إبان حرب فيتنام في الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كان للاحتجاجات الطلابية الأمريكية ضد الحرب أثر كبير على مسار تلك الحرب. شهدت الجامعات الأمريكية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة احتجاجات واسعة ضد حرب فيتنام من قبل الطلاب والأساتذة شملت مظاهرات وإضرابات واعتصامات للاحتجاج على استمرار تلك الحرب، وقد شكلت هذه الاحتجاجات جزءا رئيسيا من الحركة الأمريكية الشعبية المضادة للحرب، كما ساهمت في زيادة الوعي حول الأثر الضار للحرب وضرورة إنهائها. من الممكن أنه لم يكن لهذه الاحتجاجات دور مباشر في إنهاء حرب فيتنام، إلا أنها ساهمت بشكل كبير في تكوين الرأي العام الأمريكي، وفي التأثير على قرارات الإدارات الأمريكية المتعلقة بتلك الحرب. ولا تزال أحداث جامعة كنت في ولاية أوهايو عام 1970 عالقة في أذهان الأمريكيين حين أطلق الحرس الوطني الأمريكي النار على طلاب كانوا يقومون باحتجاجات سلمية ضد الحرب فقتلوا أربعة منهم. كانت لتلك الحادثة الاثر الكبير لدى الرأي العام ما ساهم في النهاية في إنهاء الحرب عام 1975.
تشهد الولايات المتحدة احتجاجات مماثلة اليوم ضد العدوان الإسرائيلي على غزة ونصرة للقضية الفلسطينية. وفي حين أن أعداد المحتجين لم تصل بعد الى الاحتجاجات الطلابية ضد حرب فيتنام، فإنها في تزايد ملحوظ، وذلك رغم القمع الأكاديمي والسياسي ضد هذه الاحتجاجات السلمية. تتميز هذه الاحتجاجات أنها تجري اليوم في أعرق الجامعات الأمريكية مثل ييل وهارفارد وجامعة بنسلفانيا ونيويورك ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وغيرها. نتحدث عن أرقى الجامعات الأمريكية التي لا يخيف طلابها المحتجين كل الإجراءات الأكاديمية التي اتخذت وتتخذ ضدهم بما في ذلك الطرد، ولا يخيفهم أيضا الضغط السياسي الذي أدى لاستقالة رئيستي جامعة هارفارد وبنسلفانيا.
بالرغم من ازدواجية المعايير الواضحة في التعامل مع هذه الاحتجاجات، وبالرغم من الأصوات المتشددة في الكونغرس التي تبرر الحملة ضد الاحتجاجات بأن هدفها ليس تقييد الحريات الأكاديمية وإنما حماية الطلاب اليهود والوقوف ضد الشعارات «اللاسامية» فإن هذا الصوت الطلابي يكبر كل يوم، معترضا على إبادة جماعية للفلسطينيين لا تقارن لا بحماية الطلاب اليهود الذين لم يؤذ أحد منهم حتى اليوم، ولا بالتهديد المضحك باللاسامية كلما انتقد البعض سياسات الدولة الإسرائيلية.

ما نشهده من احتجاجات اليوم داخل الجامعات الأمريكية مهم للغاية، وقد يكون له نفس تأثير الاحتجاجات الطلابية في الستينيات والسبعينيات

ما نشهده من احتجاجات اليوم داخل الجامعات الأمريكية مهم للغاية، وقد يكون له نفس تأثير الاحتجاجات الطلابية في الستينيات والسبعينيات، فلم يعد الجيل الجديد داخل المجتمع الأمريكي مقتنعا بهذا التأييد الأعمى لإسرائيل حتى عندما تتهم دوليا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. ما يزيد من أهميته أنه يحدث داخل المجتمع الأمريكي، بل داخل أعرق الجامعات الأمريكية التي لا يدخلها إلا المتفوقون من الطلاب.
يقودني ذلك للعودة مرة أخرى للصوت العربي الأمريكي الذي بات، وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، مؤثرا إلى درجة قد يحسم فيه نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وذلك بسبب تواجده في عدة ولايات يحتاجها الرئيس الأمريكي بايدن لإعادة انتخابه، ويفصله فيها عن منافسه ترامب عدد قليل من الأصوات.
نظرة للخارطة الانتخابية الأمريكية وفق آخر استطلاعات الرأي تظهر أن لبايدن اليوم حوالي 226 صوتا انتخابيا بينما لترامب حوالي 235 صوتا انتخابيا. يحتاج الفائز لـ 270 صوتا انتخابيا للظفر بالرئاسة. تتركز الحملة بشكل رئيسي اليوم على ست ولايات فاز بها جميعها بايدن بأغلبية ضئيلة عام 2020 تشكل بمجموعها 77 صوتا انتخابيا موزعة كالآتي: بنسلفانيا 19 صوتا، ميشغان 15 صوتا، ويسكونسن 10 أصوات، جورجيا 16 صوتا، أريزونا 11 صوتا ونيفادا 6 أصوات. بمعنى آخر يحتاج بايدن لـ 44 صوتا من الـ 77 صوتا للفوز بالرئاسة بينما تظهر الاستطلاعات أن كل هذه الولايات إما غير محسومة أو تميل للحزب الجمهوري. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المرشح المستقل روبرت كنيدي بدأ باستقطاب عدد لا يستهان به من جيل الشباب الذي صوت لبايدن في الانتخابات الأخيرة، يظهر بوضوح أن بايدن يواجه مشكلة حقيقية في إعادة انتخابه، وان الصوت العربي الأمريكي له تأثير واضح لم يكن موجودا في السابق.
ماذا يعني كل ذلك؟ لم تكن الولايات المتحدة معنية بشكل كبير في تاريخها بحقوق الإنسان والديمقراطية خارج أراضيها وخاصة عندما يتعلق الموضوع بإسرائيل. لذا فالاحتجاجات العالمية ضد الحرب على غزة ليس لها وزن كبير في التأثير على صانع القرار الأمريكي، لكن الوضع يختلف حين تكون تلك الاحتجاجات داخلية. قد لا تقود تلك الاحتجاجات إلى تغيير كبير في موقف الرئيس الأمريكي هذا العام، ولكن التغيرات التي تحدث في المجتمع الأمريكي اليوم بالنسبة للجيل الشبابي مضافا إليها موقف العرب الأمريكيين المتزايد في وقوفه الصلب المؤيد للقضية الفلسطينية ستجعل أي مرشح رئاسي مستقبلي مضطرا لأخذ الصوت العربي الأمريكي كما الصوت الشبابي على محمل الجد، وبخاصة المرشح الديمقراطي.
هذه تطورات هامة لا يجب التغاضي عنها، وجميعها ستصب مستقبلا في صالح القضية الفلسطينية.

وزير الخارجية الأردني الأسبق