فيلم «صراع الأحفاد»: ترجمة تراجيدية لثلاثية العقل والقوة والمال

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات كانت السينما المصرية مشغولة إلى حد كبير بالقضايا السياسية والاجتماعية، ومهمومة بمُشكلات المواطن باعتباره محور الارتكاز في حركة دوران الحياة اليومية والأبدية، ولأن مثل هذه الموضوعات كانت المُفضلة لدى الفنان نور الشريف، فقد جاء طرحها في فيلم «صراع الأحفاد» الذي أنتج عام 1989 شافياً لرغبته ومُشبعاً لغايته الإبداعية.
لعب المؤلف كرم النجار في صياغته للقصة والأحداث على المكونات الثلاثة للصراع الكوني، الذي تتوارثه الأجيال منذ قديم الأزل – العقل والمال والقوة ـ وبفلسفة الكاتب الحصيف حاول أن يطرح السؤال الأهم، ما هو العامل الأكثر تأثيراً في ميزان الاستقرار والوجود. ولكي تأتي الإجابة من رحم الواقع دفع بأبطال الصراع في أتون التجربة الحية لاختبار ذكائهم وقوتهم وفطرتهم وأطماعهم، وبدأ في رصد ردود أفعالهم تجاه الثروة التي آلت إليهم بعد رحيل جدهم، الذي وضع شروطاً للحصول عليها، سجلها في وصيه وعهد إلى زوجته بتنفيذها حرفياً.
وقد تضمنت بنود الوصية أن تؤل الثروة للأكثر جدارة من أحفاده بالنجاح واكتساب الثقة، التي حددها أيضاً بجدوى ما يقوم به من عمل، ويعود أثره بالمنفعة العامة، ومن ثم تولت الجدة أمينة رزق مهمة المُراقبة والتحقيق لاستبيان العُنصر الأولى بالثقة والثروة من بين الأحفاد المُمثلين في حجازي الشاب الفطري فاقد الأهلية (نور الشريف) وبرهان الكاتب المسرحي والمُثقف النبيل (صلاح السعدني) والحفيد الأصغر المُراهق الذي يهوى الملاكمة ولا يؤمن بغير القوة الجسدية كملاذ للحماية وطريقاً لتحقيق الآمال.
وبناءً على تقسيم الأدوار الحياتية والدرامية تصاعدت أحداث الفيلم وزادت حدة الصراع بين الأحفاد الثلاثة، كل منهم يحاول إثبات أنه الأهم والأجدر بالثروة التي قُدرت بعدة ملايين من الجنيهات، وكانت سبباً في دخول شركاء آخرين من الأغراب حلبة الصراع طمعاً في نصيب من المال، كزوجة برهان المؤلف المسرحي (نورا) التي تسعى لحيازة الثروة لتعويض ما فقدته جراء مثالية زوجها وسلبيته، وكذلك زواج فريدة سيف النصر من حجازي الأبله للحصول على نصيبه إذا ما وقع عليه الاختيار ومحاولة حصولها على توكيل عام رسمي منه بالخديعة والغواية، لتتمكن من التصرف في أمواله.

وبالتطور السلبي للأحداث والتأكيد على وجود غريزة الطمع كدافع قوي للخصومة والعداء، تلاشت سمات البراءة والطيبة داخل شخصية حجازي وصار بمعاونة المُرتزقة والأشرار يشبه الآخرين في الحيطة والحذر والحرص، أي أنه فقد نتيجة نهمه وحبه للمال أهم ما كان يُميزه من الناحية الإنسانية.
أما البطل الرياضي والحفيد الأصغر فلم يتخل قيد أنملة عن أفكاره المادية بما يعني أنه أصبح أسيراً لشهوة الثراء ولم يؤثر فيه وجود الزوجة الطيبة (عبلة كامل) إلى جانبه ودعمها النفسي والوجداني له، فهو يُراهن على حياته في لُعبة الملاكمة، كي يصل إلى ما يصبو إليه، كذلك أيضاً تُصر زوجة بُرهان على الاستمرار في الصراع الدموي لنهايته ضاربة بأفكار زوجها عرض الحائط!
وفي غمرة التناحر والاقتراب من خط النهاية السوداوية لكل الأطراف لم يتمسك بمبادئه وأخلاقه السامية غير برهان، الشخص الاستثنائي الذي يرى في التكالب على المال عودة إلى البدائية والهمجية، وينظر إلى العالم نظرة شاملة أكثر اتساعاً من مجرد التركيز على المكاسب المؤقتة والعرض المادي الزائل. وفي مشهد رمزي مهم لصلاح السعدني أبدعه المخرج عبد اللطيف زكي، وقف البطل النبيل يُخاطب تمثال رمسيس ويشكو إليه أحوال أحفاده الذين تبدلت خصالهم وانقلبوا على قيمهم فتحولوا إلى شياطين في صورة آدميين، هذا المشهد كان تلخيصاً بليغاً لرسالة الفيلم المُستهدفة فقد حمل إسقاطاً على ما يجري في الواقع المُعاصر وفق زمن إنتاج الفيلم وما بعده، حيث الشخص السوي الوحيد برهان هو من يُتهم بالجنون، لأنه خرج على قانون الواقع المشوه، ورفض سلوك الانتهازيين من الأحفاد، بينما لقي حجازي مصرعه تحت أقدام العامة والدهماء من البسطاء الذين نُهبت حقوقهم وضاعت أحلامهم كأنه الثمن الذي يتعين على كل طماع وجشع أن يدفعه جراء ركضه خلف السراب.
لقد اشتدت المنافسة في فيلم «صراع الأحفاد» بين نور الشريف وصلاح السعدني بوصفهما الشخصيتين الرئيسيتين المُترجمتين للمعنى الدرامي والتراجيدي، ورغم التوازن الذي استمر طوال الأحداث على مستوى الأداء بين البطلين، إلا أن كفة صلاح السعدني رجحت في النهاية ربما لأنه تبنى وجهة النظر المثالية، أو لأنه اعتنى أكثر بتفاصيل الشخصية واقترب من روحها الحقيقية، فجاء أداؤه صادقاً ومُعبراً إلى أقصى درجة، بينما ظل نور الشريف مشغولاً بالشكل الخارجي لشخصية حجازي الأبله مُدققاً في طريقة المشي والحركة والكلام، فخانته الموهبة في ما يتصل بالجوهر الداخلي، ولم يلتفت على غير عادته للتأثير السلبي التراكمي للهنات البسيطة ما أدى إلى انفلات زمام الأداء من بين يديه، خاصة في المشاهد الأخيرة، لكن رغم هذه الملاحظة تبقى المُحاولة مضيئة وقوية على مستوى الكتابة والإخراج والرسالة الضمنية.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية