نداءٌ عارٍ

الوقت يرسل ترّهاته عبر الأزقة والشوارع، وفي الساحات المفتوحة على مصاريعها للقادمين من كلّ حدبٍ وصوبٍ للولوج في عوالم جديدة؛ لم يمتحنها الزمن بعد بتجاربه القاسية، تنطلق صيحات تنادي بالعودة إلى هناك؛ حيث الكلّ يقف ضدّ الكلّ، والأجزاء المتبقية من الكلّ أيضاً، تحارب نفسها في معركة لا نهاية لها سوى أن تتوقف الجهات عن إرسال المزيد من الموت نحو تلك الصدور العارية من كلّ شيء إلا من الموت نفسه، حين فتحت الأوردة أبوابها ليكتمل بهاء المشهد على آخره، ويغدو الرقص في حلبة النزع الأخيرة أجمل مما كان لهم، ويبقى النداء عارياً من كلّ شيء إلا من نفسه التي ما يني يبحث عنها بين الحطام، الذي أكل الجميع بجريرة البقاء تحت سقف يتهاوى، كلّما أمعنت الجهات في ضرب الحجارة ببعضها في ليلٍ مغدقٍ بالسواد، لإشعال الفتيل مرةً أخرى كلما أمعن في الانطفاء، فيكون النداء والليل أخوة في الدمّ معاً، أخوة في الدمّ المراق عبر سنين طويلة من الانتظار والألم والعذاب.
الذعر في كلّ مكان! وما كان لهذا النداء الذي ارتفع ذات يوم، سوى أن يمضي بسيله إلى حتفه، ليكون المصير القاتم وحده هو ما جمعه حصاداً لأيامٍ الرماد والخوف، وتتخذ تلك الأرواح من الشمال موطئ قدمٍ لها؛ لتبتعد كلّما أمكن من الحرائق التي اشتعلت في القلوب، وتحت الجلود، فأحرقتها بجريرة حبّ لم ترتكب فيه أي ذنب.
ها هم على مبعدةٍ من هناك، على مبعدة قذف حجرٍ لإيقاد شمعة الميلاد مرة أخرى في تلك البيوت التي باتت خلاء، ووحشة مغانيها، وشتّى جموعها، لتعيد ذكرى تعانق الأرواح في سريرٍ طالما جمعهم، وهدهدهم معاً على يد أمهم، التي رحلت هي الأخرى عن عالم سكنه الضباب والخوف، وصمّ الأذان عن سماع صوت العشق الأبديّ، لتكون الحدود، وبعض من ترهات الوقت في حديثٍ مسترسلٍ عن تواريخ ستعيد نفسها، وركوعٍ على الأرض لمعانقة ذلك التراب عندما تطأ الأقدام أول ذرّة منه، في نقطة باتت ترسم خرائط التيه والضياع بين بين، وبين هنا وهناك.
خليطٌ من بقايا الأجساد التي تاهت في المجهول تقف على الحدود، تنتظر أن تلثم التراب الذي كانوا أبناءه ذات يوم، والزمن يمضي بهم نحو القيامة، فالقلوب تدقّ دقاتها الألف، والمسيرة على أحرّ من الجمر، والخطوات تعدّ كلّ واحدةٍ منها الأخرى؛ في امتحان للصبر؛ لإنهاء سنوات الانتظار، فمنذ أن ارتقت الرحلة سلالم الخوف على جدران البعد، وانطلقت في رحلتها المحمومة إلى الهاوية؛ لعلها تجد فيها الخلاص؛ وهي ما تزال تحفر الأرض بمحاريث الشقاء عبثاً، فالغربة كانت أقوى من كلّ شيءٍ رسموه في دروب التيه، ورسمت آثار جراحها على جباههم المجعدة، مثل أرواحهم المكلومة، وحين عاد الشطّ بهم ليجعلهم يعانقون التراب ربض الخوف على أفئدتهم، وتركهم في وطيس حُماهم، ونار حنينهم، كيف سيلقون عليه التحية، وبمن سيلتقون يا ترى، وهل بقيت الدُّور كما هي، منذ أن تركوا ملاعبها، عندما أداروا لها ظهرهم إلى قيامتهم الميتة، ما من أحدٍ يتجاسر على التفكير بالإجابة عن سؤال يمضّ القلوب ويؤلمها، فالخوف من العودة إلى التاريخ الأزلي، من العودة إلى أزمنةٍ سكرى، من طفولةٍ بريئةٍ بقيت وحيدة خلف ظهرهم، وعادوا إليها وهم في ريعان الشباب، لتضيف على الطفولة بطولة المحاولة، والفوضى الحمقاء، التي قادتهم لحتوفهم عند التقاء النهر بالأسلاك، فعبروها بكلّ جسارة بأجسادهم، لكنهم نسوا أن التيه لن يسمح لهم بالرقص إلا على حباله، نشداناً للخلاص العابث ببقايا الأحزان، فليحاولوا أن يرسموا الخرائط مرة أخرى؛ لعلها تسكن نجيع اشتياقهم، وتطفئ النار التي تشتعل تحت جلودهم توقاً للأبدية.

روائي سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية