الومضة النحوية والسردية في القرآن

وَلَعُ العصر الحديث بما يسمى الومضات بات محمودا، لا لأن العصر صار ذا إيقاع أسرع مما كان، بل لأن الميل البشري اليوم بات إلى القليل من كل شيء بدل الكثير من شيء واحد، أبرز أشكال الومضات اليوم نجده في التغريدات وفي التدوينات القصيرة، ويمكن أن نجده في السرد وهو الذي يعنينا في هذا المقال.
فن القص الومضة، أو الحكي الأدنى micro- storytellig فيه تركيز على ذرات كثيرة من المواضيع، بدلا من التركيز على موضوع واحد. صحيح أن التجارة والإشهار هي اليوم أكثر القطاعات استفادة من هذا السرد، لكنه ينتشر هنا وهناك في حكايانا الصغيرة اليومية، التي نحكيها عما جرى لنا بالأمس صباحا ونحن ننتظر القطار. الحكي الأدنى يتميز ببنية نحوية مؤلفة من جمل قصيرة، أو نووية يكتفى فيها ببعض الكلم، التي لها القدرة على الإحالة على كثير من المرجعيات، ويمكن أن تجد في الجمل حذفا كثيرا واختصارا، يقابله ارتكاز على كد الذهن. ما يعنينا في هذا المقال هذا السرد الومضة في النص القرآني لا باعتباره مصنفا في هذا الإطار من الحكي، بل باعتباره جزءا من ميل النص إلى الاختصار والإلماع.
من أبرز الأمثلة التي يمكن أن تساق في هذا الإطار سورة الصافات من الآية 100 إلى الآية من 105 وهي التي سنتناولها في هذا المقال بالتحليل مركزين على اختصار البنية النحوية والإلماع في البنية السردية. السرد في الآيات المذكورة فيه حديث عن قصة إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل من قبل أن يولد إلى استسلامه لمشيئة الوالد تنفيذا لرؤية الذبح الشهيرة. السرد يبدأ بشكل مختزل بأسلوب الدعاء في قوله تعالى: (رَب هَبْ لِي مِنَ الصالِحِينَ).في هذه الآية اختزال كبير ففضلا عن غياب فعل القول وفاعله (الداعي) ومناسبة الدعاء أنت إزاء مقطع حواري مباشر يقف فيه الداعي أمام ربه يطلب منه الولد الصالح. لا شيء يشعرك بأنك إزاء دعاء سيوظف في ما بعد للسرد. في الدعاء نفسه اختزال يظهر في سطح الجملة: فـ(ربّ) عبارة مفرطة في الاختزال حذف فيها حرف النداء الدال على الدعاء (يا) وحذفت ياء النسبة إلى الداعي. إنه دعاء من غير أداة ونسبة للعلاقة التعبدية بين الداعي وربه من غير أداة أيضا؛ لكنك وأنت تقرأ ستتفطن بعادتك اللغوية إلى المحذوف وترجعه إلى محلاته وكل ذلك ذهنا.

تحتاج أن تراجع من الداعي بالرجوع لعرض سابق للسورة وفيها حديث عن خصومة إبراهيم مع قومه، وكيف أنهم أرادوا به الكيد فأراد من الله أن ينصره على قومه الكائدين. وهنا يصبح الدعاء غير متناسب ظاهرا مع السياق، الذي جعل إبراهيم يلجأ إلى ربه: فبدلا من نُصرته المباشرة، ها هو يطلب النصرة من الصالحين؛ لكن الاستنصار بالصالحين يحتمل كثيرا من الافتراضات: أن ينصر الله إبراهيم بالمصدقين، أو بالعشيرة أو بالعترة وهكذا، وبهذه التخمينات دخلنا بالدعاء باب الافتراضات ووجلنا به إلى السرد. في عبارة من الصالحين اختزال آخر ذكره المفسرون بأن قدروا أن الأصل في القول: صالحا من الصالحين، فكان المذكور ذليلا على المحذوف لأنه نوع منه.. لكن ما فائدة مقطع الدعاء في الحركة السردية المختزلة؟ ما معنى أن يدعو إبراهيم ربه كي يهبه من الصالحين في سياق من السياقات السردية، التي تعرضت فيها حياته للخطر؟ إلى هذا الحد من الآية يوازي الاختزال الذي في البنية النحوية والدلالية غموض كبير في تأويل مضمون الدعاء في سياقه السردي. فهذا الاختزال هو الذي يصنع الفارق بين ما يفكر فيه النبي، إذ يدعو وما يفكر فيه قارئ القرآن وهو يتابع حكاية إبراهيم.

للقارئ المروي له أن يحمد الله على أنه ليس من أصحاب الرؤى، متعة أن يرى الإنسان البسيط في الأحلام ما يراه، لكن لا شيءَ يجبره على أن ينفذها: بما أنه ليس نبيا. ليست الرؤية دائما فعلا يمكن أن نحسد عليه الأنبياء، وليست النبوة لحظة قابلة للحسد فعندهم لحظات لا يحسدون عليها وحتى في اللمع لا يسكت عنها السرد.

ليس الأمر متعلقا بالعلاقة الإدراكية المبهمة بين السارد والمسرود له والتي هي عنصر مهم من تواصل الارتباط بالسرد: لا بد أن يشدك السرد كي تُقبل عليه؛ الأمر ليس من هذه الناحية، بل الأمر متصل في رأينا بفرق ما بين الإنسان العادي والنبي، من تصور لحل أزمات الحياة: نحن نراها أزمة آنية (تهديد قوم إبراهيم له بالحَرْق) تتطلب حلا آنيا (النجاة الآنية: الهروب الآني من الموت) وهو يراها أزمة حلها زماني: أن يبدله الله خلقا بآخر: قوما أعداء كافرين بقوم من ذوي النسب مؤمنين. وما إن ينتهي الدعاء وننتقل إلى الآية التالية (101) حتى يصبح الدعاء بشرى: (خبرا لا يعلمه الداعي وإنما يصل إليه بمبشر هو الذي يحمله إليه)؛ وهذا الفعل موكول في النص القرآني للملائكة، إذ هي وسائط إخبار تحمل ما ينبغي حمله من أنباء مفرحة لمن ينتظرها. هنا ننتقل في سياق السرد من إطار الدعاء وهي الرسالة الكلامية المنطوقة من فم الداعي إلى الرسالة الإلهامية غير المنطوقة والمرسلة من لدن المدعو الإله.

هذا التفسير يقتضيه البناءُ النحوي الذي فيه اختزال كبير للجواب أو الرد على الدعاء: دعاء فبشارة قبل أن يكون الحدث فعلا في الواقع وهذا ما نجده في الآية الموالية (فَلَما بَلَغَ مَعَهُ السعْيَ قَالَ يَا بُنَي إِني أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَني أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصابِرِينَ)؛ أكثرَ المفسرون في تأويل هذا الآية، ولاسيما في تحديد مَن يكون الذبيح أهو إسماعيل أم إسحاق وفي ذلك ضرب من البحث عن التسمية بدلا من التكنية، والتكنية ضرب من الاختزال الذهني الذي يدفع المسرود له إلى التخمين النظامي، الذي لا بد أن ينسجم مع كامل خيوط القص الأخرى وخيوط القص في هذا السياق لها منابت مختلفة في الأديان المختلفة.
إن الاختزال الذي في هذه الآية هو في الصمت عن الحقبة التي فصلت ولادة الولد الصالح عن زمن تنفيذ الرؤية، وهو ما تجسد في مستوى البنية النحوية في الظرف (فلما بلغ معه السعي). واختلف في معنى السعي اختلافات كثيرة هي مبررة بالإبهام الذي في هذا الفعل، أهو المرافقة أم العمل من أجل نصرة إبراهيم. إن الإلماع ليس فقط في اختصار العبارات، بل أيضا في الإتيان بالعام منها الذي يتطلب التفصيل، فالحياة جميعا هي سعي إلى الآخرة والسعي في الحياة هو الجد فيها؛ لكن ما العلاقة بين هذا الفعل وارتباطه بالإخبار عن كونه موعودا بالموت؟
لقد طال المشهد من غير أن يجيبنا عن هذه الأسئلة، بل نقل لنا حوار الطاعة الذي يجعل الموعود قابلا للتنفيذ. إن الظرفية هي التي لعبت دورَ التفصيل: لما بلغ معه السعي، لما أسلم، لما تله للجبين: بدأت الظرفية بالتدقيق إيذانا بإبراز اللحظة التي لأجلها كان الوصف إلماعا: لحظة التنفيذ وتصديق الرؤيا بما هي اختبار للنبوة. كل لحظة سرد إلماعي فيها تركيز على عناصر على حساب أخرى، هي لحظة الصوت التي لأجلها فرض الصمت: لحظة التنفيذ والتصديق للرؤيا يصمت الكلام حتى يهيئ الظروف الكفيلة بالإفصاح عنها. ليس أعسر من أن تصمت عن حياة يولد فيها طفل من أبناء الأنبياء بعد دعاء وبشرى؛ ثم بعد أن يولد يموت من أجل تنفيذ رؤيا للأنبياء لا بد لها أن تنفذ. مأساة هذا السرد الإلماعي أن الولادة الأولى فيه غير مهمة بالنسبة لما ينتظرها من تنفيذ قدري للرؤية، تنفيذ لا بد له من تدخل إلهي ليوقفه لذلك كان الإلماع في الدعاء وفي البشرى وفي الولادة وفي الكبر وكان التفصيل في لحظة التنفيذ.
للقارئ المروي له أن يحمد الله على أنه ليس من أصحاب الرؤى، متعة أن يرى الإنسان البسيط في الأحلام ما يراه، لكن لا شيءَ يجبره على أن ينفذها: بما أنه ليس نبيا. ليست الرؤية دائما فعلا يمكن أن نحسد عليه الأنبياء، وليست النبوة لحظة قابلة للحسد فعندهم لحظات لا يحسدون عليها وحتى في اللمع لا يسكت عنها السرد.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية