«شوكولا» للسوري علاء زريفة: نفسٌ ممزّقة في الأمس

قصائد تحاكي السرد في رؤيته الواقعية، ولغة تحتفي بدفقات شعورية عالية، لتنقل صورة واضحة عن ذلك الواقع الذي يعيش فيه الشاعر، وتضعنا أمام تجربة جميلة، وكلمات حالمة بلحظات سعيدة، تلقي رسائلها بصدر رحب على الأوراق التي تحترق لملامستها، ليتطاير ذلك الدخّان في الأفق الأرحب، وفي السماء البعيدة، لتعيد تشكيل عالم ينعتق فيه الشاعر من البكاء، ومن الدموع، التي كانت تسير من عينيه طافحة بصور وذكريات قديمة، عن مآسٍ كانت، وعن أيام مازالت تحاول أن تعيده إلى حزنه.
في الديوان الشعري، «شوكولا» للشاعر علاء زريفة، الصادر عن دار نشر دلمون الجديد، عام 2019، ويقع في 120 صفحة، من القطع المتوسط، دلالات تطرق أبوابا موصدة، تلقي ما في جعبتها، موضحة حالة الضياع التي يعاني منها، وتختزل فيها تجربة شعرية تعبر عن شخصية قلقة إزاء عالم يعج بالمتناقضات، التي تقف حائلة دون تحقيق رغبته في الخلاص، وفي تحويل الموت إلى حياة، بالإشارة إلى الموضوع بطريقة غير مباشرة، وعبر مفارقات كثيرة نستدل بها من خلال الجمل المكثّفة، والنص الذي يفتح روحه للسرد ليسفعه في حالته، فيتمكن من التعبير عن كل ذلك، ويتمكن بالتالي من ترويض الموت، وتحويله إلى حياة، فالمكان لم يعد كما هو، موحشاً طاغياً وقاتلاً، ولا حتى الزمان نفسه، هو مكان يعبق بالحرية، بالفرح والحب، لأن الحب عطاء، يرتبط بدنيا البشر، وبمعاني النماء، الخير، الخصوبة، الشاعرية، والإنسانية بالنتيجة، وإصرارها على البدء من جديد، كلما وجد الفرصة سانحة للبدء، فالوجود لا يستقيم بالنهاية إلا بالتسلح بروح المقاومة، والانطلاق بأشرعة الأمل لمعانقة شواطئ الأبدية.

غربة تعبر آخر محطات العمر

التأثيث لحالة إنسانية، وللغربة لعبور آخر محطات العمر من أجل بلوغ الروح كمالها المطلق، والانسياب كنهر نحو عالم جميل، عالم حالم، لا شيء فيه سوى حبّ يراقص الأبدية، ويتماهى مع الزمن والمكان في كلٍ واحد، ليكتمل المشهد، وتنسحب الكلمات إلى الماضي، فتعيد حضوره الآسر، وتدفعه إلى المشاركة في شعرية الموقف، وإكمال لوحة النصّ، لتكون تلك الذات التي فقدت نفسها، وأناها، التي تقمّصت الآخر تقمّصته، منذ أول لحظة وقعت عيناه عليها، ليصبح الليل معهما حائراً، لا يعرف أين مكانه، وتجعل روحه الهائمة على نفسها في ضياع لا نهاية له، حيث يكون التجليّ بأبهى صوره، وأشكاله، وحيث ينتفي اغترابه، وينتهي، بعد رحلة تيه، فهي (الحبيبة) تحاصره في كل مكان، وهي المكان ذاته، يقول في قصيدة بعنوان «أغنية أخرى للموت»: «منذ وقف حصاني أعرج، فقدت آخري، فقدت أناي، أناك البعيدة في أوّلي، وأصابني اسمك.. بقلبي، أصاب سهمه.. ورحلت، ووقع ليلٌ من فوضى تهيّؤاته، وقع القمر في حضن الغريبة، يا نفسي الممزّقة في أمسي، في زمان يتداخل في جسم الرغبة، وزغب المحرّم على نهدٍ أخير، في صمت بنفسجة ليكونكِ، في كلّ مكان… حيث أنتِ».

التأثيث لحالة إنسانية، وللغربة لعبور آخر محطات العمر من أجل بلوغ الروح كمالها المطلق، والانسياب كنهر نحو عالم جميل، عالم حالم، لا شيء فيه سوى حبّ يراقص الأبدية

وجع في النبض

ينتابه الوجع في كل مكان من جسده، ويمسك بتلابيب روحه المتعطشة للقاء، فهو الذي لم يعتد البكاء، يبادل ذلك البكاء الآن بالنزف، لا يملأ ذلك الفراغ العابق ببقايا الذكريات في دمه إلا صوتها الذي ينساب عبر أروقة الظلام، فيحيل كل شيء إلى لغة تعجز عن وصف الوجع الذي يعيش فيه، ويقبض على جمر أنفاسه اللاهبة. جسد احترق بعذابات السنين، ومرض ينتشر في ثناياه كلها، مانعة إياه من امتلاك لحظة سعادة، يمضي هائماً على وجهه في الدروب كلها؛ باحثاً عنها، عن روحه التي تماهت معها، رغم الألم المتحكم في قلبه، ويمضي مع الدم في أوردته، ليقع فوق رصيف الشارع، بدون أن يجد من يقف إلى جانبه، أو يسعفه في ذلك الموقف المحرج، والحزين سوى إشارات المرور التي كانت تشرف على الظلام في ذلك الليل البهيم، يقول في قصيدة بعنوان «أنا بخير وأكثر»: «لم أبكِ، كنت أنزف، كان شرياني فارغاً إلا من صوتها، وصرير الليل القائم في حتفي، وخيالها المفارق، ولا شيء واضح، كرة الثلج فوق جبيني، خيط صناعيّ في ذراعي المثقوبة، وبقايا دم في الوريد، ولم أجد لغة إليها، لم ألج صهيلاً على الطريق السريع، وحدها إشارات المرور كانت تسعفني».

منفى أخير

يدخل محراب التيه بعشقه الذي يضيّعه، ويضيّع معه فتاة أحلامه، الصرخة التي تطل من المجهول فوق حقول ذكرياته، جاعلة من الحياة جسراً يمضي به نحو الأبدية، حيث لا وجع يتحكم بقلبه، وقلب قصيدته، ولا حزن ينشد ذاته المنسية في ثنايا الوجع، وآثار ريح العشق التي لا تبارحه، لأنه واقع تحت أسرها، ليقرر العودة إلى واقعه، ولكن هذه العودة مسكونة بوداع الوجود، بالانتحار، بالرحيل، فالشعر لا يزجر الألم، ولا يدفعه إلى التخلص من القلق والخوف الذي يتحكم بروحه، لذلك يحاول أن يصعد ببصره نحوها، لعله يرتاح من بعده عنها، ويحقق رغبته في الوصول إليها بعد اغترابه، فيسكت صوت الحنين في داخله، يقول في قصيدة له بعنوان «تانغو»: «أعود من النهر (منتحراً)، بلا باء البداية، لا أستوطن أغنيتي، لا ألتمس عذراً لبصيري، صاعداً إليك – الحاضرة – حين ترهقين البعيد في ناي البكائيين، وصرخة المغوليّ فوق نهد عابرة، آه يا كأسي العضال، يغرف العاشق في شبر الرغبة، يصاب بشقيقة الكلام نثراً، يخرج من قلبه».

٭ روائي وناقد- سوريا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية