نوعا ما

عبارة (نوعا ما) التي تعني (تقريبا) عبارة حديثة دخلت العربية من بعض اللغات الأجنبية، دخلتها بين قابل لها ورافض لأسباب في غالبها غير لغوية، بل داخلة في باب الإيمان بالانفتاح أو الانتصار للانغلاق. في الفرنسية يقال تعبير قريب في معناه منها هو En quelque sorte الذي يعني تقريبا لكن يعني أيضا (عمليّا، أو على سبيل المثال) وهذان المعنيان لم يدخلا إلى العربية، بل اكتفي بالمعنى الأوّل. وفي اللغة الإنكليزية يقال Some what التي تقال للدلالة على أنّ شيئا ما هو بالغ حدّا منحسرا أو غاية محدودة.
ينخرط الجدل حول الاستعمال الحديث في العربية غالبا من جهة فصاحته، أو عدم فصاحته في العادة، فهناك من يقبله بادّعاء انفتاح العربية على استعمالات جديدة وهذه الاستعمالات هي عنوان حياة وتفاعل بين اللغات وهناك من لا يقبلها بادّعاء أنّها من المحدث غير المفيد وفي هذا الاتجاه رأيان: رأي يتشبّث آليّا برفض الاستعمالات الجديدة من اللغات الأخرى، ويعتبر ذلك انفتاحا غير محمود من غير أن يبحث عن سبب من داخل اللغتين للرفض؛ ورأي آخر أقل معيارية وأكثر تعقّلا يبحث في قوانين العربية عن مسوّغات رفضه. فيقال مثلا إنّ (ما) في ( نوعا ما) لا تخلو من أن تكون اسما أو حرفا، وأنّ استعمالها بهذا الشكل لا مثيل له في الإسمية والحرفية فإن غلبنا أنها اسم، وهذه حالتها القريبة، فهي ليست استفهاما ولا شرطا ولا تعجبا ولا خبرية ولا نكرة موصوفة؛ وإن غلبنا أنّها حرف وهي افتراض بعيد ـ فإنّها ليست نفيا، ولا مصدرية، ولا زائدة ولا مسلّطة (في قولهم ربّما قام زيد) ولا مغيّرة، كما في قوله تعالى «لوما تأتينا بالملائكة» (الحجر7).
إنّ القبول أو الرفض لشكل ما من أشكال التعبير في اللغة ينبغي أن يراعى فيه فضلا عن انسجام البنى النحوية مع البنى الدلالية، الانسجام التصوّري وبعبارة أخرى أن نتساءل ما الذي يوجد في العبارتين الإنكليزية والفرنسية من المسوّغات الإدراكية حتى تكون العبارتان مقبولتين؟ ولماذا نحن نفهم العبارة العربية نوعا ما في معنى قليلا أو شيئا ما، على الرغم من أنّ القاعدة التركيبية تقتضي منّا تعديل (نوعا ما) لنقول (على نوع ما من الأنواع مثلا). من الأمثلة التي تستعمل فيها معنى ما في الترجمة هذا المثال: (الحالة الأمنية هادئة نوعا ما ، لكنّها بالغة الهشاشة)؛ يمكن لي أنا باعتباري مترجما، أن أجوّد هذه الترجمة فأقول: (الحالة الأمنية هادئة بعض الهدوء) فأفرّ من استعمال (نوعا ما)؛ ويمكن أن أقول (قليلة الهدوء) أو (فيها هدوء حذر). ما فعلته باعتباري مترجما هو أنّي «جوّدت» العبارة وقربتها من بنى العربيّة، لكنّ اللسانييّن العرفانيّين لا يعترون هذه الجمل المرادفة محيلة على شكل واحد من بناء وضعيّة تصف الحالة الأمنية بالهشاشة؛ هم يعتبرون أنّ وراء كلّ جملة شكلا من أشكال التصوّر وبناء الوضعيّة مختلفا. ففي عبارة (بعض الهدوء) تركيز على نسبة قليلة ممّا يسمّى في التوصيف الأمني بالهدوء؛ والبعضيّة الاستعاريّة هنا هي نقيض الكليّة. لكنّ عبارة (هدوء حذر) تصف الهدوء باعتباره أحوالا متنوّعة وليس باعتباره كميّات.

لكنّ في عبارة (نوعا ما) في (الحالة الأمنية هادئة نوعا ما) خروجا من الرفع المنسجم مع المبتدأ والخبر إلى النصب، خروجا يجعلنا إزاء تأويل لا يتماشى مع كون (نوعا ما) نعتا أو صفة لـ(هادئة) بقدر ما هي مفعول مطلق بقراءة أو حال بأخرى. فكأنك قلت (هادئة هدوءا قليلا) أو (هادئة هدوءا حذرا) فحذف المفعول المطلق وحلّ محلّه شيء يشبه الصفة، وأخذ هذا المركب النصب من المفعول المطلق إشارة إلى هذه الوظيفة. ولذلك فإنّ أقرب الصفات إلى القول السابق هو (هادئة نوعا معينا من الهدوء، أو ضربا من الهدوء). ويفهم المستمع أنّ ذلك النوع هو هدوء هشّ أو قليل. إنّ الهدوء من الناحية الإدراكية لم يقسّم إلى أجزاء مثلما هو الأمر في (بعض) التي تحيل على الكلّ ولم يقسّم إلى سمة من سمات الهدوء المتنوعة كما في (هدوء حذر ) لكنّ الهدوء قسّم إلى أنواع لم تفصح الجملة صراحة عن ذلك النوع المقصود مثلما يمكن أن تفصح عنه عبارة (حذر) أو (مشوب بالخوف) أو غيرها من العبارات التي يمكن أن تفسّر الهدوء، باعتباره حالات أو وضعيّات معلومة. ما حدث من الناحية الإدراكية أنّ الهدوء قسّم ضمنيّا إلى أنواع، وأنّ الهدوء المتحدّث عنه هو نوع منه ولذلك جاءت (ما) لتُسلّط على النوع ضربا من الإبهام، لكنّ المتلقي يعرف ذهنا أنّ النوع مقصود به القلّة؛ فكان لمعنى (ما) المبهمة دلالة الكمية أو التبعيض.
من الممكن أن تفيد العبارات في سياقات من سياقاتها غير معناها المعجمي الأصلي، ولقائل أن يقول هل يمكن أن ينتقل المعنى المعجمي في الاستعمال إلى نقيضه؟ أي هل يمكن أن ينتقل النوع المبهم إلى الكم البعضيّ، مثلما هو الأمر في هذا السياق؟ الجواب بكل تأكيد يمكن ذلك فمن الممكن أن تقول لك حبيبتك في سياق ما (أكرهك نوعا ما) لتفهم أنت (أحبّك بعض الحبّ وسيزداد لو سعيت في إرضائي أكثر). للاستعمال قوانينه الثقافية التي ليست للمعاني المعجمية الأصلية؛ فما تفهمه من عبارات في سياق تواصلي معيّن، هو المعنى الحقيقي، وعندها تلغى أحيانا المحمولات الدلالية الأصلية أو تبدّل.
وفي قولك (الحالة الأمنية هادئة نوعا ما ) يمكن أن يحمل النصب في (نوعا ما) على الحالية، إذا ما تأوّلنا الجملة كالتالي: (الحالة الأمنية هادئة والحال أنّ هدوءَها يمكن أن يصنّف على نحو من الهدوء قليل) الجملة المطوّلة التي أجريناها هي تقريب لا لما يقال بل لما يدرك إن أردنا أن نفهم (نوعا ما) على أنّها حال من أحوال الهدوء. هذا يفترض أنّ للهدوء حالات وبمقتضاها يتصنّف الهدوء إلى أنواع، فهناك نوع تجد فيه الهدوء على حالة من الاستقرار الباعثة على الطمأنينة، وهناك نوع آخر يكون فيه الهدوء على حالة من عدم الاستقرار، أو من الهشاشة التي تبعث على القلق. في الهدوء نوع ما من أنواعه التي يكون عليها والمستمع يكون على علم بها؛ بل إنّ الاستعمال والمواضعة باتت تسمّي الهدوء المشوب بالحذر (نوعا ما ) وأنّ الهدوء التام لا يطلق عليه ذلك فإذن صار (نوعا ما) لا يتواضع عليه في حالة تمام الهدوء والاستقرار، بل في حالة نقصانه وإمكان الرجوع فيه إلى الاضطراب هذا شأن المواضعات الثقافية التي لا تخضع للتفاهم والاتفاق الثقافيين.
في قول الحبيبة (أحبّك نوعا ما) هذه المواضعة التي لا يقصد فيها بالنوع تعدّد الأنواع، ولا يقصد فيها بـ(ما ) الإبهام، بل يُقصد نوعٌ واحد هو الحبّ، الذي يكون في أوّله قليلا ويمكن أن يزول أو يزداد.
النوع هنا لا يقصد به نوع عند المناطقة الذي تنقسم إليه الأجناس، ولا يقصد به التنوّع، بل يقصد به الواحديّة والتبعيض والقلّة: هناك نوع واحد من الهدوء والحبّ؛ هو القليل منه غير الثابت ولا المطمئن.
أنت ترى إذن أنّ المسألة لا تتعلق لا بالفصاحة ولا بغيرها، بل بالإدراك: إن كنت تفهم من (نوعا ما) ما شرحناه لك، فذلك مدعاة إلى أنّ التواصل قد حدث وأنّ عنصر السعادة Felicity بالمعنى الذي أقرّه أوستين Austin موجود وشروطها التي تراعى ينبغي أن تقود إلى نجاح التواصل بينك وبين من استعمل هذه العبارة. إن كنت قد فهمت من مستمعك، ولست سعيدا باستعماله لأنّه لم يحترم شروط العربية فاعلم أنك في سياق آخر من السعادة لم يقبلها اللسانيوّن ولا التداوليّون ولا الفلاسفة التحليليون؛ أنت في سعادة أخرى حالمة بأن تكون اللغة محمية في برج عاجيّ ولا يعنيك إن كانت متبرمة وهي في برجها من سجنها الذي تعتقده أنت قصرا.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية