الجرح الفلسطيني النازف ولاهوت التحرير الفلسطيني

حجم الخط
5

تعبير الجرح الفلسطيني المفتوح أو النازف، هو تعبير دارج للدلالة على طول معاناة شعبنا، التي تمتّد إلى ما يزيد عن قرن زمني من التضحيات، وعشرات آلاف الشهداء، ومئات آلاف الجرحى، ومعاناة التهجير القسري، والدماء التي أريقت نتيجة المذابح، وسياسة القتل اليومي في حرب الإبادة الشعبية، التي يقترفها العدو الصهيوني ضد شعبنا، في واحدةٍ من أطول معارك التحرر الوطني في العصر الحديث.
لم يملّ شعبنا ولن يمل دفع الاستحقاق المفروض عليه على مذبح الحرية، واستعادة حقوقه الوطنية المشرّعة، بقرارات عديدة واضحة من الأمم المتحدة، وكافة الهيئات الشرعية الدولية الأخرى. شعبنا يواجه عدوّاً استثنائيا في طبيعته العنصرية الصهيونية، وعدوانيته الفائقة، واستراتيجيته التوسعية، ومخططه القديم الجديد لمحاولة نفي الشعب الفلسطيني تاريخاً ووجودا. الجرح الفلسطيني المفتوح والنازف ممتد حتى اللحظة. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أجّل تنفيذ خطتّه للضّم لمجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية، لكنه لم يلغها، بالعكس من ذلك، ووفقا لما ذكره العديد من الصحف والمصادر الإسرائيلية، فإن الحكومة الصهيونية تستعد لتنفيذ مخطط جديد لضم مساحات شاسعة من منطقة «ج» في الضفة الغربية المحتلة، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، متجاوزا بذلك ردود الفعل الدولية الواسعة، الرافضة لخطة استلاب الاحتلال للأراضي المحتلة، وتقويض جهود إحياء ما يسمى بـ»عملية السلام».
يستهدف المخطط الإسرائيلي الجديد قضم نحو 80% من مساحة الضفة الغربية، وهي تشمل الأجزاء المتبقية من المنطقة «ج»، التي تشكل حوالي 60% من مساحة أراضيها الإجمالية، بالإضافة إلى حوالي 30% الواردة في مخطط ضم الأغوار وشمال البحر الميت والمستوطنات الكبرى. وقدّرت سلطات الاحتلال كلفة ضمّ كل مناطق «ج»، بما فيها منطقة الأغوار، التي تضم 300 ألف فلسطيني، بنحو 2. 4 مليار دولار سنويا، أما ضمّ كامل الضفة الغربية، أي 2. 6 مليون فلسطيني، سيكلفها حوالي 14. 8 مليار دولار سنويا، وفق المواقع الإسرائيلية.
من جهة أخرى، حذّر ديمتري نيرسيسوف في مقال له على موقع «برافدا. رو» الإلكتروني من الاستمرار في تجاهل المشكلة الفلسطينية، وإبعادها إلى المشهد الخلفي، في ظل صراعات الشرق الأوسط العديدة، وقال الكاتب: تعوَّد الجميع منذ زمن بعيد على وجود قضية فلسطين، وعلى معاناة شعبها، تعودنا على ذلك الصراع الذي لا ينتهي مع إسرائيل. أما الآن فأصبحت القضية الفلسطينية تحدّيا من الماضي، في معمعة تحديات الحاضر والمستقبل. بيد أن هذا المنطق لا يأخذ في الاعتبار مبدأ أساسياً يشدد عليه دوما الفلسطينيون أنفسهم، بأن الكوارث كافة، التي تعصف بالمنطقة اليوم، تكمن جذورها في إنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، فتحولت قضيته إلى جرح مفتوح، ولا مفر من مضاعفات جديدة ما دام الجرح لم يلتئم بعد. كما أن ضعف الاهتمام بالبحث عن طرق لإعطاء هذا الشعب حقوقه، هو أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يبرره أي شيء، سواء كان ذلك الحرب في سوريا أم في ليبيا أم في اليمن، والأوضاع الهشّة في أكثر من بلد عربي.

كانت فلسطين وستظل في أذهان وعقول شعبنا وأمتنا وطناً مشروعاً لنا، فحقنا في وطننا لا يسقط بالتقادم

من الخطأ، بل من الجريمة تصوّر أن المعاناة الفلسطينية حدث ماضوي فقط، إنها معاناة الحاضر والمستقبل المفتوح، حتى تحرير الأرض واستعادة الحقوق المسلوبة من براثن أعداء الحرية والتاريخ والإنسانية والسلام. القضية الفلسطينية هي «كواشين» الأرض ومفاتيح البيوت، والذكريات وأشجار الجمّيز وسنديانات القرى، والذكريات الّتي ما زالَ أصحابها يحلمون بالعودةِ إليها. نتذكرُ ليسَ للبكاء على الماضي، بل لنقول إن قضيتنا ستظل حيّة في عقول وقلوب أبنائها في الوطن والشتات، وأنه لا بدّ من النهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني، ومن التأكيد على ضرورة وحدة أبناء شعبنا في كافة أماكن تواجده. نقولها لنردّد مع الكاتب كازانتزاكيس ما يقوله عن المقاومة وعلى لسان الراهب «ياناروس» في رائعته «الإخوة الأعداء»، ذلك بعد أن ذهبت كل دعواته إلى الإخاء والمحبة والسلام من إخراج المحتلين من اليونان، وصل إلى نتيجة مفادها: «أيتها الفضيلة تسلّحي.. أيها المسيح تسلّح.. إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان إنجيل السلاح».
في كتابهما «سردية الجرح الفلسطيني: تحليل السياسة الحيوية الإسرائيلية»، يوضح الكاتبان الدكتور غسان أبو ستّة والصحافي ميشال نوفل، أمرين شديدي الأهمية: الأوّل هو علاقة الجسد المصاب والجرح الفلسطيني بالسّياسة. أما الثاني فهو الترابط بين العمل الميداني على الأرض، والتأثير والتأثّر بما يحدث من «أحداثٍ كبيرة»على الصعيد السياسي العربي المحلّي والعالمي.
نعم، نعترف معهما بأن هناك سردية طويلة لهذا الجرح النازف والمفتوح، فالجرح الحربي منذ لحظة الإصابة، على امتداد حياة المصاب، هو تعبير حيوي بيولوجي للحرب، كذلك فإنّه خزان سرديتها وشاهدٌ أزلي على معاناة الجرحى.
يوضح الكاتبان كيف ظهرت نظرية «السياسة الحيوية» التي مهّدت لها نظريات الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وتعنى هذه الفلسفة/ السياسة بإدخال الجسد البشري في السياسة. تأتي السياسة الحيوية كفكرة ـ بحسب فوكو ـ تقضي بالاهتمام بصحة الفرد وحياته، نظراً إلى مدى تأثيرها في السياسة العامة للبلاد. السياسة الحيوية في نظر ميشال فوكو، هي «العمل المتناسق للقوة المشتركة لمجموعة الرعايا، باعتبارهم كائنات حية، على مستوى حياة السكان بوصفها ثروة للقوة المشتركة يتعيّن الاعتناء بها من أجل تكبيرها وزيادة حيويتها». ولئن كان فوكو أوّل من قارب النظرية، فإن كثيرين بعده دخلوا إليها وأضافوا إليها، مثل جيورجيو أغامبن، وتوني نيغري وروبرتو إسبوزيتو الذين تحدّثوا عن تلك السياسة، خصوصاً في البلاد التي استعمرت من قبل المستعمر الغربي، ما أدى إلى إبادة السكان الأصليين، أو تدمير حضارات تاريخية (كالمايا والأزتيك والإنكا وسواها). في فلسطين مارس فيها العدو الصهيوني السياسات نفسها، تحت مسمياتٍ مختلفة، فمشكلة «الكتلة البشرية» هي مشكلة «وجودية» لليمين واليسار على حدٍّ سواء في كيان الاحتلال. يدرك شعبنا أنه بملايينه يشكّل خطراً داهماً على الكيان الصهيوني، وتطبّق دولة الاحتلال «السياسة الحيوية» بأفظع حالاتها تجاهه، وتجاه الأمة العربية بأسرها. المقصود هنا أولاً محاولة إبادة شعبنا الفلسطيني، والدلائل على ذلك كثيرة، ففي حربها العدوانية على غزة عام 2012 استعمل الكيان الصهيوني الأسلحة المحرّمة الاستعمال دولياً، ما أدّى إلى استشهاد ما يزيد عن 1500 فلسطيني، وجرح 5000 من بينهم آلاف الإعاقات الدائمة.
وإذا كانت النكبة قد شهدت تشريد أبناء شعبنا، الذين تحولوا ظلماً إلى «قرار دولي»، فإننا حتى اليوم ندفع أثمان يوم النكبة، الأخيرة تكون حقيقية إذا نجحت الجهود في إخفاء الهوية الفلسطينية، لأنها الأساس في مواجهة الاحتلال، وهي الرد القوي على محاولة التهويد للأرض والإنسان، ولأن القبول بهوية سياسية وحقوق وطنية في أي مكان أو زمان، على حساب الهوية الوطنية والسياسية الفلسطينية هو النكبة الكبرى، والنقيض لحق العودة. ومواجهة النكبة تقتضي أن لا تتغير أولوية شعبنا لتكون على أي أرض أخرى أو أي هوية أخرى. مواجهة النكبة رغم صعوبتها وتضحياتها، فإننا مصممون على دفع أكلافها العالية، ولا نتعامل معها كحالة إدارية، بل مع قضية مصيرية. نعم كانت فلسطين وستظل في أذهان وعقول شعبنا وأمتنا وطناً مشروعاً لنا، فحقنا في وطننا لا يسقط بالتقادم وبوصلتنا موجهة نحو العدو الصهيوني وحلفائه، ونضالنا لن ينضب وهو مستمر ما دامت أرضنا محتلة، النضال ينتقل من جيلٍ إلى جيل.
عندما نستعمل تعبير لاهوت التحرير الفلسطيني، فالقصد منه إضفاء القدسية بكافة أشكالها على مبدأ استعادة الوطن الفلسطيني من براثن غاصبيه العنصريين والفاشيين، فاللاهوت بمعناه اللغوي: هو مزيج من التحليلات الاجتماعية -الاقتصادية التقدميّة التحرريّة، التي تشدد على الاهتمام الاجتماعي بالفقراء والمحرومين من وطنهم وحقوقهم، والتحرر السياسي للشعوب المضطهدة، وهو ما كان يمثل الممارسة السياسية لعلماء الدين في أمريكا اللاتينية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وهو ما كان يمثل الممارسة السياسية لعلماء الدين في أمريكا اللاتينية، الذين شاركوا في قيادة شعوبهم نحو الحرية. ولاهوت التحرير الفلسطيني تماما كلاهوت داليت في الهند، ولاهوت مينيونغ في كوريا الجنوبية. وفي حالتنا: هو تعبير عن اللاهوت السياسي واللاهوت السياقي، الذي يمثل محاولة من قبل عدة لاهوتيين فلسطينيين، يعملون بشكل مستقل من مختلف الطوائف ـ معظمهم من كنائس رئيسية بروتستانتية – لتوضيح رسالة الإنجيل بطريقة تربطه باحتياجات المجموعات الأهلية، ويتضمن هذا التعبير – كقاعدة عامة- إدانة للدولة الصهيونية. وهو دعامة لاهوتية للمقاومة الفلسطينية للمحتلين وللتطلعات الوطنية الفلسطينية، وتثمين شديد للهوية العرقية والثقافية الفلسطينية، كضامن للفهم الحقيقي للإنجيل بحكم أنهم سكان أرض يسوع والكتاب المقدس، والشخصية الرئيسية في لاهوت التحرير الفلسطيني هو المقاوم الفلسطيني، الصامد في أرضه، رغم العنصرية، وسياسة القتل الممارسة ضدّه، بغض النظر عن انتمائه الديني. إنه الكاهن ياناروس الذي جعل من الإنجيل إنجيلاً للسلاح. إنه المطران هيلاريون كبوجي، ورجل الدين المسلم وشعبنا الفلسطيني المعطاء.
كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رجا فرنجية:

    مهما طال ألزمن أن فلسطين لعأئدة حتماً وسيأتي ذلك أليوم ألذي يدرك به قادتنا أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وعندئذ سيتم تضميد ألجرح ألفلسطيني ألنازف.

    1. يقول تامر العربي:

      …نعم كلامك صحيح…لو يرجع بعض الضعفاء الى تاريخنا . عندها يعرف ان النصر دوما للصابرين المجاهدين.

  2. يقول أسامة كُليَِة سوريا/ ألمانيا:

    شكراً أخي فايز رشيد. اتفق معك معك ونع الاخ رجاء فرنجية، لكن الواقع مرير! التقيت البارحة في زيارة لنركيا بأحد الأصدقاء وهو ضابط سابق ومنشق ولم التقي به منذ عشر سنوات. اول شيء سألته برأيك متى سنعود إلى القرية (قريتنا معاً) فأجاب هكذا بكل عفوية عندما سيعود الفلسطينيين إلى فلسطين! سأترك لكم تحليل او التعليق على ذلك وخاصة أن ملامه جاء بعفوية ودون تحليل مسبق،

  3. يقول رجا فرنجية:

    ألشكر للدكتور فايز رشيد وللسيدين تامر ألعربي وأسامة كلية. من أجل أستعادة فلسطين أن ألخطوة ألأولى هي توحيد ijvcanada.org قوتنا. أن ألأتفاق ألأخير بين حماس وألسلطة ألفلسطينية هي ألخطوة ألأولى. من أجل تحقيق ألهدف علينا أيضاً ألتعاون مع أليهود ألفلسطينيين للتخلص من أليهود ألأشكناز. هنا في كندا منظمة يهودية تهدف الى أستعادة فلسطين.

    1. يقول أسامة كُليَّة سوريا/ألمانيا:

      شكراً أخي رجا فرنجية. اتابع المنظمات اليهودية التي تهتم بالسلام في فلسطين. طبعاً هي منطمات جيدة ولاشك ان عملها مهم لكن للأسف ذات تأثير محدود كما نعلم.

إشترك في قائمتنا البريدية