «سكوتي» بأنها كانت عشيقة «غافن». وأنه طردها بعد أن اشتركت معه في مكيدة قتل زوجته، لكنها تبلغه أنها لم تكن تعرف بخطة «غافن» لقتل زوجته، وأنها اشتركت في المكيدة مقابل أجر مالي وأهداها ذلك العقد، وتتوسل إليه أن يسامحها لأنها تحبه. ويعانقها «سكوتي» ألا انها تلاحظ ظل شخص قادم، فترتعب وتحاول الهرب، لكنها تسقط من أعلى البرج لتلقى حتفها. ولم يكن ذلك الظل سوى إحدى الراهبات التي أتت لسماعها ضجة من أعلى البرج. وينتهي الفيلم هنا.

تحليل الفيلم

اعتمد الفيلم على فكرة الهَوَس الذي يصيب أحد أبطال الفيلم الثلاثة. ويشترك الثلاثة في معاناتهم الشديدة من وحدة بائسة ومحاولاتهم العقيمة للعثور على الحب، وربما أي نوع من الاتصال الاجتماعي المقرب. ونرى ضابط الشرطة «سكوتي» يتحول إلى شخص وحيد بعد استقالته من عمله، ولا يجد ملاذا سوى خطيبته السابقة «ميج» ثم يصاب بالهوس بامرأة أخرى كان يراقبها حتى بعد وفاتها. والخطيبة السابقة تلاحقه وتعتني به، على الرغم من أنه يبين لها استحالة حبه لها، ما يسبب لها عذابا إضافيا، لاسيما أنها تراقبه وهو يقوي علاقته بالمرأة التي كان يراقبها، وهي الفنانة الناجحة في حياتها العملية. أما «جودي» فهي فتاة شابة عديمة التعليم تسكن بمفردها في مكان بسيط وتعمل في مهنة متواضعة جدا، ويجعلها حظها العاثر تغرم بشخص لا مستقبل لها معه لأنها تعرفت عليه أثناء خداعها له.

يركز الفيلم على أزمة الهوس في الطب النفسي إلى درجة أنه كان من الأجدر أن يكون عنوان الفيلم «هوس». والهَوَس مشكلة نفسية حقيقية يعللها العلماء على أساس أنها محاولة المريض النفسي الهروب من وحدته وواقعه المؤلم. ويجد القارئ تشابها واضحا بين هذا الفيلم وفيلم «هَوَس» Obsession الذي عرض عام 1976 وأخرجه المخرج براين دي بالما. لا يحتاج المشاهد أن يكون ناقدا كي يلاحظ أن الفيلم بطيء في تطور أحداثه وطويل أكثر من اللازم، وأن القصة مليئة بالهفوات الواضحة، لكن المخرج الفريد هيتشكوك يستحق الثناء لنجاحه في تحويل قصة غير معقولة إلى فيلم يجعل المتفرج يظن أنه عن قصة منطقية. لكن ما يعيب الفيلم كذلك محاولة المخرج الدعاية لمدينة سان فرانسيسكو، بشكل مبالغ به وعلى حساب الفيلم. وتذكر المصادر أنه كان معجبا بالمدينة وأطلق عليها اسم «باريس الولايات المتحدة الأمريكية». وإذا كانت باريس المعيار، فكان عليه تصوير المشاهد في العاصمة الفرنسية لأنها أجمل من سان فرانسيسكو، لاسيما أن قصة الفيلم مأخوذة من رواية بوليسية فرنسية تدور أحداثها في العاصمة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية ونشرت عام 1954. والرواية الفرنسية بدورها مأخوذة من رواية بلجيكية نشرت عام 1892.
قد تكون أكبر نقاط ضعف الفيلم كشف المكيدة بعد انقضاء ثلثي الفيلم، بينما كان من الأفضل كشفها في آخر مشهد في الفيلم لزيادة الإثارة، كما حدث في الرواية الفرنسية الأصلية. وحدث خلاف بين المخرج ومدير شركة بارامونت التي انتجت الفيلم حول ذلك، فبعد الانتهاء من الفيلم قرر المخرج إلغاء مشهد كشف المكيدة المبكر وتصوير مشهد إضافي في آخر الفيلم، عوضا عن ذلك إلا أن مدير الشركة رفض ذلك بشدة وكان له ما أراد. من نقاط الضعف الأخرى، شخصية ضابط الشرطة التي أداها جيمس ستيوارت، فقد كان واضحا أن مستوى معيشته أعلى من مستوى ضابط شرطة سابق، وأن الممثل غير مناسب مهما حاول لتحسين طريقة تقديمه للشخصية، فمن الواضح أن الدور لممثل أصغر سنا وذي جاذبية رومانسية قادرة على جذب امرأة في فيلم سينمائي. ويقود هذا إلى التساؤل عن أسباب اختيار جيمس ستيوارت لهذا الدور. تقول ابنة المخرج أن الاختيار وقع عليه بسبب مظهره العادي جدا. لكن الأمر ربما كان أكثر من ذلك، إذ من غير المعقول أن يكون ضابط الشرطة سكوتي خطيب «ميج» في الجامعة وفارق السن واضح بينهما، إذ كان فارق السن الحقيقي بين الممثلين أربعة عشر عاما. وإذا تمعنا في الفيلم، فسنلاحظ تشابها غريبا بينه وبين فيلم «النافذة الخلفية» والاثنان من إخراج هيتشكوك وبطولة جيمس ستيوارت. وفي الحالتين تقع فتاة حسناء في غرام البطل، على الرغم من كونها أصغر منه بكثير. كيم نوفاك وباربرة بيل غديس في الفيلم الأول، وغريس كيلي في الثاني. وفي كلا الفيلمين أيضا يعامل جيمس ستيوارت الفتاة الحسناء المغرمة به بجفاء مهين. أما هي، فتبقى مخلصة له وتكرس كل وقتها لخدمته. لكن لماذا جعل المخرج جيمس ستيوارت يتمتع بكل هذا؟ قد يكون السبب أن هيتشكوك» اختاره ليمثل دوره هو، إذ عرف هيتشكوك بدمامته وشدته مع الممثلات في العمل وافتتانه بهن.
كانت مشكلة اختيار الممثلة لتمثيل دور الزوجة واضحة، فقد كان الدور للممثلة غريس كيلي التي مثلت له ثلاثة أفلام شهيرة، إلا انها تزوجت أمير موناكو في عام 1956 ومنعها زوجها من التمثيل منعا باتا، فاتصل المخرج بالممثلة فيرا مايلز التي أبدت قبولا مبدئيا. لكن مرض المخرج أخر التصوير وقضى على فرصة مايلز في هذا الفيلم. ولذلك اتفق المخرج في نهاية المطاف مع كيم نوفاك التي لم تكن مثالية في تمثيل دور الزوجة التي ظهرت وكأنها امرأة بالغة الحساسية يراها «سكوتي في حلم، لكنها كانت ماهرة في تمثيل دور الفتاة البسيطة بعد ذلك.

نجاح الفيلم

لم يكن الفيلم ناجحا في أوساط النقاد أو المشاهدين، ما أثار حفيظة المخرج الذي رفض تحمل مسؤولية الفشل وألقى اللوم على جيمس ستيوارت بحجة أنه ظهر كبيرا في السن مع كيم نوفاك، ما جعل المشاهدين يجدون الاثنين غير منسجمين. وتناسى هيتشكوك أنه هو من اختار جيمس ستيوارت أصلا، وأن الممثل ليس فقط كبيرا في السن، بل ربما كان يبدو أكبر من سنه الحقيقي. ولذلك كان هذا الفيلم آخر عمل مشترك بين الاثنين منهيان بذلك تعاونا أثمر عن إنتاج بعض أشهر الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية. واستعان المخرج بالممثل كاري غرانت في فيلمه التالي «الشمال الشمال غرب» North By North West الذي عرض عام 1959، على الرغم من أن جيمس ستيوارت كافح للاشتراك في ذلك الفيلم الذي حقق نجاحا كبيرا.
أما بالنسبة لكيم نوفاك، فقد كان ذلك الفيلم العمل الوحيد لها مع المخرج الشهير الذي لم يخفِ حقده عليها، حتى إنه وصفها بـ»القذرة» في مقابلة له، رغم أنها سبق وأن وصفته بالرجل المحترم، إلا أنها ذكرت كذلك أن العمل معه كان غريبا.
تحسن موقف النقاد تدريجيا تجاه الفيلم حتى أخذوا يعتبرونه أحد أفضل الأفلام الأمريكية على الإطلاق. لكن لماذا هذا التغير؟ لم يتغير الفيلم، لكن المجتمع الغربي هو الذي تغير خلال هذه الفترة. ولم يستطع المؤرخون وعلماء النفس تحديد ماهية وسبب هذا التغيير. وقد يكون السبب كون الأبطال الثلاثة في الفيلم يعيشون حياة مأساوية ووحيدة وتميزت بالفشل في العثور على الحب، فالفترة الطويلة التي قضاها الفيلم في تحسنه في نظر النقاد تصاحبت مع زيادة الوحدة وصعوبة العثور على شريك حياة في المجتمع الغربي. وربما أنه تناول قصة رجل ذي مشكلة نفسية، وأن الجمهور أصبح أكثر إعجابا بهذا النوع من الأفلام. وربما يكون السبب كون المخرج كان هيتشكوك. وقد ينجح أحدهم في اكتشاف السبب الحقيقي في المستقبل.

الفيلم والمجتمع

تدل شهرة الفيلم على أنه بشكل عام مرآة للمجتمع الأمريكي في فترة تصوير الفيلم، وهناك مؤشرات طريفة في عدة مجالات اجتماعية، فمثلا جميع الممثلين من أصول أوروبية، وعندما يسأل ضابط الشرطة السابق «سكوتي» عن الاسم الذي سجلته الزوجة عند حجزها غرفة في فندق تقول الموظفة إنه اسم أجنبي لأنه إسباني، لأن عدد ذوي الأصول اللاتينية آنذاك في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بالحجم الكبير الذي نجده الآن. وعندما يذكر «سكوتي» اسمه البريطاني، تقول «مادلين» إنه اسم قوي مما يبين الإعجاب بالأسماء البريطانية الذي كان سائدا آنذاك. أما في ما يتعلق بمستشفى الأمراض العقلية، يحاول الأطباء معالجة «سكوتي» بالموسيقى، بينما تقوم هذه المستشفيات في الوقت الحالي بملء المريض النفسي بالأدوية.

باحث ومؤرخ من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية