وزان المغربية «دار الضمانة» حاضنة التصوف وملاذ من أراد أن تقضى حوائجه

عبد العزيز بنعبو
حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي»: تصدح في الذاكرة أغنية أصيلة وجميلة أداها فنان طرب الملحون المغربي الراحل محمد بوزوبع، وهو يقول في مقطع منها «لي بغا حاجتو تقضالو يمشي لوزان يزور» بمعنى «من أراد أن تقضى حوائجه عليه بزيارة وزان». والواقع أن البعد الروحي لهذه المدينة الجبلية الواقعة شمال البلاد جعلها تشبه المحج المغربي، هناك حيث الزاوية الوزانية وتنجلي معها تسمية «دار الضمانة» التي تعني الكثير من الحفظ والصون روحيا وعقائديا، حتى أن إحدى الروايات المتداولة حول أصل تسمية المدينة يعود إلى تجميعه من الحروف الأولى لكلمات بمعان صوفية، فكان الواو دلالة على الورع والزاي على الزهد والألف على الإيمان ثم النون على نور.

عراقة المدينة

رغم تضارب المعلومات حول تاريخ تأسيس مدينة وزان، فإنها تشير رأسا إلى عراقتها، فهي المجاورة للريف بقبائله، وموطن قبائل مصمودة وبني مسارة وغزاوة والغرب، والحاضنة للزاوية الوزانية التي أسست في القرن 17 ميلادي، على يد مولاي عبد الله الشريف بن إبراهيم الوزاني الحسيني.
وفي هذا الصدد، تشير معطيات «الوكالة الحضرية لمدينة وزان» (مؤسسة رسمية) إلى أن أصول هذه المدينة غير مؤكدة وغير دقيقة. إذ يرجع البعض تاريخ وجودها إلى العصور الرومانية القديمة، ولكن لم يتم إثبات أي شيء يدل على ذلك؛ في حين أن آثار مرور مولاي عبد الله الشريف، المرجع الصوفي الكبير، تجعل من وزان مدينة روحية بامتياز؛ فقد أنشأ زاوية هناك عام 1649 وهي مركز ديني وعلمي، ومهد للأخوية الدينية والروحية، يقصده المريدون كل عام.
ووزان من المدن القديمة النادرة التي لا تحيط بها أسوار؛ فلا توجد جدران ذات فتحات، ولا بوابات ضخمة محصنة مثل أي مكان آخر في المغرب. ويرجع البعض هذه الخصوصية إلى تاريخ المدينة، فقوة الزاوية الوزانية تحميها من التهديدات، تمامًا كما أن الطابع الروحي للمدينة جعلها مصونة، في اعتقاد أتباع هذه الطريقة الصوفية.
ومع ذلك، هناك أبواب مرتبطة بالجدران الخارجية للمنازل القديمة. هذه البوابات التي مكنت من إغلاق المدينة بطريقة السياج، لم تقدم نظامًا محصنًا حقيقيًا. الباب الأول، المعروف بباب الفتحة، عبارة عن قوس بسيط نصف دائري مصنوع من الطوب المحروق والأحجار الجافة، يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر. ويتكون الباب الثاني، باب الجمعة، من عقد مكسور على شكل حدوة حصان، وقد زُينت الركنيات بنماذج هندسية منحوتة.
الممرات المغطاة (أو ما يطلق عليه محليا السابات) قليلة العدد وتشكل خصوصية للمدينة. وتعلو بعض هذه الممرات سلسلة من الأروقة التي تشكل في بعض الأحيان ممرات ضيقة ومنخفضة ومقببة ومنحنية.
دار السقف هي أقدم منطقة في المدينة العتيقة. وهو موقع القرية الأصلية التي استقر فيها مؤسس الطريقة الوزانية، مولاي عبد الله الشريف، والذي بقي منزله في هذا الموقع. ترتبط هذه المنطقة بالمسجد الشهير المشهور بمئذنته ذات الأضلاع الثمانية. ويتكون مبنى الزاوية الرئيسي من فناء واسع يتوزع حوله رواق ذو أقواس، وأربع غرف من نفس الحجم مزينة بأبواب، ونوافذ وأسقف خشبية مطلية فخمة. إن رصانة الزخرفة وعظمة الأبعاد تجعلها واحدة من أرقى منتجات العمارة المحلية.
وترتبط هذه المدينة بقلب المدينة العتيقة، حيث توجد الأنشطة التجارية الرئيسية، وأبرزها تجارة الجلابة الوزانية، وتصطف شوارع المركز المخصصة للتجارة حصرا على المحلات التجارية المتجاورة، وتقدم مجموعة من المباني ذات الهندسة المعمارية المتجانسة.
وعلى شاكلة الزاوية البودشيشية في مدينة بركان شرق البلاد، صارت «الزاوية الوزانية» محجا للمريدين من كل بقاع العالم، وهو ما أعطى للمدينة تلك اللمسة الروحية الناصعة البياض، إلى جانب ما تشكله من حضور علمي وثقافي وحضاري كبير، ولا يمكن للمتأمل العابر أن يغفل حضور الطبيعة وهي ترخي ظلالها البهية على وجودها عبر مراحل تواجدها كحاضرة في الشمال المغربي، عاشت لحظة اعتبرها سكانها تاريخية وهي إعلانها محافظة تابعة لجهة طنجة تطوان الحسيمة بدل الانتماء السابق لجهة الغرب.
الإشارة السابقة لتضارب المعلومات حول تاريخ تأسيس وزان، تحيلنا على الروايات الثلاث التي تعتبر فرضيات حاولت إعطاء الدقة لهذه المعلومة الأساسية في وجود المدينة، التي تقع في الشمال الغربي من المغرب، وتتربع في مقدمة جبال الريف جنوب واد لوكوس، فمن قائل إنها نشأت في العهد الروماني، مستدلا على ذلك بكون كلمة وزان هي اسم ولي عهد أحد أباطرة الرومان، ومن قال كما ورد في كتاب «الروض المنيف» إن مئذنة المسجد الأعظم بوزان هي في الأصل من وضع الفاتح لشمال أفريقيا موسى بن نصير، في عهد بني أمية.
من تاريخ التأسيس إلى التسمية التي دخلت بدورها دائرة الحيرة والمعلومات المتضاربة التي تفيد بهذا التفسير أو ذاك، ومنه المرتبط بتأسيس الزاوية الوزانية على يد الولي الصالح (متصوف) مولاي عبد الله الشريف، وآخر يفيد بأنه لاتيني ويعود إلى أحد أباطرة الرومان الذي أطلق عليها اسم ولي عهده، ناهيك عن التفسير بجمع الحروف الأولى من كلمات روحية عقائدية.
أو كون الاسم مشتقا من الكلمة العربية الوزان، وهو لقب شخص كان يضع موازين له بمدخل المدينة بالمحل المعروف حاليا بالرمل، وفي رواية أخرى يقال إن أصل اسم وزان هو مختصر من كلمة «واد الزين» أو «واد زاز» وهو اسم نهر صغير ينساب بين المرتفعات الشمالية التي تعتبر ساحرة بحق مثل باقي المناظر الطبيعية التي تهديها المدينة لزائرها.

لماذا «دار الضمانة»؟

ذلك البعد الروحي الذي صارت عليه وزان، لا يقاوم بالنسبة لعشاق الروحانيات والانتماء لنبض الزوايا المغربية الحافظة والمحصنة للدين الإسلامي في المغرب والمقاومة ضد المستعمر، ومنها الزاوية الوزانية التي على إثرها أصبحت المدينة عبارة عن «دار الضمانة» وهي كلمة تفيد بالطمأنينة والراحة النفسية والأمان الروحي والجسدي أيضا.
بالنسبة للسلف والخلف من سكان مدينة وزان، فإنه لا يوجد مكان أفضل لتسميته بـ «ضريح دار الضمانة» أفضل من مرقد مؤسس الزاوية الوزانية، والذي تحول إلى أبرز مزارات المدينة كما أنه بديع التصميم والبنيان بما يزخر به من نفائس العامرة المغربية وفسيفساء الزليج الأصيل والنقوش التي تزين الواجهة الخارجية للضريح. من الحكايات التي تجسد أن «الدار الضمانة» هي فعلا كما وصفت بالضمان، هي واقعة لجوء المجاهد المغربي في الريف عبد الكريم الخطابي إلى الزاوية الوزانية بـ «سنادة» الواقعة في الريف وذلك سنة 1926 ميلادية، واستضافه «احميدو الوزاني»، ومعلوم أن الزاوية الوزانية هي امتداد لـ «دار الضمانة» أينما وجدت.

العراقة تحيل الصناعة التقليدية

لا يمكن لأي مدينة مغربية عريقة مثل فاس مكناس ومراكش وغيرها إلا أن تكون قبلة للصناعة التقليدية وإحدى ركائزها الاقتصادية في بدايات التأسيس أو في الوقت الحالي، ومدينة وزان واحدة من الحواضر التي تزخر بصناع مهرة، وخاصة ما يتصل بصناعة الصوف وهو ما يقال له «الدرازة» وتأتي الجلابة الزانية على رأس الإبداعات التقليدية في هذه المنطقة والتي صارت أشهر من نار على علم في مختلف ربوع المغرب بل حتى في العالم، وتتوزع أنواع الجلابة الوزانية بين «المحربلة» و«السلسة» و«الجربية» ثم «السدا في السدا».
في مجال الصناعة التقليدية هناك أيضا أنواع أخرى مثل الدباغة والنجارة والخياطة، وعلى غرار الصناعات العريقة في مدن المغرب العتيقة، تحظى بدعم الدولة والعناية بها والحفاظ عليها من الاندثار خاصة أنها تحكي تاريخ المغرب الأصيل والعريق جدا.
بالإضافة إلى الصناعة التقليدية، هناك أنشطة اقتصادية تعرفها مدينة وزان وتتمثل في الزراعة وصناعاتها، حيث يأتي الزيتون على رأس المنتجات التي تجود بها الأرض وتميز وزان بالطعم والجودة أيضا، كما تشغل عددا كبيرا من اليد العاملة خاصة بعد تناسل وحدات صناعية توفر الشغل بشكل موسمي، إلى جانب التين «الكرموس» الذي تشتهر به هذه المنطقة.

وزان بوابة مشرعة

تتجلى خصوصية وزان كـ»دار الضمانة» فيما حباها به الله من مؤهلات طبيعية تزخر بها، فتنة الجبل والشجر والخضرة والمحيط والمتنفس، كما أنها بوابة مشرعة على المناطق المجاورة، فهي بوابة الشمال وأيضا الغرب والريف، عدد سكانها قليل، ينعمون بموقع بين جبلين أساسيين هما جبل بوهلال وجبل أبو عقيقة.
ما صنعه الخالق طبيعيا، من جبال وغابات زيتون تحيط بها من كل الجهات، وغابات أخرى مثل إيزارن الشهيرة بالقنص البري، أو بحيرة بودرة ناهيك عن الينابيع العذبة، انضاف إليه ما خلفه السلف من مآثر تاريخية تسرد قصصا عتيقة وأصيلة.
ومدينة وزان مبنية على شكل مدرج على الجهة الشمالية لجبل بوهلال والجهة الجنوبية الشرقية لجبل بوعقيقة. ويقطعها محور طريق واحد من الشرق إلى الغرب ينقسم إلى فرعين في كل طرف. وتقع المدينة على ارتفاع 614 مترًا، وهي محمية من تأثيرات المحيط الأطلسي بالجبال متوسطة الارتفاع المحيطة بها. وتستفيد من مناخ البحر الأبيض المتوسط ​​شبه الرطب الذي يتميز بصيف جاف مع درجات حرارة تتراوح بين 19 درجة مئوية و32 درجة مئوية وشتاء بارد إلى معتدل مع درجات حرارة تتراوح بين 6 درجات مئوية و14 درجة مئوية. ويبلغ متوسط ​​هطول الأمطار السنوي 800 ملم، وهي موزعة بشكل غير منتظم.
ومدينة وزان موطن لبساتين الزيتون وإنتاج زيت الزيتون عالي الجودة. وثمة نوعان من بنيات الإنتاج: إحداها تقليدية للمنتجات المخصصة للاستهلاك المحلي، والثانية عصرية مع المعدات الحديثة للمنتجات المخصصة للتصدير. ووزان كذلك مدينة الحرف اليدوية منذ ما يقرب من أربعة قرون، إذ يوجد بها أكثر من 5000 حرفي و3 تعاونيات حرفي.

بعض ملامح المدينة

سوق الحايك، ودار الدباغ، وساحة الاستقلال حاليا التي كانت تعرف بسوق الخميس سابقا، وحي النهضة، وحي الخنداق وحي ولاد ريانهي، معالم تجاور الأصالة والحداثة في تشكيلها لمدينة وزان، أحياء أخرى أو مناطق كثيرة يغفلها القلم لأن المدينة حبلى بالعطاء ما دام أهلها يبدعون في محبتها.
وزان هي الإطلالة والدخول إليها مثل العبور من ممر جنة أرضية خضراء، كل شيء بهي وطبيعي وصولا إلى ما صنعه الإنسان من معالم قديمة وحديثة، وينتصب حي الملاح كأحد المعالم العريقة التي يجمع كل أصناف الصناعة التقليدية، من درازة إلى نجارة والخراطة والحدادة وغيرها، هي إبداع مغربي أصيل يشمل مدينة وزان العريقة.
وتبقى الجلابة الوزانية بكل أصنافها وأنواعها، هي الشهيرة من بين المنتجات التقليدية في وزان، وإبداعها بذلك الشكل الدافئ يعود إلى الطقس البارد في منطقة تعتبر جبلية وتكون أيام الشتاء قاسية هناك، لذلك فإن تلك الخرقة الوزانية كما يصطلح عليها أهل المدينة، هي فخرهم في الصناعة التقليدية المغربية.
من معالم المدينة أيضا، المكانة وتعني الساعة، وارتبطت بالاستعمار الفرنسي للمغرب، وحسب ما ورد في أحد الموقع الإلكترونية، فإن الاستعمار الفرنسي «شيّد الساعة وجعل لها صفيرا يطلق كلما أقترب موعد إغلاق أبواب المدينة حتى يمكن لزوارها مغادرتها والبحث عن وسيلة لنقلهم إلى خارجها حيث لا يمكن المبيت في المدينة إلا لسكانها الأصليين. وقد أحدثت هذه الساعة في العام 1912 من طرف المستعمر الفرنسي والذي وضع عمرا افتراضيا لها آنذاك مدعيا أنها ستعيش 130 سنة أي أنها ستسقط في العام 2042 أمر لا يقنع سكان المدينة الذين حولوا وظيفة ساعتهم إلى خدمة شؤونهم الدينية أساسا حيث جعلوها تطلق صفيرها بموعد الإفطار والإمساك في شهر رمضان في إشارة إلى ارتباطهم بهذه المعلمة التي يناشدون المسؤولين من أجل التدخل لترميمها والعمل على إطالة عمرها حتى تعيش لأجيال قادمة».
ولن نترك وزان قبل أن نرافق سكانها في جولة المشي اليومية، من حي الملاح إلى منتهى شارع الرمل جيئة وذهابا، وعند التعب تكون المكانة (الساعة) هي ملاذ الراحة واستنشاق هواء دار الضمانة لنودع المدينة الحصينة والتي فتحت أبوابها على كل عاشق للروح وطالب للملاذ النفسي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية