«حكايات شعبية فرعونية»: لجاستون ماسبيرو: مخيلة المصري القديم وصوته الخفي

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: «في عام 1864 أثناء إجراء بعض الحفائر، اكتشفت مصادفة في قلب أطلال طيبة في دير المدينة، داخل مقبرة راهب قبطي، صندوقا خشبيا يحوي في داخله مع سجلات خاصة بأحد الأديرة المجاورة، بعض المخطوطات التي لا تتسم كثيراً بالسمة العلمية والنصائح الأخلاقية… حكاية أسطورية بطلها يدعى ساتني، وهو ابن أحد ملوك منف. وكان يتنقل بين عدد من المومياوات الناطقة، والساحرات والسحرة، والمخلوقات الغامضة المبهمة… تُرى، ماذا كانت تفعل رواية وثنية السمات في مقبرة أحد الرهبان؟».
في كتاب «حكايات شعبية فرعونية» يستعرض عالم الآثار جاستون ماسبيرو بعض الحكايات التي تم اكتشافها واختلفت عن البرديات المألوفة من وصايا وحِكم وما شابه، بأنها كتابات رسمية، بل نصوص روائية (حكاية) يمكن من خلالها اكتشاف مخيلة المصري القديم، وكيف أنه صاغ حكاية عبّرت عن وجدان هذا الشعب ـ أو ما كان يرتجيه وجدانه ـ بعيداً عن انتصارات الملوك وتراتيل الكهنة. مع ملاحظة تشابه هذه الحكايات مع حكايات أخرى كُتبت في بلاد وحضارات مختلفة، بل امتد الأمر إلى النصوص المقدسة، كما في التوراة والقرآن، كل حسب لغته وسماتها البلاغية.
صدر الكتاب مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، ضمن مشروع مكتبة الأسرة، ترجمة فاطمة عبد الله محمود، ومراجعة محمود ماهر طه.

بعيداً عن الوعظ والإرشاد

ويلاحظ ماسبيرو أن القصاصين لم يمتهنوا مهنة الوعظ، والتمسك بالاحتشام والحياء، كما أنهم لم يُضمروا ضد النساء أي آراء مسبقة، بل كانوا يصورونهن كما كًن بالنسبة إلى معاصريهن. وهو ما يتعلق هناك بفكرة الإغواء والانتقام، كما في قصة (الأخوين) التي تشبه إلى حد كبير قصة (يوسف) سواء العبراني أو الصِدّيق. ويستشهد ما سبيرو بحكاية ذكرها (هيرودوت) بأن أحد الفراعنة فقد بصره بسبب إلحاده وكُفره، لكن الآلهة وهم في لحظة من السعادة حكموا بأن يستعيد بصره، لكن بعد تقديم قربان من خلال امرأة لم تقم علاقة جنسية إلا مع زوجها! فتتقدم الملكة، ثم سيدات البلاط الملكي وسيدات المدينة والأقاليم، وصولاً إلى الفلاحات والجواري، لكن.. لا فائدة. حتى وجد الملك أخيراً امرأة ـ شريفة ـ وعاد إليه بصره، فتزوجها وحبس النسوة (الساقطات) في الاختبار وحرقهن.
وبخلاف كلام ماسبيرو، فالحكاية في الحقيقة لا تتعدى المُزحة التي يتداولها الرجال في مجالسهم. ولها العديد من النسخ ـ مع اختلاف التفاصيل ـ حتى وقتنا الراهن، مع الحفاظ على بعض السمات، منها.. كُفر الفرعون/ الحاكم/ الرئيس، نساء القصور وكبار الموظفين فاسدات بالضرورة، وصولاً إلى الفلاحات، وهناك نماذج منهن في مخيلة صاحب الحكاية المجهول. فمثل هذه الحكايات أو (النِكات) لا ينتشر إلا في في أوقات الفساد السياسي والاقتصادي، وبالتالي الاجتماعي، ويبدو أن الشعب طوال تاريخه (يُمارس) انتقامه بطريقته.

يوسف وموسى وعلي بابا

ويستعرض الكتاب عدة حكايات.. (قصة الأخوين) وما تستتبعه من خيانات زوجية وإغواء المرأة، بل محاولة إقامة علاقات مُحرّمة ـ الزوجة وشقيق زوجها ـ كذلك التحولات والخرافات التي تحول من خلالها البطل إلى أشكال عدة متحدة مع الطبيعة، كشجرة السنط التي احتوت قلبه. فعاش وحيداً فاجتمعت الآلهة وصنعت له امرأة تؤنس هذه الوحدة ـ حكاية آدم وحواء ـ لكنها خالفت تعاليمه بألا تغادر البيت، فوصل إليها رجال فرعون، وأصبحت أفضل محظياته، وبما أنها تعرف قلب الرجل الذي خبأه في شجرة السنط، تأمرهم بقطع الشجرة، ليموت في الحال ـ خيانة أخرى ـ ثم تحوّل إلى ثور، ثم جنين في بطن زوجته، التي أصبحت أمه في الوقت نفسه، هذا الجنين الذي انتسب إلى فرعون، وأصبح وريثاً لعرش مصر، والذي اعتلاه في النهاية. فكرة الحكاية من الحكاية، والخوارق والمعجزات، ومكافأة الرجل الصالح في النهاية، ومن ثمّ الانتقام من الخونة، فالأخ الأكبر عرف مكيدة زوجته وقتلها، والأصغر أدان زوجته/أمه وحقق العدل أخيراً، وهو الأسلوب نفسه من حيث الحبكة والبناء كما في ألف ليلة وليلة.
ونصل إلى حكاية (تحوتي) العسكري البارع ومستشار الملك، وقد وصل للقضاء على تمرد حاكم يافا، ولم يجد حيلة سوى أن يختبئ الجنود في جرار ـ كل جندي في جرّة ـ حتى يستطيعوا دخول المدينة، ويتشابه الأمر هنا بفكرة حصان طروادة، لكنها أسطورة أكثر منطقية وإحكاما. إلا أن حكاية تحوتي تقترب أكثر من حكاية (علي بابا) في ألف ليلة.
وتأتي حكاية (سنوحي) الأكثر اكتمال ومنطقية، ولتبدو قريبة في تفاصيلها من حكاية النبي (موسى) بسرديتيها العبرية والعربية.

الفلاح الفصيح

هذه الحكاية من أشهر الحكايات الشعبية في مصر القديمة، وحتى وقتنا الراهن. ورغم الختام المُلفق للحكاية، والذي يبدو أن المخيلة أضافت إليه الكثير، إلا أن جاستون ماسبيرو يضعها تحت منظار النقد، بل رفض الخاتمة تماماً، والمتمثلة في أن رجل السُلطة مغتصب حق الفلاح نال الجزاء العادل. فالحكاية تتوقف بعد شكوى الفلاح الأولى، وإرسال الطعام له ولزوجته وأولاده، أما باقي الشكاوى فيحيلها إلى كاتب خبير منمق الأسلوب، ويُشكك في مجازاة المغتصب وإبعاده عن منصبه، يقول في النهاية.. «أظن أن الموظف الكبير قد برئت ذمته مع شيء من التأنيب.. ولا شك في أنه قد وجد بعض الأساليب الشريفة، لكي يجمع الفدية من الناس، دون أن يجعلهم يصرخون وينوحون، بل وأن يُخلي سبيلهم.. ليس وهم أكثر سروراً.. بل على الأقل، أقل عويلاً وتأوهاً من الفلاح».
ويبدو في النهاية أن هذا هو أقصى درجات العدل المرجوّة في مصر طوال تاريخها.. أن يعيش الناس فقط.. أقل تأوهاً وعويلاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية