الرؤية فعلا إدراكيا مقدّسا

شدّتني هذه الآية الكريمة وأنا أستمع إليها في المذياع وهي من سورة الفرقان (الآية 1) إذ يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ ما شدّ المفسّرين في هذه الآية هو تفسير (مدّ الظلّ) فقالوا إنّه مُدّه ما بين صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، لكن ما شدّني في الآية هو استعمال فعل (رأى) لازما وقد تعدّى بحرف جرّ (ألم ترَ إلى) وهو في الحقيقة يتعدّى بنفسه إلى المفعول والمفعولين حتى لكأنّه قيس على فعل (نظر) اللازم والمتعدّي في هذا السياق من الاستعمال بحرف الجرّ نفسه.
من المعلوم عن الأفعال أنّها تكون لازمة لكنّها تتعدّى بثلاث طرق هي التضعيف وزيادة همزة التعدية، فضلا عن حرف الجرّ؛ فالفعل (خرج) على سبيل المثال لازمٌ لكنّه يضحي متعدّيا بالتضعيف فيقال (خَرّج) أو بزيادة الهمزة فيقال (أخرج) أو بزيادة تركيبية بحرف الجر فيقال (خرج إليه أو عليه أو فيه). لكن أن ينقلب الفعل من متعدّ إلى لازم فليس حالة أصليّة في انتقال الأفعال في ما يخصّ اللزوم والتعدية. وبعبارة أخرى الأصل أن يصبح الفعل اللازم متعدّيا، ولا يضحي المتعدّي لازما سوف نهتمّ في هذا المقال بالمقارنة بين الفعل (رأى) متعدّيا بنفسه والفعل نفسه، وقد تعدّى بحرف الجرّ في سياق بنية متواترة في القرآن مرتبطة بفعل الرؤية الإدراكية أو العقليّة.
ذهبت أبحث عن أمثلة (ألمْ تَرَ إلى) في القرآن فوجدت مثيلا له في سورة النساء (60) في قوله جلّ وعلا (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أن يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا أن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيداً). لو فكرت بطريقة النحاة لقلت إن الفعل (رأى) قيس على فعل (نظر) حملا على النظير، كما يقولون فهما فعلان مترادفان في التعبير عن الرؤية المادّية والعقلية ولذلك يمكن أن يسلك الفعل (رأى) مسلك الفعل (نظر) في التعدية بحرف الجرّ. ويمكن أن تكون (رأى إلى الشيء) لغة من لغات العرب القديمة. لكنّ الظاهرة النحوية تصبح لافتة إذا ما نظرنا في القرآن إلى استعمالات مماثلة يكون فيها الفعل رأى المقترن بالاستفهام متعدّيا كما في قوله تعالى في سورة الفيل (1) (ألم ترَ كيف فعلَ ربّك بأصحاب الفيل) ، أو في سورة الفجر (6): (ألم ترَ كيف فعل ربّك بعاد) أو غيرها من الاستعمالات التي يكون فيها الفعل نفسه متعدّيا. اعتمادا على هذا لنا في القرآن استعمالان في البنية التركيبية الواحدة: (أَلَمْ تَرَ) واحدة متعدّية والثانية لازمة وأصلها أن تكون متعدّية.
إنّ الميل إلى المقابلة مفيد في اللسانيّات باعتبار أن كلّ شكل نحويّ يمكن أن يكون له دلالة واستعمال وهذا ما سيجعلنا نفترض أن (ألم تَرَ) تختلف تركيبا ودلاليا عن (ألم تَرَ إلى). والبنية المشتركة بينهما هي بنية استفهام لا يراد منه الاستخبار مثلما هو الحال في الاستفهام الأصليّ: أي طلب المتكلم السائل من المستمع المسؤول شيئا لا يعرفه، بل يراد أكثر من طلب معرفة الشيء، معرفة أمر آخر أو إنشاء فكرة أخرى وهنا تتدخّل تعدية الفعل بواسطة أو تعديته بحرف جرّ.

في تعدية الفعل بنفسه من نوع (ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد) أو (ألم ترك كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل) فإنّ الفعل رأى المقترن بالاستفهام لا يمكن أن يدلّ على إنكارٍ لأنّ السياق سياق إخبار بأحداث يمكن أن يكون المستمع خالي الذهن منها. هذه الطريقة في طرح السؤال هي تأسيس للإخبار عن الأحداث أو سردها، بل قل هي تأسيس لفعل القصّ كما نقول اليوم. السؤال حول الرؤية هو سؤال حول المعرفة أو حول ما بلغ المستمع منها إن كان بلغه ما بلغه وغابت عنه تفاصيل أخرى أو نسيها بما أنّه بشر لانقطاع الخبر عبر التاريخ؛ فهو تذكير أو تتميم أو تصويب أن تعلّق الأمر بمقارنة الأخبار الواردة في كتب سماوية أخرى. فعل الرؤية المتعدّي في هذا السياق المؤسّس للإخبار هو سياق يجعل موضوع الرؤية مفعولا يتعدّى إليه الفعل تعدية مباشرة فهو فعل مشهديّ لا حاجب فيه بين الرائي وما يراه فهو فعل ينغمس فيه الرائي في المشهد.
لكنّ الفرق بين رؤيتي أو رؤيتك مشهدا في المرجع الخارجي، بلا حاجب وسماعي خبرا بلا حاجب في ذلك المرجع ورؤيتي له أو سماعي بحاجب أمرا مختلفان. إن المشهديّة الإدراكية هي التي يتعلق بها فعل الرؤية سواء أكان متعديا أم لازما. المشهدية في فعل الرؤية المتعدي يرتبط بمشهد مفتوح متعدّد العناصر؛ صحيح أن موضوعه العام واحد (أصحاب الفيل/ إرم ذات العماد) لكنّ جزئياته مترابطة ترابطا يجعلها تؤلّف مشهدا عامّا موسّعا. سؤال (ألم ترَ) أن ارتبط بالموضوع اختلفت نوعية ارتباطه به فقد يكون متعلقا بالكيفية (ألم ترَ كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) [إبراهيم،24] وهذا مرتبط بالطريقة التي يؤتى بها الفعل الربّاني، فأن يضرب الله مثل الكلمة الطيبة باعتماد الشجرة ليس هو المطلوب تدبّره إدراكيّا، بل المطلوب هو الكيفية التي يمكن أن يتمّ بها ضرب هذا المثل. للبشر أيضا أن يضربوا الأمثال، لكنّ الأمثال التي يضربها الله في القرآن هي طريقة مقدّسة في تبيان الحقائق بشكل فيه إنشاء للكلام كإنشاء الأكوان التي تمثلها وبناء على هذه القدرة كان أبو العلاء المعري قد ولد خياله في رسالة الغفران خيالا جعل من المقبول أن ينتقل ابن القارح وبواسطة الكلمة بين عالمين. ويمكن أن يتعلق فعل الرؤية المتعدّي إلى الجوهر الرباني في حقيقته المتعالية (ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحقّ أن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد) [إبراهيم، 19] فالرؤية التي من غير حرف جرّ هي رؤية هدفها ربط الإدراك ربطا مباشرا بالمشهد.
في فعل الرؤية المتعدّي بحرف الجرّ اختلاف لا يمكن أن تفهم، دون اعتماد على حرف الجرّ. أوّلها أن المطلوب ليس المشهدية ذاتها المرتبطة بصفات الخلق أو الحقّ، بل هي مرتبطة بالانتباه إلى المشهدية، فالمقصود ليس ما يدرك، بل التركيز على القناة التي بها ندرك وهي البصيرة. حين تُدعى إلى الرؤية فأنت مخيّر بين أن تكون مشاهدا لكامل المشهد، أو أن تكون مركّزا على عنصر من عناصره؛ وهنا يصبح الإدراك في ذاته هو محور الموضوع ومركزه. أن أدعى إلى أن أدرك شيئا فأنا دعيت إلى الموضوع نفسه، لكن أن أدعى إلى التركيز على الأحداث بما هي شيء فيه اعتبار يعني أني لا أركز على معالجة الإدراك لما أرى وهذا مجاله العرفان، بل أركز على الإدراك كيف يعمل.
في سورة البقرة (258) يقول تعالى (ألم ترَ إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه) فإنّ المقصود ليس في محاجّة الرجلين حجاجا تغلب به إبراهيم، بل المقصود هو معالجة قصدها التركيز على عمل العقل عند الطرفين وما يمكن أن يقود إليه من قوّة حجاج وغلبة للمؤمن إبراهيم. يضاف إلى ذلك أن فعل رأى المتعدي بحرف جرّ لا يكون مفعوله موضوعا متصلا بالكيفية أو بالجوهر أو بغيرها من المقولات العامة، بل يتصل بكيان أو بعيّنة ففي حرف الجرّ إناخة للبصر، وحمل له لكي يركّز على شيء أو كيان بذاته، لا أن يركّز على المشهد مطلقا من ذات بعينها. لكن أقوى ما في حرف الجرّ أنّه وهو يركز على طريقة إدراك الكيانات الفردية في القرآن يمكن أن يصنع حوله حقيقة غير مألوفة، كتلك التي يدفعنا بها إلى الإزراء بالشعراء الذين كان لهم صيت في قوله تعالى (ألم ترَ أنّهم في كل واد يهيمون) (الشعراء 225) وتلك مسألة أخرى قد نعود إليها بالتفصيل.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية