اليمن: جدل السياسي والديني في وفاة عبد المجيد الزنداني

أحمد الأغبري
حجم الخط
0

الخصوصية اليمنية في العلاقة ما بين الديني والسياسي؛ زاد من تعقيدها شوائب الحرب الراهنة، التي ساهمت في تعميق الهوة بين التيارات السياسية والثقافية.

صنعاء ـ «القدس العربي»: الشخصيات الدينية المؤثرة سياسيا عادة تترك أثرا في معظمه مرتبط بالعاطفة؛ لكن التأثير العاطفي لا يقتصر على الاتباع والموالين، بل يمتد إلى الخصوم في وجهه الانفعالي المتهكم؛ وهو ما تجلى انقساما وجدلا حادا في اليمن إثر وفاة الداعية الإسلامي والسياسي ذائع الصيت منذ ستينيات القرن الماضي؛ الشيخ عبدالمجيد الزنداني (1942-2024) الذي توفي الاثنين الماضي في اسطنبول.

والزنداني شخصية لا يمكن تجاوز تأثيرها وفاعليتها في مسارات العمل السياسي والتعليم الديني والدعوة الإسلامية في اليمن؛ فهو أحد مؤسسي أكبر الأحزاب الإسلامية في بلده (حزب التجمع اليمني للإصلاح) ومِن مؤسسي هيئة علماء اليمن، وأحد مؤسسي الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة ومقرها السعودية، ومؤسس جامعة الإيمان، كما شغل عددا من المناصب الحكومية، منها عضو مجلس الرئاسة عام 1993م؛ وكان له دور بل أدوارا في عدد من محطات التاريخ السياسي اليمني المعاصر، لا يمكن تجاوزها أو إغفالها بناء على موقف منه له أو عليه، وبصرف النظر عن الاتجاه الذي يمكن الانطلاق منه في قراءة هذه الأدوار سلبا أو ايجابا.
لقد انقسمت نخبة المجتمع اليمني بين مؤيد لا يناقش فيما يعتبره عظمة ما قدّمه الراحل للإسلام والمسلمين، وليس لليمن واليمنيين فحسب، وبين ناقد رافض للأثر الذي خلفه الراحل؛ وهو أن أثره، من وجهة نظر هؤلاء، لا يتجاوز تكريس العنف والتطرف والإسهام في تعطيل قدرات الشباب الإبداعية، وخاصة من خلال مشاركته في صناعة قرار توجيه مناهج التعليم المدرسي خلال مراحل معينة من تاريخ اليمن…إلخ كما يرى أصحاب هذا الرأي؛ وبين أولئك وهؤلاء مواقف أخرى.
لقد أثارت وفاة الزنداني جدلا تجاوز اليمن إلى محيطه الإقليمي، وبلغ الأمر بقنوات تلفزيونية محسوبة على الرياض بشكل غير مباشر أن نشرت تقارير سفّهت ما قدّمه الزنداني، بل واتهمته بأنه الأب الروحي لأسامة بن لادن؛ على الرغم من العلاقة الجيدة التي كانت تربط الزنداني بالمملكة.
ويتصاعد الجدل بين الديني والسياسي في اليمن بين فترة وأخرى، ككل البلدان العربية، وخاصة مع وفاة عالم دين احترف السياسة؛ ففي الوقت الذي سجل رحيل مفتي الديار اليمنية، محمد بن إسماعيل العمراني (1921-2021) صخبا لم يرافقه هذا الجدل؛ لأن الرجل لم يمارس السياسة؛ فقد كان الصخب عاليا وجدليا في منصات التواصل الاجتماعي عقب وفاة الداعية والسياسي، الشيخ عبدالمجيد الزنداني.
لا أعتقد أن عالم دين يمنيا أثارت وفاته كل هذا الجدل، كما أثارت وفاة الزنداني، بل لقد وصل الخلاف والجدل حتى لامس مسألة جواز وعدم جواز انتقاد المتوفي من الشخصيات العامة؛ وهنا سجل نشطاء في منصات التواصل اختلافا في هذه الإشكالية؛ فمنهم من التزم نهجا دينيا خالصا عملا بالأثر «أذكروا محاسن موتاكم»؛ لكن بعض هؤلاء، للأسف، من مريدي الراحل بالغوا والتزموا خطا تبجيليا في وصف وتقديم تجربة الراحل وأثره، وكأنهم كانوا من خلاله يدافعون عن تيار ما، وما يعتبرونه فاعليته الإيجابية خلال مسيرة حياة الراحل؛ بل إن بعضهم أساء إليه، بهذا الخطاب، من حيث لا يدري. وهناك من رأى أن وفاة الشخصية العامة سواء كانت دينية أو غير ذلك تفتح الباب أمام الناس ليقولوا فيها رأيهم، ويتناولوها بالنقد، خاصة إذا كانت صاحبة سطوة في حياتها تمنع نقدها؛ وهؤلاء ذهب بعضهم مذهبا بالغوا معه في الابتعاد عن الموضوعية، وكتبوا نقدا تجاوز مهابة الموت وموضوعية طرح مسار التجربة الحقيقي، إلى استعادة الخصومة في فحواها السياسية والفكرية السلبية وصولا إلى التشفي لدى البعض، إلا أنه كان بين هؤلاء وأولئك فريق انطلق من التعليق على الشخصية بسرد قصص شهدها صاحبها، وكان للراحل فيها حضورا وتأثيرا (وهي هنا قصص وقضايا بل واتهامات عديدة لكن طرحها كان هادئا وخاليا من أثر انفعال خصومة أو تشف) بمن فيهم مَن ناقش علاقة الراحل بقضية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وما أعلنه عن علاجات لأمراض خطيرة لم يكتشف العلم الحديث علاجا ناجعا لها كمرض الايدز، بالإضافة إلى ما تضمنه كتاب «التوحيد» الذي ألفه الراحل، وكان ضمن مقررات المنهج الدراسي لطلاب الثانوية في اليمن في مرحلة معينة، من معلومات نفاها البعض وعلقوا، في سياقها، على مسألة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وردود الزنداني على ما تعرف بالشبهات.. كقضية نقاشية إشكالية ما زالت سائدة في الغالب بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي واليساري تحديدا؛ بل إنها ما زالت قضية إشكالية داخل التيار الإسلامي نفسه؛ إذ أن بعض أعلامه ينتقدها ويفرغها من فحواها بل ويرفضها، وبعضهم يرفع من شأنها، وزد على ذلك الخصوصية اليمنية في العلاقة ما بين الديني والسياسي؛ والتي زاد من تعقيدها شوائب الحرب الراهنة، التي ساهمت في تعميق الهوة بين التيارات السياسية والثقافية اليمنية.
تبقى العلاقة بين الدين والسياسة إجمالا علاقة جدلية لصعوبة الجمع بينهما، وما يترتب على ذلك سلبا في علاقة صاحبهما بالمجتمع؛ إذ من الصعب تديين السياسة، وفي الوقت نفسه من الصعب تسييس الدين؛ لأنهما نهجان يسيران في مسارين متوازيين لا يلتقيان؛ فالأول يقوم على القيم الأخلاقية الإنسانية الرفيعة فيما السياسة عمل محكوم بالمصالح؛ ولا تؤمن بالأخلاق، في سبيل تحقيق الغايات؛ فالسياسة- مثلا- قد تبيح لصاحبها الكذب بينما الدين لا؛ وفي الوقت نفسه فإن ممارسة الديني للسياسة ستدفعه لاستخدام الدين في الترويج للموقف السياسي؛ وهنا ستتدخل العاطفة الدينية في صياغة الموقف السياسي لدى متلقي الرسالة الدينية؛ والعاطفة الدينية هنا لا يمكن التحكم بردود فعلها لدى العامة، وهم يتلقون الموقف السياسي إزاء الآخر من الديني صاحب التأثير «باعتباره مرتبطا بمهمة الدفاع عن نهج الله».
ومثل هذا الطرح ظل وما زال قضية إشكالية بين الفكر الإسلامي والفكر المدني الليبرالي، وخاصة في رؤيتهما لعلاقة الدين بالدولة؛ وتبرز هذه الإشكالية يمنيا أكثر تعقيدا إزاء مناقشة ما شهدته منصات التواصل الاجتماعي عقب وفاة الزنداني؛ لاسيما وهو في نظر البعض كان «من أقوى الشخصيات المدافعة عن شرع الله في اليمن»؛ وتجلى ذلك بوضوح فيما عُرفت بمعركة تعديل الدستور اليمني في مستهل التسعينيات، وما شاب الخلاف بين التيار الإسلامي والتيار اليساري من قضايا واتهامات لم تحسم حتى اليوم، وعلى الجانب الآخر هناك مَن يرون فيه أحد أبرز عوامل نشر ثقافة التعصب والعنف في المجتمع وكبح جماح قيم الإبداع والتعايش. وبملاحظة المسافة بين الموقفين من الطبيعي أن يغيب المنطق في طرح كل طرف لرؤيته بموضوعية، لاسيما وقد حضرت العاطفة والانفعال لدى طرفي الموقفين؛ مع رفعنا من شأن من اتخذوا مواقف أكثر عقلانية وموضوعية، وهم يناقشون بعض محطات تجربة الراحل.
على الرغم من كل ذلك، يبقى الشيخ عبدالمجيد الزنداني، أحد القيادات اليمنية التي كان لها تأثير واضح منذ ستينيات القرن الماضي في مشهد البلد السياسي؛ والتاريخ كفيل بأن يقول كلمته وشهادته في هذه التجربة وعلاقتها بالدين والسياسة؛ منطلقا من بُعد منهجي ورؤية موضوعية يُعيد من خلالها قراءة ما خلفه الراحل من كتب وأفعال ومآثر؛ ويضع ذلك للناس؛ وخاصة فيما يتعلق بالقضايا التي رافقت تجربته، ومثلت وما زالت تمثل إشكالا لدى الكثير أثناء مناقشتها.
وأصدرت هيئات إسلامية مختلفة بيانات في نعي الزنداني، واسهبت في ذكر محاسنه ومآثره كما تراها؛ كما شارك في تشييع جنازته وتعزية أهله وذويه عدد كبير من القيادات اليمنية وقيادات الحركات الإسلامية في العالم.
وكان آخر ظهور للزنداني في مستهل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودعا في كلمته جميع الأحزاب والجماعات والشخصيات للتوحد لنصرة غزة. وقال «على كل جهات المسلمين أحزابا وجماعات إطفاء خلافاتهم، ونبذ ما يفرق اجتماعهم، والسعي للصلح فيما بينهم، وفعل كل ما هو مطلوب ليكونوا قادرين على القيام بواجب النصرة لإخوانهم، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» مستشهدا بقوله تعالى «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم». وهو موقف يحسب له، ويضاف إلى رصيده.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية