انعكاسات الحرب في غزة على المشهد الفلسطيني

الحرب على غزة هي الأوسع والأكبر منذ حرب لبنان عام 1982، وبالتأكيد بعد أن تضع الحرب أوزارها ستشكل واقعا جديدا، ينعكس على المشهد الفلسطيني الداخلي، وعلى القضية الفلسطينية بشكل عام. وبغض النظرعما ستؤول إليه هذه الحرب بعد انتهائها، فإن الانقسام بين حركتي حماس وفتح على الأغلب سيبقى على ما هو عليه، وربما يزداد تعمقا، نتيجة للهوة الواسعة (كما دوما) بينهما، وما قد يزيد من اتساعها المسائل التي أثيرت بشأن عودة السلطة لحكم قطاع غزة بعد الحرب، إلا أنه من الممكن أن تؤدي الحاجة لرفع الحصارعن قطاع غزة وإعادة إعماره، إلى تحلي الحركتين بقدرمن البراغماتية، للحاجة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
وعلى الرغم من أن الخطة الأمريكية لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، بهدف عودتها لحكم قطاع غزة، إلا أنه من الواضح أنها لن تعود، وذلك بالارتكاز على فرضية تفكيك حماس سياسيا وعسكريا، على ضوء فشل إسرائيل تحقيق ذلك، كما تؤكد ذلك المعطيات العسكرية على الأرض، بعد دخول الحرب على غزة شهرها السابع. ويتضافرعدم عودتها لغزة مع رفض إسرائيل القاطع لذلك، امتدادا لسياسات حكومات نتنياهو المتعاقبة منذ 2009، التي عرقلت إعادة الوحدة بين الضفة والقطاع، إلا أن عودة السلطة لغزة (بموافقة حماس)، رهن بتغيرات جذرية في المشهد السياسي الفلسطيني، كالذهاب لانتخابات رئاسية وتشريعية وبالتالي تبدل النخب القيادية للسلطة.
إن الحرب على غزة بعد أكثر من نصف عام على اشتعالها، أعادت وضع القضية الفلسطينية في مقدمة الاهتمامات العالمية (رغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة في القطاع)، بعد نحو عقدين على تراجع مكانتها، إذ تم خلال الحرب طرح حل الدولتين من جديد وبقوة. وتدرك الأطراف الفاعلة في الملف الفلسطيني أن تجاهل تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مجددا، سيتسبب بمزيد من الانفجارات في المنطقة ما يهدد المصالح الأمريكية فيها. لكن إذا ما انتهت الحرب بضعف حماس عسكريا وحصارها سياسيا من قبل دول في الإقليم، فإن إسرائيل ستستأنف وبتسارع مسار التهويد والتهجير والضم، وستقدم قيادة السلطة المزيد من التنازلات لإسرائيل، ما سيؤدي إلى رفض قطاعات تنظيمية في حركة فتح لمثل هذه التنازلات، الأمر الذي يهدد بمزيد من الانقسامات في صفوفها، ومزيد من تدهور شعبية السلطة بين الفلسطينيين.. إقليميا، ومن وجهة النظر الأمريكية والغربية بشكل عام، فإن استمرار المواجهات بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، يخلق واقعا أمنيا وسياسيا جديدا في المنطقة، بنقلها من مسار دمج إسرائيل في النظام السياسي والأمني والاقتصادي الإقليمي، إلى مسار هش وقابل للاشتعال في أي لحظة، خاصة بعد أن وضع هجوم السابع من أكتوبر إسرائيل أمام واقع استراتيجي جديد، يقتضي منها مواجهة تحديات أمنية مع حزب الله اللبناني، وأنصار الله في اليمن، والفصائل المسلحة الموالية لإيران في سوريا والعراق، ما يفرض على إسرائيل والولايات المتحدة مقاربات أمنية جديدة. الحرب على غزة أثرت على الواقع الشعبي في الدول العربية، التي اتسمت مواقفها بالعجز عن التصدي للعدوان الإسرائيلي، بل في حالات كثيرة بالتساوق معه، وبعدم نجدة الفلسطينيين في غزة حتى بالمساعدات الإنسانية على الأقل، الأمر الذي قد تنتج عنه حالات من اللااستقرار في دول عربية على غرار تلك التي وقعت بعد حرب عام 2008- 2009، وبالتالي فإن المنطقة العربية التي عملت الولايات المتحدة على نقلها لمرحلة الاستقرار بـ»التبعية» من خلال التعاون بين حلفائها، دخلت في 2023 و 2024 في وضع مغاير تماما، ما قد يفتح الباب واسعا أمام تحولات اجتماعية وسياسية جديدة. وبالتأكيد فإن تداعيات الحرب ستطال مواقف إسرائيل، باحتمال إستئناف العملية السياسية مع الفلسطينيين، إلا أن هذا السيناريو حتى يتحقق يرتكزعلى فرضية عدم تمكن إسرائيل بقيادة نتنياهو من تجاوزهزيمتها في السابع من أكتوبر وإخفاقتها في حربها على غزة، كما أنه أيضا رهن بتفكك إئتلاف حكومة نتنياهو من الداخل، بانسحاب الثنائي الموغل بالتطرف بن غفير وسموتريتش، في حالة اتخاذ نتنياهو قرارات قد تتعارض مع برنامجهما الأيديولوجيين، كعدم قدرته على صد قانون تجنيد المتدينين الحرديم. وإن لجنة تحقيق بالتأكيد سيتم تشكيلها بعد الحرب، لتحديد أوجه الإخفاق في صد هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر والمسؤولين عنه، قد توصي باستقالة نتنياهو وخروجه من المشهد السياسي (إذا امتثل)، ما سيمهد الطريق لتنظيم انتخابات جديدة في إسرائيل. ولكن نتنياهو الذي يتمتع بدهاء سياسي، يمكنه من السير تحت حبات المطر دون بلل، لن يتنازل بسهوله عن الحكم، لأنه يعي تماما ان استبعاده يعني موته سياسيا، وربما تجريمه بشبهات الفساد التي تحوم حوله وبالتالي دخوله السجن، ولهذا سيعمل كل ما في وسعه للنجاة من خلال تحقيقه نصرا (ولو ليس مطلقا) قد يكون على شكل النجاح بإغتيال شخصية قيادية عسكرية من الصف في حركة حماس، كالسنوار أو الضيف أو مروان عيسى، أو اجتياح رفح وادعائه بتطهيرها من مقاتلي حماس، أو أي صورة أخرى «للنصر» يتفتق ذهنه عنها.

تجديد النظام السياسي الفلسطيني من خلال صناديق الاقتراع كفيل باستمرار التصدي لمشاريع الاستيطان ووقف سياسة التهجير والإبقاء على القضية الفلسطينية على رأس الاهتمامات الدولية

كما أن نتنياهو سيعمل جاهدا على عدم تحريك عش دبابير اليمين المتطرف المتحالف معهم، باتخاذ قرارات قد تستفزهم وتدفعهم للخروج من الإئتلاف الحاكم، بل سيعمل على الاستمرار بسياسىة المراوغة واتخاذ مواقف تتساوق معهم أحيانا، وأكثر تطرفا من مواقفهم أحيانا أخرى. ومن المؤكد أنه لن يكون بوسع حركات الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي إسقاط حكومته، التي تتمتع بأغلبية تضمن بقاءها في السلطة، حتى انتهاء ولايتها القانونية عام 2026. إن نتائج استطلاعات الرأي في إسرائيل، التي تظهر تقدم حزب معسكر الدولة برئاسة بيني غانتس على حزب الليكود برئاسة نتنياهو، تعكس مواقف آنية للرأي العام الإسرائيلي، مرتبطة بتطورات الحرب على غزة وتتغير بمتغيراتها، إلا أن المجتمع الإسرائيلي بأغلبيته الساحقة والمؤسستين السياسية والعسكرية، يجمعون على مواصلة الحرب على غزة، إلا أن الخلافات بينهم تتمحور حول الأسلوب لاتباع ذلك، وتحديدا في ما يتعلق بملف المحتجزين الإسرائيليين في قبضة حماس. إن الرهان على الإطاحة بحكومة نتنياهو، وتنظيم انتخابات عامة تفوز بها أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط، بعد انجلاء غبار الحرب على غزة وقبل انتهاء ولايتها، ليس أكثر من تمنيات لن تتحقق على ضوء المعطيات السياسية في إسرائيل، وسيبقى الكثير من القضايا المرتبطة بتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته العربية والدولية مؤجلة إن لم تتفاقم، ولاسيما على ضوء من الذي يكون سيد البيت الأبيض في مطلع العام المقبل. ولهذا فإن تجديد النظام السياسي الفلسطيني من خلال صناديق الاقتراع هو الكفيل فقط باستمرار التصدي لمشاريع الاستيطان ووقف سياسة التهجير والإبقاء على القضية الفلسطينية على رأس الاهتمامات الدولية.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية