الحَسْرَةُ دلالة دينيّة فريدة

السياقات التي استعمل فيها القرآن لفظ الحسرة قليلة، وقد جمعها محمد فؤاد عبد الباقي صاحب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم في ثمانية مداخل، كان أغلبها في صيغة الاسم، سواء أكان مصدرا مفردا أم جمعا (حسرة، حسرات) منسوبا (حسرتي، حسرتنا) أو غير منسوب، أم كان صفة مشبّهة (حسير) أم اسم مفعول ( محسور) وورد في سياق وحيد فعلا (يَسْتَحْسِرون).
ورد الفعل (يستحسرون) في الآية 19 من سُورة الأنبياء في قوله تعالى وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ)؛ وقال ابن كثير في تفسيرها، أي لا يتعبون ولا يملّون. أخذ هذا المعنى من قول العرب حَسِرَت الدابة إذا تعبت من المَسير. ولقد قادنا تأمّلنا في المعاني التي تتولّد من الجذر (ح. س. ر) إلى أنّها معان في الأصل حربيّة؛ فالحسَّرُ هم الجنود الذين يكشفون عن رؤوسهم وعن أجسادهم ولا تحميهم دُروع، أو بيض على رؤوسهم ومن هنا جاء معنى المرآة الحاسرة، التي تكشف عن وجهها ورأسها وذراعيها، وعن المعنى الحربي سمّيت الدابة التي تتعبها الحرب حسيرة، فيقال حسرت الدابة إذا تعبت لا في الرحلة لكن في الوغى والحرب. ويبدو أن هذا يقال في الأصل على الخيول المحاربة التي تسير في الغزاة حتى ينقطع سيرها ولم يكن من الأخلاق في شيء أن يقيد الخيل الحسير حتى لا يأخذه العدوّ وينكّل به. ومن المعنى الحربي أيضا أن العين توصف بالحسر ومعناه أن تعجز عن رؤية ما بَعُد من المسافات، وهذا معنى الرقابة في الحرب، أن يطلب من العين أن تكتشف أكثر ما يمكن من مسافات بعيدة حتى ترصد قدوم الجيش قبل وصوله. نجد لهذا المعنى أثرا في القرآن في سورة الملك (4) إذ يقول تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) قال الطبري معنى حَسِير مُعْيٍ لم يرَ خللا ولا تفاوتا؛ وقال القرطبي بلغ الغاية في الإعياء وذلك دليل على كثرة النظر واستشهد بقول الشاعر (مَنْ مَدَّ طَرْفًا إلى مَا فَوْقَ غَايَتِهِ// ارتَدَّ خَسْآنَ مِنْهُ الطرْفُ قَدْ حَسِرَا) وهذا المعنى هو الأقرب لمعنى الحسير من الإعياء. وقال البغوي في حسير: كليل منقطع لم يدرك ما طلب.
إنّ الانتقال من معنى الحرب الذي دار فيه الفعل حَسِرَ ومشتقّاته إلى معنى نفسيّ متواتر في القرآن، هو الذي سنلتفت إليه في باقي المقال. لا بدّ أن نسجّل أن النصّ القرآني أخرج المعنى من الاستعمال الملموس إلى النفسيّ، بثلاثة طرق في الانزياح، فالتّعب الذي يسند في العادة إلى إرهاق الدواب، أسند إلى إرهاق البشر النفسيّ في ضرب من الحرب الباطنة، التي تدور رحاها لدى من حسب حسابا لكنّه لم يحسن التقدير، كما هو الأمر في الآية 156 من سورة آل عمران في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ، أو كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال ابن كثير: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتلهم، أي أن في اعتقادهم خطأ فُطروا عليه يزيدهم تعبا على تعب وهو اعتقاد بعيد عن حقيقة أن الله هو من يملك الحياة والموات.

لو نظرنا إلى الكيفية التي انتقل بها المعنى من الدلالة القديمة، دلالة التعب والكلل الذي يصيب الدواب، إلى التعب الذي يصيب البشر لسوء اعتقادهم؛ لوجدنا في الأمر آليّتين لغويّتين: آلية زحزحة المعنى وآلية إنبات الوضعيّة منبتا جديدا.

لا نقع بعيدا عن جوّ الحرب التي يدور في فلكها معنى الحسرة، لكنّ الأمر يتعلق بحربين، حرب حادثة بفعل الغزو وأخرى دائرة في النفس، والقرآن يركّز على المعنى الثاني فالحسر ليس في كشف المحارب رأسه وصدره، لكي يكون أكثر من غيره عرضة للموت، وإنّما الحسرة هي الدائرة في نفوس من لم يكن في ساحة الوغى وكان يخشى أن يطاله الموت ولذلك ظلّ بعيدا عن الحرب ظاهرا والحقّ أن الحرب دائرة في نفسه منقولة إليه.
لو نظرنا إلى الكيفية التي انتقل بها المعنى من الدلالة القديمة، دلالة التعب والكلل الذي يصيب الدواب، إلى التعب الذي يصيب البشر لسوء اعتقادهم؛ لوجدنا في الأمر آليّتين لغويّتين: آلية زحزحة المعنى وآلية إنبات الوضعيّة منبتا جديدا. فأمّا زحزحة المعنى فهي آليّة معروفة عادة في الانتقال بالمعنى من الحقيقة إلى المجاز مع الحفاظ على خلفيّته القديمة فالحسرة التي ظلّت معنى في سياق حربيّ هو السياق الذي يسبّب الضيق، انتقل معناها من تعب جسديّ في رحلة خيل أضناها الطريق وتوقّف مسيرها قبل أن ينتهي المسار إلى تعب نفسي لبشر مشكلتهم في سوء ما اعتقدوا؛ يضنيهم فكرهم حيث انقطعت حركتهم الجسدية وقعدوا ظنّا أنّهم في قعودهم سيكونون آمنين. وأمّا إنبات الوضعيّة منبتا جديدا فإنّ الانتقال الذي في الحسرة في معنى الآية السابقة أو الحسير في معنى الآية التي سبقتها هو انتقال من فضاء ملموس، فضاء السير والنظر في سياق حربي إلى فضاء الإيمان والاعتقاد والصراع، الذي يمكن أن يكون بين المرء المختل من جهة إيمانه، والكون المتوازن بواسطة العدالة والحقيقة الربانيّتين. غير أن ما يشدّ الانتباه في معنى الحسرة القرآني ليس هذا الانبتات الدلالي وإعادة تأسيسه على أرضيّة العقيدة؛ بل إن النصّ القرآني استعمل الحَسرة في سياق تركيبي فريد، كما في قوله تعالى في سورة يس (30): (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم من رسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أو في سورة الزمر (56): (أن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) ففي الآيتين اقترنت الحسرة بالنداء وكأنّها حيّ ينادى ويجيب، وهذا استعمال وإن كان معروفا عند العرب فإنّ فيه ضربا من مناداة المعاني بدلا من الأعيان والذوات؛ ولقد توقّف الزجاج النحويّ عند هذه المسألة فقال: هذا أصعب مسألة في القرآن، إذا قال القائل ما الفائدة في مناداة الحسرة والحسرة ممّا لا يجيب؟ قال: والفائدة في مناداتها كالفائدة في مناداة ما يعقل، لأنّ النداء باب تنبيه. وهذا يعني أن التنبيه واقع لا على العباد المتحسّر عليهم: أنّهم لم يحسنوا إلى الأنبياء بل كذبوهم وشنّعوا بهم؛ بل التنبيه واقع على الحسرة نفسها، لا على البشر المذنبين بما كذبوا، بل بما أنّهم موضوع حسرة تظلّ تلاحقهم إلى أبد الآبدين هي أعظم وقعا من الذنب نفسه ولاسيّما إن كان من اقترفه لا يقدّر التقدير الجيّد ما اقترفه من ذنب.
هذا التجريد لمعنى الحسرة هو رأس تطوير المعنى الذي كان سائدا: معنى الانكشاف والتعب. لقد باتت الحسرة نفسيّة دخل بها النصّ القرآني إلى الضمائر التي تقترف الذنوب، ولا تعرف جرم ما اقترفت. بهذا المعنى نشهد في النصّ القرآني تأسيسا لمعنى روحي عميق هو معنى محاكمة الذات البشرية المفردة، أو المجتمِعة متمثلا في التسليم بالجرم والناس في غفلة عنه، ويقتضي التحسّر وعيا أو تنبيها إلى ما حدث من جرم للكفّ عنه، ويقتضي أيضا إيمانا وتسليما بأنّ في النفس داء يظلّ ينخر ولا دواء له غير الإيمان بما نزّل الله وبتفاصيله. هنا تصبح اللغة في سياق من سياقات استعمالها، ضربا من تملك الألفاظ وإعادة توزيعها على المعاني الجديدة وفي هذا التوزيع لم يفقد المعنى صيته القديم، لكنّه اتبع حركة جذب إلى الداخل، إلى النفس وقد كانت حركته مندفعة من الداخل إلى الخارج. تحوّلت حركة المعنى من دابّة متعبة إلى نفس كليلة ومن جنديّ حسير الرأس أو امرأة حسيرة الوجه، إلى حسرة هي موضوع للنداء هي معنى دائر على نفسه لا مخرج له إلاّ التوبة، بما هي نقيض عملي وروحي للحسرة التي في غيابها تظلّ عشّا لكلّ ما يربك النفس ويقضّ مضجعها حتى يناديها الموت إلى مضجعها وعندها يبدأ الحساب.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية