نحن نتخاصم في كامل السعادة

في الدراسة البراغماتية، أو التداولية، كما يقال في أكثر الترجمات شيوعا لهذا الفنّ، الذي يهتمّ بالكلام وبكيفيات تداوله بين المتخاطبين لأغراض متنوعة، قاعدة مهمّة ذكرها الفيلسوف التحليلي أوستينAustin وهو أحد آباء هذا الاختصاص الذي فيه مزج بين اللغوي والفلسفي هي قاعدة شروط السعادة Felicity Conditions.
شروط السعادة هي الشروط والمعايير، التي يجب أن تتوفر حتى يحقق فعل الكلام غرضه، فحتى تفهم عني وأفهم عنك ونحن نتواصل، ينبغي أن يكون الكلام ليس فقط صحيحا نحويّا، بل أيضا مناسبا لمقام تواصلنا، ويكون المتكلم مؤثرا بكلامه في المستمع، الذي يكون بدوره قابلا للتأثر، فإن حدث ولم يكن للمتكلم من تأثير وفعل، ولم يكن للمستمع من تأثر وردّ فعل فشل الكلام وسقطت شروط السعادة. السعادة هي إذن ليست حالة نفسيّة رديفة للفرح والغبطة ونقيضة للشقاء والحزن والألم، بل هي حالة ذهنية مصاحبة للكلام والتواصل، لا تنقضي إلاّ بانتهاء التواصل بنجاح بالتفاهم، وما يقتضيه من سلطة وتأثير وانفعال.
السعادة هنا لا تعني ما تعنيه في المعجم، إنّها تعني الاطمئنان الذي يصاحب تعاملنا بالأقوال، ونحن نقولها كي نُفهم؛ فالسعادة عبارة استعاريّة إن أردت للشّعور الباطن الذي يربط بين متخاطبين حين ينجزون تواصلا بنجاح. فحين تمدح ويفهم عنك، وحين تتغزل ويفهم عنك، وحين تقنع ويقتنع الناس ففي ذلك شروط للسعادة مستوفاة، ولكن أيضا حين تهجو وتخاصم وتقاتل بالكلام فشروط السعادة أيضا لا بدّ أن تتوفّر حتى تتمّ الخصومة.
لو فرضنا أن ممثلا مسرحيا على دوره وأنت حاضر تستمع إليه وهو يقول: «ألا تفهم، لماذا أنت غبيّ في كلّ لحظة؟»، فإنّك تعرف أنك غير معنيّ بهذا الكلام ولذلك فإنك لن تغضب. لكن لو قيل لك ـ لا قدّر الله ـ هذا الكلام نفسه في سياق خصومة فعلية في الشارع، أو في المقهى، أو في أيّ مكان آخر تنشب فيه الخصومات، فإنّك سوف تنخرط في سياق كلامي مشابه؛ في الحالة الأولى يفشل الكلام لأنّ شروط السعادة لم تتحقق، وفي الثانية ينجح الكلام لأنّ شروطها تحقّقت. ولو فرضنا أنك تدرّس دالية المتنبّي لطلابك وتقرأ: (لا تشتر العبد إلا والعصا معه// إن العبيد لأنجاس مناكيد) فإنّه لا اعتراض عليك بين جمهور الطلبة إذ لا يمكن أن يفهم أحدهم أنّك تهجوه أو تخاصمه، فالمقام لا يجعله منخرطا في هذه الوضعية الهجائية التي تزري به. إن شروط توفّر الخصومة ليست موجودة ومعاييرها غير مستوفاة؛ وبعبارة أوضح فحتى يحقّق الكلام غرضه الفعليّ (لأنّ الكلام فعل في نظرية أوسيتن البراغماتية) لا بدّ أن تتوفّر شروط مهمّة هي التي تعنيها عبارة «شروط السعادة».
هناك عدة أنواع من شروط السعادة كأن يتصرّف المتكلّم في كلامه، لا بما هو ممثّل ولا بما هو مدرّس لنصّ؛ بل بما هو منجز فعليّ للكلام. نحن في كلامنا اليوميّ، وحتى يكون كلامنا فعلا نافذا إنجازيا (بقطع النظر عن تحققه أم لا)، علينا ألاّ نكون ممثلين، بل فاعلين فعليّين لذلك لا يمكن للقاضي أن يفتتح الجلسة وهو في مقهى، ويقول فتحت الجلسة ولا يمكن لرجل أن يطلق غير زوجته، إن كان الطلاق في ثقافته شفويّا، أي من غير إجراءات تقاض ولا يمكن لقاض أن يحكم بالإعدام على ميت، ولا يمكن أن يرقّى ضابط إلى رتبة لاحقة، إن لم يكن ذلك بقرار رسمي. إن ظروف الكلام التي تساهم في الإنجاح من أبرزها أن يكون الفاعل رسميّا، أو معترفا بأنّ كلامه نافذ في ذلك السياق، إنّها سلطة المتحدث وظروف الفعل الكلامي تكون مناسبة لإتمامه بنجاح.

هناك عدة أنواع من شروط السعادة كأن يتصرّف المتكلّم في كلامه، لا بما هو ممثّل ولا بما هو مدرّس لنصّ؛ بل بما هو منجز فعليّ للكلام. نحن في كلامنا اليوميّ، وحتى يكون كلامنا فعلا نافذا إنجازيا (بقطع النظر عن تحققه أم لا).

الإخلاص Sincerity، شرط من شروط السعادة فضلا عن سلطة المتحدّث، يتوفرّ حين يتم أداء فعل الكلام بجدية: فحين تعدني بزيارة، عليك أن تكون قادرا على هذا الأداء، أي أن تكون مخلصا للمضمون القضويّ الذي في قولك: أعدك أن أزورك يوم الثلاثاء. والأمر نفسه يقال عن الخصومات فحين تخاصم أحدهم وتقول له: (لست أهلا لأن أحدثك من هنا فصاعدا) فينبغي أن تكون في مستوى تنفيذ هذا المحتوى القضويّ، لذلك مثلا لا يمكن أن يقال هذا الكلام في سياق تكون أنت فيه تابعا تبعيّة نفسيّة أو مالية أو سياسيّة لمن تخاطبه بهذا الكلام؛ لهذا لا تنجح الخصومات في العلاقات الهرمية، فلا يمكن أن تقول لرئيسك في العمل هذه العبارة لأنّ شرط الإخلاص أي قابلية أن يتمّ أداء المقاطعة ليس ممكنا. تكثر الخصومات الكلامية في المجتمعات التي تعتقد في إخلاصها لأدائها اعتقادا صادقا وصحيحا، أو كاذبا، فعلى سبيل المثال في خصومة بين بائع اللبن وشاريه يمكن أن يقول الشاري (أنت غشّاش.. ومن غشنا فليس منّا) ويمكن أن يردّ البائع: (لا تشتر منّي لاحقا) هذا الكلام ينبغي، كي يكتسب شرط الإخلاص، أن يكون اعتقادُ الشاري في البائع صحيحا فيه حتى تكون الخصومة صادقة، فإن كان كلامه تقولا عليه أمام الزبائن، فقد خرجنا من باب الخصومة إلى التشهير. وحتى يكون البائع أيضا مخلصا لكلامه عليه أن يكون في وضعيّة تسمح له بمقاطعة الشاري والاستغناء عن خدماته، وإلاّ فإنّ ركن الإخلاص لن يكون تامّا فيسقط، بالتالي، ركن من أركان السعادة في هذه الخصومة.
حين تغضب الأمّ في خصومة مع الأب وتهدّد بأن تترك البيت ولكنّها لا تفعل خوفا على انفراط عقد الأسرة، فإنّ شروط فشل المحاورة بما هي خصومة وتهديد لأنّ شرط الإخلاص منقطع فنحن إزاء تهديد كاذب وبرق خُلّب.
هناك شرط يسمّى بالأساسي Essential في شروط السعادة يختلف باختلاف العمل اللغوي الذي ينجزه؛ ففي الوعد عليك أن تلزم نفسك بالإيفاء وفي التهديد عليك أن تلزم نفسك بالقدرة على التنفيذ. كثير من الخصومات في حياتنا اليومية فيها وعيد كاذب كأن تقول: (إن لم تغرب عن وجهي، حطمت جمجمتك) ولكنّك لا تفعل لأنّك إن فعلت كان ذلك عملا إجراميّا وليس كلّ شخص قادر على أن ينفّذ وعيده عند الخصومة، وإلا أباد بعض الناس بعضا عند التخاصم. من حسن الحظ في خصومات الناس اليومية أن الشرط الأساسي فيها لا ينجح وأنّها تبوء بالفشل. لكن ركن السعادة في الخصومة قد يتوفّر حين تنجز أفعال الوعيد والتهديد، كأن يقول الرجل لزوجته: (إن لم تنته من هذا الكلام، فأنت طالق) ثمّ ينفذ ذلك حين تواصل الزوجة الكلام. كثير من الطلاق الشفوي أجري بهذا الشكل وكثيرة هي الجرائم التي راح ضحيتها، أحد المتخاصمين فقط من أجل إنجاح تهديده. أغلب الخصومات التي لا يتوقع فيها المتكلم أن يعمل بكلامه هي خصومات فاشلة ولا يتوفر فيها الشرط الأساسي، وحين لا يهدّد الزوج بالطلاق ولا يفعل فإنّ شرط الإخلاص لا يتوفّر وتفشل الخصومة.
في سورة مريم (46) خاطب والد إبراهيم الخليل ابنه في سياق خصومة ناجمة عن سبّ الولد لآلهة الوالد قائلا: (لئن لم تنته لأرجمنّك) فشل العمل اللغوي لأنّ إبراهيم واصل نكرانه للآلهة ولم يرجمه أبوه. حين يكون الخطاب سعيدا في جانب الخصومات تكون النهايات غير سعيدة؛ وحين يكون الخطاب غير سعيد تكون النهايات في الغالب سعيدة. لكنّنا ونحن ننجز الخصومات ونهدّد ونتوعّد يمكن أن يكون في خطابنا سعادة لا تكتمل: نحن ننوي لوقتها أن نفعل لكنّنا نجبن وحين نجبن عن الفعل نكون قد فعلنا حسنا.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية