في «آلام ذئب الجنوب» لمحمد المطرود… الجهات كلّها مدائح للألم

كبير هو الألم بحجم معاناة تلك الأرواح التي اتخذت من تلك البقعة في أقصى الشمال الشرقي من سوريا ملاذاً لها، وسكناً ومستقراً، إلى حيث تطلعت ذات يوم، في تلك اللحظة التي جاؤوا فيها يجرون قوافل الأمل، بحياة سعيدة، ويرتدون قناع القناعة، جاعلين منها كنزاً لا يفنى، لتبقى قناعاتهم طي قلوبهم، وقاب قوسين أو أدنى من الدرك الأسفل من الجحيم الأبدي؛ الذي طرق أبواب تلك الأرواح، لتكون ريح الهاجرة من نصيبهم، وتتعلق عيونهم في سماء مفتوحة على غاربها، تحت رحمة غيوم شتاء لم تحمل لهم يوماً ما قطرة مطر إلا لماماً، لتنزع في شوق أبدي إلى الخلاص عبثاً، من آلام سكنت عميقاً كمُدىً في قلوبهم، وخطّت ملاحمها فوق جلودهم المتعبة مثلهم، ووجوههم المعفرة بتراب أرض لن تورثهم لحظة سعادة أبداً.
هي رحلة السفر في تلك الأراضي التي نالت منها الأيام، وتاهت في المجهول؛ مع المجهول الذي كان يسكنها هناك، منذ أول يوم لهم فتحوا فيه أعينهم على الدنيا، ليستحثّوا الخيال على بارقة قد تظهر من السماء، وتكون رمزاً لانعتاقهم من ظلال الأيام العابسة في وجوههم، فكانوا وكانت الجهات كلها تمدح الألم في نشيد متصاعد نحو الأفق المفتوح على كافة الاحتمالات: «أترك لك في بيوت الطين عشّاً، وفسحة من سماء في ليل القرى… قلت لشريكتي: أطفئي الضوء، أريد احتضان النجوم كلها، أريد عينيّ تبددان العتم، وتسعدان، وترممان سماء بأقمار مكسورة مما خلّفته الطائرات، أترك عيني مفتوحة لعل سنونوة واحدة عائدة إلى هنا، لأسألها: هل تعرفينني، هل لك بيت في بيوتنا. كنت أريد أن أرى أثراً عالقاً في جناحيها، ولو كان ناراً، أو رائحة موتى».

الحنين يفتح بوابة الحياة بانكساراتها

«الحنين ليس اجتراراً ولا طمأنينة فيه، تمنح الراوي البعيد عن أهله رواية محايدة ونزيهة، وتتركه يتحدث عن منجز الحياة الجديدة، بوصفه أحد روّاد فندقها، إنما الحنين سكين حادّة… ثمة حزّ عميق في مقطع الروح».

تتحول الذكريات بمرور الزمن إلى ظلال تتحكم في ذواتهم، وتنساب إلى رئاتهم، وتترك آثارها على جلودهم، لتغدو تلك الآثار وشوماً لا يقوون على انتزاعها أبداً، ويتماهون معها في كل واحد، فتصبح هي هم، وهم هي

ففي تلك اللحظات التي ترتقي فيها الأرواح سلالم الحياة، وتتابع رحلتها في كافة الدروب، بحثاً عن وطنٍ لن يكون إلا هنا، في قلب تربع على ذاكرة أيامهم ومنعهم من الخروج من دائرة الشوق، كي لا يفكروا إلا به، فيكون الحنين بوابة مفتوحة رتاجات أبوابها، تهفو إلى العودة، حيث كانت الحياة جميلة، على الرغم من كل شيء أعينهم طبعاً، لأنهم لم يعتادوا إلا على العيش في ذلك الشرق البائس، الذي مدّ جناحيه كطائر كبير نحو الاتجاهات؛ ليحول دون سعادتهم، ليتجدد موعدهم مع كل فجر، وفي كل نسمة هواء يحملها الشرق إليهم؛ وهم على ظهر مراكب السفر، نحو جميع أصقاع الأرض؛ ليرووها بحنينهم؛ وشوقهم الأبدي إلى لمّ الشمل مرة أخرى في ذلك الجنوب الذي ما استطاعوا أن يتخلصوا منه حتى في أحلامهم، ليفتح الحنين ناعورة الدم في أجسادهم، ويتحوّل إلى مدية حادة تحزّ عميقاً في مقطع أرواحهم التائهة في الدروب كلها.

مناجاة روحية

لليل قصصه التي لا تنتهي عن رواة كانوا يشعلون لحظاته بأنينهم، وحكاياتهم التي لا تقف عند حدّ، فيروون كل ما حدث معهم في ذلك المكان، وينقلون ذلك الكلام إلى الليل وحده؛ ليكون شاهداً على كل شيء، وحدها المسافات التي يقضون فيها حياتهم تختصر نهارهم، لينقلوا أخبار تلك الحياة التي عاشوها إلى الليل، فيكون الخصم والحكم لهم في آن، لعلهم يتداوون من البعد بالبعد. بعدٌ روحيّ يتلوه آخر في صحارى العمر، التي أتت على كل شيء، ونالت من كل شيء في عالمهم المسكون بقلقهم؛ وفوضى المكان المنفي عن العالم بأجمعه: «في الليل أوقظ التلال، أشعل في رأسها النار، وألوّح لبيتي الطيني من علٍ تلويحتي الأخيرة – أدّعي أني أودّع – أتنفّس ما تنفثه المداخن المتأججة بالروث، يتماهى الدخّان بالضوء، وتتماهى أغنيتي بأصوات الكلاب، مكان عالٍ، ولا أحد قال: إن الطوفان آت، فاجمع أهلك كلهم وخيلهم وكلابهم ومؤونتهم».

وشوم عميقة

تتحول الذكريات بمرور الزمن إلى ظلال تتحكم في ذواتهم، وتنساب إلى رئاتهم، وتترك آثارها على جلودهم، لتغدو تلك الآثار وشوماً لا يقوون على انتزاعها أبداً، ويتماهون معها في كل واحد، فتصبح هي هم، وهم هي، في كلّ واحد لا يتجزّأ؛ لتعطي صورة واضحة عن ملامح الحياة، وآثار التعب التي كانوا يعانون منها، فالبيت، الشارع، الأزقّة، الأطفال، الأحبة، سيارات الأجرة، البائعون المتجولون، ماسحو الأحذية، كلهم صاروا وشوماً في حياته، وذاكرته، ويصعب عليه أن ينتشلهم منها: «وكنت أجد الحياة مستحيلة بلا هذه الوشوم العميقة، والأسنان التي علقت بي كخرز عتيق يحمي من العين، ويطرد الشرّ، والحرب عن جسدي، ونافذتي على الشارع».

«آلام ذئب الجنوب» للكاتب محمد مطرود، صادر عن دار ميسلون للطباعة والنشر عام 2019، ويقع في (120 صفحة)، من القطع المتوسط.

٭ كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية