مأساة الكتّاب الروس لجودت هوشيار… أدبٌ عصيٌّ على الموت

يبقى مفهوم الظلم في النهاية وبالمحصلة واحداً، وتختلف معه الطريقة التي تتم فيها ممارسة العنف، وتوجيهه من طرف إلى آخر في المجتمعات، وطبيعة الطرف الذي يمارس هذا العنف، والذي يولّد معه، وفي الوقت نفسه مآسي كثيرة، يعجز الوقت عن مداواتها، أو التخلص منها، إذ يبقى الإنسان رهيناً لها، في كافة مراحل حياته، ولا يستطيع التخلص منها، ولا من آثارها، التي تدوم دوام الحياة الإنسانية نفسها، وربما تمتد آثار هذا الظلم، وتلك القوة التي يمارسها طرف إلى كافة أبناء المجتمع، ولا تقتصر على شخص، أو فئة بعينها، لذلك تأتي النتيجة جماعية، ويكون الغبن جماعياً وشاملاً، ولا يستثني من لعنته أحد، خاصة عندما تكون القوة التي تمارسه كبيرة تمتد على مستوى الدولة، أو تقوم بها الدولة كحالة منظّمة، ومقصودة، وموجهة ضد فئة خاصة في المجتمع، كالكتّاب والشعراء والمثقفين، الذين ترى فيهم هذه الدولة مصدر خطر عليها، وعلى وجودها، كيانها وأفكارها الجديدة، التي انطلقت بها إلى الحياة، لتنشرها على الملأ، وحين تشعر بأن هناك طائفة تحاول كل جهدها فضح تلك الأفكار، ومدى الظلم الذي يكتنفها، تسعى الدولة بشدة إلى قمعها، ومنعها من التعبير بحـــــرية عن نفســــها، ومجتمــــعها، وتقف في وجهها؛ لأنها ترى فيها هـــلاكها، وفشل مشاريعها.
في كتابه «مأساة الكتّاب الروس» للكاتب جودت هوشيار، الصادر عن دار الزمان، الطبعة الأولى، 2019، ويقع في 216 صفحة، من القطع المتوسط؛ يسلّط الكاتب الضوء على هذه المعضلة، إذ يوضح لنا مدى الظلم والغبن والاستغلال الذي كانت تمارسه الدولة في حق الكتّاب والشعراء والمفكرين، وتحاول كل جهدها في إلحاق الأذى بهم، لأنهم، ومن وجهة نظر هذه الدولة كانوا الشريحة والفئة الأكبر التي كانت تهدد مصالحها، وتمنعها من الاستمرار في نهجها المرسوم من قبلها فقط، إذ لا يتوجب على أحد التفكير إلا في ما ترغب فيها الدولة، ولا يتوجب على أحد الكتابة في أي موضوع من المواضيع الحياتية، إلا في ما ترى الدولة أنه مناسب للمرحلة، والواقع الذي يعيشون فيه، وتسببت هذه النظرة بالكثير من المشاكل في حياة الكتّاب والأدباء الروس، لدرجة أن الكثيرين منهم دفعوا حياتهم لأجل ذلك، خاصة بعد نشوء الدولة الاشتراكية، والاتحاد السوفييتي، وانتشار الأفكار الجديدة بين الناس، التي دفعت بالسلطة كمنطق، وأمر واقع إلى التغنّي بها، وترك كل شيء لا يمت إلى الثورة بِصِلة، لأن المرحلة كانت تتطلب ذلك، من وجهة نظر السلطة الجديدة القائمة، ولابد من تسليط الضوء على الثورة، وحماية مكتسباتها، والكتابة عنها فقط، وهذا ما دفع بالكثير من الكتّاب إلى الانسلاخ عن واقعهم، وعدم القدرة على الانسجام والتكيّف معه، وفيه، ليعانوا الأمرّين من السلطة الاشتراكية القائمة، ودفع بالبعض الآخر إلى الاستفادة من المرحلة ليصبحوا بعد مرور أزمنة كثيرة أدباء وشعراء البلاط، والمستفيدين الرئيسيين من الواقع الجديد: «وتكيّف المنصاعون لتوجيهات الحزب الأيديولوجية مع الوضع الجديد. ولم تتم ملاحقتهم أو اعتقالهم، بل ظلوا يكتبون وينشرون في إطار المذهب المفروض عليهم، ولكنهم انتهوا ككتاب مبدعين… ويتم تكريمهم ماديا ومعنويا بمنحهم الجوائز الأدبية والأوسمة التقديرية والشقق السكنية ومنازل في الضواحي كمكاتب لهم بعيداً عن ضجيج المدينة».

كانت: «مصائر أفضل الكتّاب الروس في الحقبة السوفييتية – أولئك الذين يشكّلون اليوم مجد وفخر الأدب الروسي الحديث – تراجيدية ومفجعة، فقد انتهت حياة المئات منهم في ساحات الإعدام، وقضى آلاف آخرون نحبهم في معسكرات الاعتقال والأشغال الشاقة في أقاصي سيبيريا.

هذا الواقع دفع الكتّاب إلى نوع من عدم الرضا، والرغبة في تغييره، على الرغم من إدراكهم، أنهم مقبلون على مقاومة عنيفة من قبل السلطة، ورد فعل ظالم وشديد، ويورد الكاتب الكثير من ملامح هذا الظلم، وتلك القوة التي مورست عليهم من قبل الدولة، خاصة في أيام ستالين، إذ أن الكاتب يروي تلك الحقيقة التي وقعت، ووقف عليها، بعد الذي جرى لأولئك الأدباء والكتّاب بقوله: «لقد هالني أن أكتشف، كم كانت مصائر مئات الكتّاب والشعراء الروس تراجيدية، وكم عانوا من عسف السلطة في العصور المتعاقبة، وكيف أنهم تمسكوا بمبادئهم الإنسانية والأخلاقية، حتى في أصعب الظروف، وترفّعوا عن المغريات المادية، وظلوا مرفوعي الرأس، ولم ينحنوا أمام جبروت السلطة، ولكن من غير الممكن الكتابة عن جميع الذين راحوا ضحية للإرهاب الستاليني، بين دفتي كتاب واحد، فهم بالمئات، كما أن قائمة بأسمائهم، قد لا تعني للأسف الكثير عند من لم يقرأ أعمالهم، لذا كتبت عن عدد من أبرز من تعرّضوا للاضطهاد في تلك الفترة المرعبة على يد «جبلي الكرملين»، وجبلي الكرملين هو (ستالين) نفسه.

صور من أشكال التعذيب التي تعرّضوا لها

يذكر لنا الكاتب في طيّات كتابه «مأساة الكتّاب الروس» الكثير من تفاصيل صور التعذيب وأشكاله التي تعرض لها الكتّاب الروس على يد السلطة، والقمع الذي مارسته ضدهم؛ من ظلم إلى إرهاق، إلى نفي وتشريد، وأخيراً وليس آخراً الموت؛ وبطرق شتّى، إما نفياً في سيبيريا، أو عن طريق أجهزة ومؤسسات أمنية خاصة بهذه المهمات، أو القتل، وعلى مرأى الناس، ولأسباب وحجج واهية، لم يكن يصدقها أحد، والتهم في كل ذلك كانت حاضرة بالطبع، معاداة الأفكار الجديدة، الوقوف ضد مشاريع الدولة، والنهج الثوري، والعمل مع العملاء الرأسماليين ضد الدولة الاشتراكية، وغير ذلك من تلك التهم التي أودت بحياة الكثير من الكتّاب: وقد كانت: «مصائر أفضل الكتّاب الروس في الحقبة السوفييتية – أولئك الذين يشكّلون اليوم مجد وفخر الأدب الروسي الحديث – تراجيدية ومفجعة، فقد انتهت حياة المئات منهم في ساحات الإعدام، وقضى آلاف آخرون نحبهم في معسكرات الاعتقال والأشغال الشاقة في أقاصي سيبيريا، من الجوع والمرض وانعدام الرعاية الصحية»، كما حصل مع (ألكسندر بوشكين- ميخائيل ليرمنتوف- فيودور دستوفسكي- نيكولاي غوميلوف- ألكساندر بلوك- سيرغي يسينين- فلاديمير ماياكوفسكي- مكسيم غوركي- بوريس بيلنياك – إسحاق بابل- ميخائيل بولغاكوف- ألكسندر فادييف- بوريس باسترناك- جوزيف برودسكي- أندريه سينيافسكي- يولي دانيال- ألكساندر سولجينيتسن). وغيرهم الكثير ممن تعرضوا إلى الملاحقة من قبل السلطات: «الستالينية، والخروشوفية، والبريجنيفية، والبريسترويكا الغورباتشوفية، وصولاً إلى يومنا هذا».

٭ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    كثير ممن جاء ذكرهم من الادباء الروس فيالمقال اعلاه

    ماتوا قبل الحقبة الستالينية الشيوعية بحقب زمانية

    تحياتي

  2. يقول طارق عبد الواحد:

    مقال قيّم ثري بالمعلومات الجديدة ، في موضوع غير مطروق عربيا .

إشترك في قائمتنا البريدية