المسلسل المغربي «حرير الصابرة»: وشائج الجمال بين فاس والأندلس

من مسلسلات رمضان 2024، المسلسل المغربي «حرير الصابرة» الذي جاء في أربع حلقات فقط، وهو أمر غير معتاد في الدراما التلفزيونية العربية، يذكر بدراما «بي بي سي» البريطانية التي تكون رباعية معظم الوقت. المسلسل من تأليف منصف القادري ومن إخراج يزيد القادري، تم عرضه بشكل أسبوعي خلال شهر رمضان على شاشة القناة الأولى المغربية.
تذهب حكاية «حرير الصابرة» بالمتفرج إلى فصل من فصول تاريخ المملكة المغربية، إلى مدينة فاس إبان العصر المريني في القرن الرابع عشر الميلادي، تحديداً في عهد السلطان المتوكل فارس أبو عنان، الذي دام من سنة 1348 إلى سنة 1358. في ذلك الزمن القديم، كانت فاس مدينة العلم والحضارة والمنارة الإسلامية الكبرى هي العاصمة، عاصمة المملكة المغربية أو السلطنة المرينية، التي كانت تضم إلى أرض المغرب مناطق من شمال افريقيا وبعض المناطق الإسبانية. يحضر العصر المريني في المسلسل بمدينته الرئيسية، وأحد أهم سلاطينه، وشيء من منجزاته الحضارية، وعدد من شخصياته التاريخية وأعلامه الثقافية. ويحضر كذلك برايته، الراية المرينية، التي تشبه العلم الحالي للمملكة المغربية مع بعض الاختلافات، تلك الراية المنسوجة بخيوط الحرير على يد صنّاع مهرة، تم توظيفها في أحداث المسلسل لتلعب دوراً في حل العقدة الدرامية.

الأندلس في قلب فاس

أثناء الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث المسلسل، كانت الأندلس تواصل احتضارها الطويل، تنتزع منها الروح تلو الروح، وتفقد المدينة تلو الأخرى، وكانت أبواب المغرب مشرعة، وقلوب أهله مفتوحة لاستقبال الهاربين من ذلك الجحيم، الفارين بدينهم وحياتهم من جنود القشتاليين. في فاس استقر عدد كبير من الأندلسيين، حيث الأمان وصلات القربى والروابط العائلية، ولما كان مسلسل السقوط طويلاً يجري على مراحل متلاحقة، كانت الهجرات من الأندلس إلى المغرب تتم على مراحل أيضاً، وكانت العائلة التي هاجرت في وقت ما بعد سقوط مدينتها، لا يزال بعض فروعها في مدن أخرى أندلسية، لم يكن قد أتى بعد دورها في السقوط، وكان كل من له قريب في الأندلس يسعى إلى جمع المال والذهاب إلى هناك، ليدفع للقشتاليين ويفتدي قريبه ويعود به إلى المغرب. هكذا كان يفعل بطل مسلسل حرير الصابرة، المعلم بن إبراهيم الأندلسي الحرار، الذي لعب دوره الفنان عز العرب الكغاط، وهو أحد الذين هاجروا من الأندلس إلى المغرب واستقروا في فاس، لكن ابنته وزوجها وأولادها لا يزالون في مدينة أندلسية كانت آمنة، ثم وصل إليها جنود قشتالة، وصاروا يواجهون أخطار التنصير والتعذيب والقتل، فأخذوا يرسلون الاستغاثات إلى المعلم بن إبراهيم الأندلسي، الذي ينتظر الحصول على أموال بيع الحرير ليسافر إليهم.

عند هجرته من الأندلس إلى المغرب، أنقذ المعلم بن إبراهيم بعض فتيات الأندلس اليتيمات، اللاتي كن على وشك أن يصبحن فريسة لجنود قشتالة، بعد أن قاموا بقتل أهلهن، واصطحبهن معه إلى فاس، وجعل من بيته وجنانه واحة آمنة ليتيمات الأندلس اللاتي كن يتوافدن على المغرب. وكانت زوجته المعلمة كنزة، التي تعمل معه في صناعة الحرير وتربية دود القز، تقوم برعاية اليتيمات وتعلمهن مهنة الحرير، حتى يكتسبن الصنعة ويجدن الحرفة ويمتلكن مصدراً للرزق، كما كانت المعلمة كنزة لهم بمثابة الأم الناصحة الرقيبة حتى يتزوجن. في جنان المعلم بن إبراهيم الأندلسي، ومن خلال الأحداث الدرامية، ينقل المسلسل صورة عن التقارب والتداخلات الحضارية بين المغرب والأندلس. ولا شك في أن الأمر يختلف كثيراً عند تناول الأندلس برؤية فنية مغربية، عنه في أي عمل عربي أو أجنبي آخر، حيث ينقل المغرب صورة أوضح وأكثر دقة بطبيعة الحال، من ناحية المكان والطراز المعماري، واللهجة والتفاصيل الثقافية المختلفة، والروح الصادقة النابعة من الجذور المشتركة، فالتصور المغربي حول الأندلس ليس وليد الخيال الذي يحلم ويرسم عن بعد، وإنما هو تصور حقيقي من قلب الواقع.
لا ينتقل المسلسل مكانياً إلى الأندلس وتجري جميع أحداثه داخل مدينة فاس، لكننا على الرغم من ذلك نجد الأندلس حاضراً بقوة من خلال أهله، الذين استقروا في فاس، ونجده في الثقافة الأندلسية التي تظهر في مشهد أو آخر، وفي دمعة تسقط من عين فتاة أندلسية يتيمة، حنيناً إلى موطنها، وإلى أيام قضتها مع أهلها قبل أن يقتلوا.

عند تصوير المسلسل لم تكن هناك حاجة إلى صنع أماكن تحاكي ذلك الزمن القديم، فقد تم تصويره في أماكن طبيعية بلا ديكورات مختلقة، حيث يظهر جمال البناء والمعمار في مدينة فاس، وروعة الطراز المغربي والأندلس، وبهاء وأناقة الزليج المغربي، الذي يزين الجدران والأعمدة والأرضيات والسلالم، والزليج من أقوى الفنون المعبرة عن الشخصية المغربية والعقل المغربي، ومن الحرف الدقيقة للغاية التي لا يتقنها إلى من يعرف أسرارها. كما كانت الأماكن في المسلسل واقعية، كذلك كانت الملابس هي نفسها ملابس المغاربة التقليدية حتى اليوم، مع بعض اللمسات والاختلافات البسيطة بحكم الفترة الزمنية. فهناك الجلباب والعمامة والسلهام والجبادور للرجال، وهناك القفاطين النسائية التي يتم ارتداؤها داخل البيوت والجنان، والحايك الذي ترتديه المرأة عند الخروج من المنزل. ومن الجدير بالذكر أن ذلك الاتصال بين ماضي المغرب وحاضره، سواء على مستوى الأماكن والأبنية التاريخية المحتفظة برونقها، أو على مستوى الحفاظ على التراث الثقافي، من ملابس وطعام وعادات وما إلى هنالك، يساعد بشكل كبير في إنتاج مثل هذه الأعمال الفنية، ويمثل ميزة كبرى تمكن أي بلد من المنافسة القوية في هذا الميدان.
قدم المؤلف مهنة صناعة الحرير في فاس، ونسج من حولها قصة درامية، جاءت مكثفة سريعة الإيقاع في أربع حلقات، حيث تتشابك الأحداث لتصنع أكثر من عقدة على رأسها العقدة الرئيسية، المتمثلة في ضرورة سفر المعلم بن إبراهيم إلى الأندلس، لإنقاذ ابنته وزوجها وأولادها والعودة بهم إلى المغرب، لكنه يتعرض لمكيدة تعطله عن السفر، لأنه الحرار الأفضل في فاس، الذي يورّد الحرير إلى بلاط السلطان. يترتب على هذه المكيدة مجموعة من المشكلات الأخرى، التي تابعها المتفرج، حتى يأتي الحل في النهاية. تحقق الصورة متعة بصرية للمتفرج، من خلال الطبيعة واللون الأخضر في الجنان، والزليج الذي يغلب عليه اللون الأخضر أيضاً إلى جانب اللون الأبيض وألوان أخرى. وبعيداً عن الزليج هناك الكثير من النقوش والزخارف التي تزين الأقواس والأبواب، ومعروف مدى الاهتمام بالأبواب، تصميماتها وزخرفتها في المغرب. وهناك ألوان الحرير المتعددة وعرض أدواته القديمة، التي كان يتم الاعتماد عليها في ذلك الوقت، من محاضن دود القز إلى الأنوال الخشبية الضخمة. إلى جانب صناعة الحرير يتم العمل في الجنان على صناعة الأدوية، والمستحضرات التجميلية من الأعشاب والنباتات والمواد الطبيعية، كما تبتكر المعلمة كنزة فكرة صناعة الحرير، ومن الخيوط والشعيرات التي تكون موجودة في قلب نبات الصبار.

مظاهر الحضارة في الزمن البعيد

تتعدد المظاهر الحضارية التي يعرضها العمل، التي توضح مدى تقدم مدينة فاس في ذلك الزمن البعيد، فقد جعل المؤلف الساعة المائية الشهيرة الموجودة في مدينة فاس، كأثر تاريخي ومزار سياحي، جزءاً من الأحداث يتصل بالعقدة الدرامية الرئيسية، تلك الساعة التي أمر بصنعها السلطان المتوكل فارس أبو عنان، وأراد أن تكون بنظامها الدقيق المعقد من عجائب مدينة فاس. كان يوسف الشاب العالم، ابن المعلم بن إبراهيم الأندلسي الحرار، واحداً من الذين تم اختيارهم ضمن مجلس العلماء المكلف بإنجاز الساعة المائية، ومن الأمور الجيدة في هذا المسلسل، أنه يقدم المعلومات العلمية والتقنية بشكل ممتع من خلال الدراما، حيث يشرح يوسف طريقة عمل الساعة المائية، والمشكلة التي كانت تواجههم وتوصل هو إلى حلها. وعن تقدم الطب حينذاك، يظهر علاج لمشكلة حول العيون عند الأطفال، وكان علاجاً جديداً مستحدثاً في ذلك الوقت، يُطلب فيه من الأطفال أن يراقبوا بأعينهم حركة أسماك صغيرة في حوض مائي، ويطيلوا النظر إليها ويلقوا إليها ببعض الطعوم، ويتابعوا حركاتها العشوائية، لكن عليهم أن ينظروا إلى الأسماك من شرفة عالية تطل على الحوض المائي، الذي هو قطعة فنية بديعة من الزليج أيضاً. بالفعل يشفى الطفل عبد الله حفيد المعلم بن إبراهيم الاندلسي بعد أن يخضع لهذا العلاج، كذلك يلعب الطفل عبد الله دوراً مهماً في الأحداث، عندما يسعى إلى إنقاذ حبيبه يوسف أي خاله يوسف، والخال في المغرب يقال له حبيبي.

كما نرى علاج الكآبة والأزمات النفسية بالموسيقى والغناء، ولم يكن الأمر مجرد سماع عشوائي، أو الوجود في مجالس الطرب، وإنما كان دواء موصوفاً، وفق جرعات محددة في أوقات بعينها، ولكل وقت موازينه ومقاماته الخاصة به، فموازين ومقامات الليل تختلف عن موازين ومقامات النهار. تغني مريم التي تعلمت الموسيقى في الأندلس حتى يشفى المريض، وتلعب الممثلة هند بن جبارة دور مريم، الفتاة الأندلسية اليتيمة، التي أنقذها المعلم بن إبراهيم الأندلسي من جنود قشتالة، واصطحبها معه من الأندلس إلى المغرب، ومن أجمل ما تؤديه من مشاهد، المشهد الذي تروي فيه ما حدث وقت إنقاذها، وهي ترى مقتل أبيها وأمها. كذلك يكون صوت هند بن جبارة أول ما يُدخل المتفرج إلى أجواء المسلسل الاندلسية، ويحيطه بالخيال المطلوب، حيث تغني بصوتها مقدمة العمل، التي جاءت على لحن «لما بدا يتثنى» القصيدة الشهيرة للشاعر الأندلسي الرقيق العذب لسان الدين بن الخطيب، لكن بكلمات أخرى من الدارجة المغربية. من الشخصيات التاريخية التي تمر سريعاً في المسلسل، لكنها تترك أثراً، شخصية السلطان المتوكل فارس أبو عنان، الذي يظهر عند اجتماعه بمجلس العلماء، لمتابعة أمر الساعة المائية، وقد اختار المخرج لهذا الدور ممثلاً شاباً يافعاً، يلفت النظر ويذكر بحداثة سن ذلك السلطان الذي توفي في التاسعة والعشرين من عمره. وكذلك شخصية الرحالة المغربي ابن بطوطة، الذي نراه يمشي في شوارع فاس، ويذهب إلى جنان المعلم بن إبراهيم الأندلسي، ويطلع على محاضن دود القز، ويدله على فكرة ثمينة عن صناعة الحرير، مما رآه أثناء رحلته إلى الصين. بدا ابن بطوطة شخصاً مرحاً رشيقاً شديد الذكاء، والمعروف أن ابن بطوطة اقترب من السلطان المتوكل فارس أبو عنان، وتم تدوين رحلاته وتوثيقها وحفظها في فاس.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية