«الشيخ والوقائع الفاضحة» للصيني ليو هونغ: (السخرية) السلاح الأقوى أمام الديكتاتوريات

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: عندما لا تجد أسبابا منطقية على ما يحدث من أفعال تتنافى والمنطق، فلا تجد أمامك سوى السخرية، والأمر يتعدى مجرّد فعل الضحك المعتاد من موقف أو آخر، لكن من مقام (شر البَليّة). ومن المُلاحظ أن العقل الديكتاتوري يتشابه في جينات فساده، بغض النظر عن مكان وجوده، في هذا البلد أو ذاك، شرقاً وغرباً. وقد جمع غابرييل ماركيز آفات الديكتاتورية في روايته «خريف البطريرك» التي في أغلبها وقائع وشذرات من حيوات ديكتاتوري العالم.
هذه السخرية من سياسات الحاكم ورجاله هي أساس مجموعة «الشيخ والوقائع الفاضحة» للكاتب الصيني (ليو هونغ) التي تضم 5 قصص ــ نستعرض بعضها ـ كُتبت بين عامي 1980 و1987، وترجمها عن الصينية محسن فرجاني، مع مقدمة ضافية عن السياق الاجتماعي والأدبي الذي كُتبت خلاله هذه النصوص. الكتاب إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، ضمن سلسلة (آفاق عالمية).

ليو هونغ شاهد عيان

الكاتب من مواليد 1933، وتخرّج في قسم اللغة الصينية عام 1956. عاش الرجل سنوات الثورة الثقافية التي انطلقت عام 1966، وكان شاهد عيان على تفاصيلها، وهو القروي الأصل. ويذكر المترجم أن الكاتب «تحمس لتيار ما سُمّي بـ(أدب الجراح) الذي ازدهر مع نهاية السبعينيات، وكان عليه أن يكتب عن جيل الثورة الثقافية، ويقول الكثير مما سكت عنه الصوت الرسمي، الذي اكتفى بإدانة التجاوزات التي حدثت أثناء الثورة. مع ملاحظة الدور الشفاهي في الكتابة «فمعايير الكتابة الثورية كانت قد استقرت على استلهام نموذج (رومانس الأدب الشعبي) حيث يعتقد معظم الصينيين أن العمل الأدبي قصة رومانسية ذات تفاصيل واقعية».

الحادثة التي جرت بسبب كلمة

«مَن يا تُرى هذا الحمار الذي يتكلم بلسان ثقيل هكذا، وصوته متراخٍ وكسول، كأنه شارب قطعة أفيون في أول الصبح!». بمعنى (مين المأَفْين اللي بيزِن ع الصبح ده). هذه العبارة تفوّه بها (جونكان) في لا إرادية، وهو غير المرئي بالمرّة طوال حياته، والعامل في مزرعة جماعية، تحوّل فجأة إلى شيطان معادٍ للثورة ورجالها، فصاحب الصوت أحد أهم رجال الحزب ـ نائب رئيس الجمهورية ـ وبعد تحقيقات وحبس وتعذيب، جاء عضو اللجنة الثورية يتلو عليه بياناته.. «الاسم: جونكان كانُ، الجنس: ذكر، السن: ثلاثة وأربعون عاماً، مولود لأسرة ريفية فقيرة، تم تسريحه من التجنيد باعتباره من (حثالة المجندين) ثم جيء به للعمل في الكومونة» وفي الأخير وبعد التهديد بعلاقته وجارته الأرملة، التي كانت تعطف عليه وتحضر له الطعام، وقد تضمن التحقيق أنها علاقة مُشينة، قام المدعو (جونكان) بالإقرار بالتهمة. وبعد تقديمه إلى محاكمة شعبية ووسط حشد الغاضبين، أصبح في شهرة لم تخطر له على بال، وقد حُكم عليه بالسجن عشر سنوات أشغال شاقة. لكن دوام الحال من المحال، إذ صدر بياناً من الرئاسة يقول إن صاحب الصوت مجرم خائن، وتم العثور عليه مقتولاً وهو يحاول الهرب عند الحدود، وإن عصره ورفاقه قد انتهى. وهو ما تم التعارف عليه بمُسمى (عصابة الأربعة) ـ أشبه بمراكز القوى في مصر وقت السادات ـ فيتحوّل جونكان إلى نجم ثوري، قال الحق وقت أن كان الجميع يبتلعون ألسنتهم خوفاً ورعباً، ويأتي المحقق نفسه، الذي أدانه وقدمه للمُحاكمة، ليستغل نجومية الفلاح البسيط، الذي لم يكن يهمه في الحياة سوى الطعام والمرأة التي يحبها.. «أنا معك إنها كلمة لا راحت ولا جاءت، وربما يستطيع أي صبي صغير أن يقولها اليوم، دون أن يخشى شيئاً، لكنك أنت الذي قلتها أولاً، وقلتها في وقتها، يعني هي كلمة تساوي الذبح في زمانها! هل تفهم؟ ومن هنا فنحن نريد لهذه الكلمة أن تلمع وتتلألأ وتكبر وتتضخم، ويسمعها كل الناس في المحافظة وكل النواحي البعيدة والقريبة». «لكني لم أكن أقصده بهذه الكلمة، فأنا لم أكن أعرف أنه المُتكلم في مُكبّر الصوت»
«حذار من أن تقول هذا الكلام الآن. ولعلمك، فحتى لو قلته، فلن يصدقك أحد. فهل تظن أن الناس سوف يصدقون قول واحد يزعم أنه لا يعرف صوته!».
ولم يكن من جونكان في النهاية سوى الهرب من سجن هذا المسؤول ـ ربما مؤقتاً ـ ومن السلطة الجديدة التي تحاول استغلاله دعائياً، ومحاولته الوصول إلى الأرملة التي تنتظره.

الشيخ والوقائع الفاضحة

في هذه القصة التي تحمل اسمها المجموعة تسوق المصادفات السيئة صاحبها (جاو لاو) ـ المُعلم الفاضل ـ إلى النيل من سُمعته. فهو.. «بلغ من شدة تعلقه بالقدماء ونصوصهم أنه بدا أمام الناس كأنه آتٍ من عصر قديم، يفهم عباراته وأحواله أكثر مما يفهم أجواء وقته الذي يعيش فيه».
لكن.. ماذا ستفعل المصادفات السيئة في حياة المعلم الفاضل جاو، والذي يُعاني في الوقت نفسه من قِصر النظر؟ الرجل الذي يعيش بمفرده بالقرب من عمله في المدرسة الثانوية، تاركاً زوجته التي تكره ضجيج المدن. الحادثة الأولى كانت رسالة وصلته بالخطأ من فتاة لا يعرفها، ظناً منها أنه كاتب شهير وقد أرسلت له قصة من تأليفها لإجازة نشرها. وكان من الممكن أن تمر الحكاية بسلام، لكن الفتاة خطّت كلماتها بالإنكليزية، وهو ـ المعلم الفاضل ـ يجهل الإنكليزية، فاستغاث بمدرسة اللغة الإنكليزية لترجمتها، وفي حجرة المدرسين والجميع ينتظر بفارغ صبر، تأتي الكلمات كالصاعقة.. «كم أشتاق إلى قبلة حلوة من فمك». وانفضّ الزملاء من حوله، والتساؤل لا يغادر مخيلاتهم.. «تُرى مَن هي صاحبة هذه الرسالة». هذه الحادثة الأولى التي بدأت في زلزلة سُمعة الرجل، لكن أن تأتي أخرى تؤكدها، بل تتجسد صاحبتها بالفعل، فهنا تكمن المصيبة. شرفة مجاورة لشرفته، ولقصر نظره يدقق النظر ويمد رأسة قدر الاستطاعة حتى يرى الزهور في شرفة الجيران ـ زهور أعجبته انتوى إحضار مثلها ـ لكن صاحبة الشرفة تتقدم بشكواها إلى المدرسة، عن هذا الكهل المتبجح، الذي يطيل النظر إليها ويمد رأسه ويثني جذعه ويغمز لها بعينيه، هذه الفتاة صاحبة الشرفة، الموصوفة بـ»ذات الشباب الربيعي والسُمعة الطيبة» تم الكشف عنها بأنها مهووسة بأن جميع الرجال يقعون في غرامها، وأنها اعتادت اتهام الجيران وتقديم الشكاوى بحقهم. لكن.. «الشائعات دوماً أبقى عُمراً من كل محولات تبديدها، لهذا ظل كثيرون حتى اليوم يعيدون ويزيدون في حكاية ألاعيب المُعلم جاو ـ الموصوم إلى الأبد ـ واستراقه النظر على فتيات الجيران».

نزوات دفينة

في قصة بعنوان (أنا البغل المُشار إليه) نجد رجل مُصاب باختناق في الحلق، ويحاول السُعال، لكن امرأته تنهره دوماً إن سَعل على سلم البناية، فماذا سيقول الجيران؟! حتى داخل المنزل، فلا مجال لرفع الصوت، هناك حد أدنى من اللباقة وحُسن السلوك يجب الحفاظ عليه.. «هل تظن أن سلوكك هذا يثير الإعجاب؟ يا للعار، ماذا يقول الناس عنا؟ هل نبدو في عيونهم مثل السفلة الرعاع؟».
لكن آلام الحنجرة تزداد، ولا بد من البحث عن حل لرفع الصوت قليلاً، لتبدأ رحلة عبثية لن تنتهي.. بداية من السير في الشارع ومحاولة الكلام بصوت مرتفع قليلاً، مع الحرص على عدم مراقبته من ابنه ـ الواشي الدائم لأمه ـ ورغم الصوت المرتفع لزملاء العمل ـ درجة الصوت العادية ـ لا أنه تتم الإشادة بصاحب الصوت الخفيض من رئيسه.. «هنالك فقط، أدركتُ فجأة قيمة نصائح امرأتي». لكن عبارتها التي دائماً تقولها له.. «أعماقك تنطوي على جذور نزوات دفينة» بدأت تقلب حياته، فهو بالفعل كذلك ـ وقت طفولته ـ فمنعه من تصرّف معيّن، تجمح معه رغبته في فعله، لكن حسب قوله «رغم تفكيري الباطني الدائم في العصيان، لم يحدث قط أن عصيت أحداً، فكابدتُ شقاء لا يوصف، إذ وجدتني بين شقي رحى، بين جموح التوثب في اتجاه الرفض وخذلان النكوص عن الاجتراء».
هناك رغبة في الصراخ تتنامى، وعلى الرجل البحث عن حل، كالذهاب إلى الحدائق العامة، لكن الحدائق تغيّرت عما كان يألفها، وكلما ذهب أبكر من ذي قبل وجدها مشغولة بالرواد، ثم ذهب إلى حديقة في الضواحي، فلم يجدها، بل أصبحت مجموعة متراصة من البنايات، وصولاً إلى بيت طفولته الذي تحوّل هو وكل ما يحيطه إلى مكان مقفر، خاصمته صورة الأشجار الراسخة في الذاكرة.
وإمعاناً في السخرية ينتوي الرجل الذهاب إلى مباراة كرة قدم ـ أي مباراة ـ ليصيح ويصرخ بين الجماهير، لكن سوء حظه يضعه في المكان الخاطئ بين جمهور الفريق الخاسر، لينهره الجميع، دون أن تتصاعد صرخاته كما كان يريد .. «أي صياح هذا الذي يتطلب الإذن بالموافقة من الآخرين، أو التوافق مع حالتهم المزاجية المتقلبة، بحيث يأتي وفق رغبتهم واستعدادهم؟».
ولم يعد أمامه سوى الذهاب إلى أحد الجبال، والصعود إلى القمة ـ بعد عذاب ـ وهنا يتوقف فجأة.. «استغربت وقلت كيف مضى كل هذا الوقت وأنا أفكر في الصياح، فلما جاءت اللحظة المناسبة إذ بي اكتشفت فجأة أنه ليست ثمّة عبارة أو كلمة مناسبة للصياح. بقيت ذاهلاً لبعض الوقت، تماماً مثل البغلة الأم، التي فرّت مخترقة الزحام، وعبرت وسط الأسواق والناس حتى دخلت الغابة، فلما صارت بين الأشجار وقفت حائرة لا تدري كيف تضع حملها، وما الذي يمكن أن تضعه بالضبط!». هذه الحيرة أخرجه منها أحد المراقبين السريين، حيث يتم اتهامه بمحاولة الانتحار، وكيف لرفيق مثله منضبط السلوك أن ينتحر؟
هنا يتوافق الجميع ويمنحونه فرصة أن يصرخ.. زوجته، رئيسته في العمل، الزملاء، الرفاق. إلا أنه لا يريد. فيصدر قرار بإرساله إلى إحدى المصحات للاستشفاء. فالرغبة الطفولية الدفينة في مخالفة القطيع وتعاليمه ــ قد ــ تتحقق في نهاية المطاف في المصح النفسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية