قضايا الهوية في الرواية العربية: العروبة والإنسان والمكان

عندما ننعت الرواية بأنها عربية، فإننا نكسبها هوية عنوانها العروبة، أي الإنسان والثقافة والتاريخ والجغرافيا والهوية والحاضر والمستقبل. فليس النعت من باب التمييز لها على مستوى خريطة الرواية العالمية، وإنما هو انتماء متجذر وإبداع رصين صيغ باللسان العربي، وصار علامة على الرواية العربية الحديثة، على عكس الرواية الغربية التي كُتِبت بلغات عديدة، وحملت ثقافات ظاهرها أنها أوروبية غربية أو أمريكية غربية، إلا أن باطنها ومكوناتها يحوي اختلافات عرقية ولسانية وفكرية وحدودية، بالإضافة إلى كل ما ينبئنا به التاريخ الأوروبي من حروب دموية، وصراعات على النفوذ الاستعماري قديما، والتمدد العالمي حديثا.
إن علاقة الرواية بقضايا الإنسان ليست علاقة جزئية، فالإنسان ليس جزءاً من السرد الروائي فقط، بل إن العلاقة بينهما أساسها الوحدة والتوحّد، فالإنسان موضوع الرواية، والرواية تحكي عن الإنسان، حتى لو كان سردها خياليا أو تاريخيا أو أسطوريا، بجانب السرد الواقعي والاجتماعي، فالإنسان حاضر في كل هذا: في الموضوع والطرح؛ وفي الخطاب والرؤية، وفي تصوير الشخصيات، وسرد الأحداث؛ بما يجعلنا نجزم أن الرواية هي انعكاس للإنسان في حركاته وسكناته، ومشكلاته وأحلامه.
ونقصد بالإنسان الفرد: ذهنه وفؤاده، وسلوكه ونشاطه، وعلاقاته وأفكاره؛ كما نقصد به أيضا الإنسان الجمعي، في علاقته مع: المجتمع والقوم والعشيرة والأسرة، فلا يوجد إنسان يعيش دون محيط اجتماعي، إلا إذا اختار النأي بنفسه، والعيش بمفرده، تمزقه الوحدة، وتعصف به الهموم، منبوذا من جماعته، مرفوضا من أقربائه. وهناك أيضا أبعاد تتصل بالإنسان، مثل البعد القومي والوطني والقطري والجهوي، أي أننا نريد قراءة الإنسان بوصفه ذاتا مفردة، وقراءة علاقته مع الناس بوصفهم مجتمعا وجماعة ودولة وشعبا، وما يتعلق بهم من ثقافة وهوية ومشاعر وأفكار.
من أجل هذا، لا يمكن فهم القضايا الإنسانية العربية في الرواية، دون العودة إلى الواقع السياسي والثقافي والمعرفي والحضاري، ودون التعرض إلى المشكلات الاجتماعية والمجتمعية، ودراسة خصوصية المكان، وما حملته الحقب الزمنية من تغييرات.
فالرواية العربية خلال حقبتها الأولى في النصف الأول من القرن العشرين تختلف في بنيتها وأساليبها وموضوعاتها عن الرواية في مرحلة النضج خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهي المرحلة التي شهدت أيضا التجريب والتجديد شكلا وأسلوبا، وفي جميع الأحوال كان الإنسان العربي يتغير، حيث ينتشر التعليم، وتتسع الثقافة، وتتحرر أقطاره من الاستعمار، وتختفي أقطار ونظم حكم، وتظهر نظم جديدة، بعضها شهد ثورات، وبعضها الآخر نعم بالاستقرار، وظل الإنسان العربي متواصلا غير منقطع، وكانت الرواية العربية أحد السبل في دعم هذا التواصل، والإحساس بالهوية المشتركة بين أبناء العروبة.

الثقافة العربية هي العنصر المشترك الجامع بين أبناء العروبة، ونستطيع من خلال دراسة العلاقة بين الثقافة والرواية العربيتين الوعي بشخصية الإنسان العربي وفهم فكره والعادات والتقاليد التي تربط بينه، بجانب النظر إلى الآخر: الغرب والعالم والثقافات والحضارات.

فقرأ أهل المغرب العربي إبداعات المشرق، مثل روايات عبد الرحمن منيف (السعودية) وحنا مينا (سوريا) وإسماعيل فهد إسماعيل (الكويت)، وقرأ المشرق العربي السرد المغاربي مثل روايات محمد شكري (المغرب) والطاهر وطار (الجزائر)، وتُرجَمت إلى العربية روايات كتبها عرب مغتربون، آثروا تناول قضايا العالم العربي عامة، وأوطانهم خاصة من خلال لغات عالمية مثل ثلاثية نور الدين فارح الكاتب الصومالي التي صاغها عن الصومال التاريخ والاستعمار والثقافة والمجتمع باللغة الإنكليزية، وقرأوا أيضا ترجمات روايات الطاهر بن جلون (المغرب)، وأهداف سويف وألبير قصير (مصر)، وأمين معلوف (لبنان). الجميع تذوقوا الفن الروائي العربي بكل ما حمله من عبق المكان، واختلاف الظرف والزمان، ولكن حتما كان هناك تقارب، بل تشابه في شخصية الإنسان: في النضال ضد الاستعمار، والتوحد إزاء مشكلة فلسطين، ورفض انفصال أقاليم العروبة، أو إشعال الحروب الحدودية، بل وجدوا أن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وقضايا الهجرة والسكان تكاد تتوحد.
الهدف المتوخى في هذا المقال هو تقديم رؤية شاملة حول وأبرز القضايا الإنسانية التي تناولتها الرواية العربية في مسيرتها. وتعتمد استراتيجيتنا فيه على النظر إلى الرواية العربية بشكل كلي؛ تبحث في المشترك بين الإبداعات الروائية العربية، من أجل تقديم لوحة شاملة، تتجاوز القطرية والمحلية والجهوية دون أن تهملها أو تتغافل عن إبداعاتها، مع مراعاة التنوع المكاني، والخصوصية البيئية. وترنو أيضا إلى ما يميز الشخصية الروائية العربية، وعوامل خصوصيتها. فما أكثر الدراسات التطبيقية والنظرية التي تناولت مسيرة الإبداع الروائي، في أقاليم العروبة الكبرى، مثل بلاد الشام والعراق والخليج العربي، والمغرب العربي، ومصر والسودان، وما أقل مثيلاتها التي تنظر في القضايا المشتركة، وتبحث في الهموم التي تجمع بين الروائيين العرب، وهو ما نطمح إليه في هذا الفصل، حيث نحرص على أن ننطلق من قراءة خصوصية الرواية العربية، وأسباب تميزها الثقافي، وننظر في ظروف النشأة وعوامل التأثير والتأثر، ودوائر التلاقي، وأيضا دوائر التلاقي والاختلاف.
وفي سبيل ذلك لابد أن يكون نهجنا في دراسة الرواية العربية بوصفها فنا أدبيا، وصل إلى مرحلة الاستواء والنضج والتميز، وإلى الإنسان العربي بوصفه قضية وموضوعا روائيا، وثمة كثير من الإشكالات التي ينبغي النظر إليها، منها ما يتصل بفن الرواية العربية ذاته، على صعيد اللغة والشكل والتجديد وعلاقتها بالرواية الأوروبية؛ ومنها ما يتصل بالثقافة العربية التي تعنى برؤى وهوية وقيم للإنسان العربي، وبوصفها المرجعية التي لن نفهم شخصية الإنسان العربي إلا بفهمها، بل إن الثقافة العربية هي العنصر المشترك الجامع بين أبناء العروبة، ونستطيع من خلال دراسة العلاقة بين الثقافة والرواية العربيتين الوعي بشخصية الإنسان العربي وفهم فكره والعادات والتقاليد التي تربط بينه، بجانب النظر إلى الآخر: الغرب والعالم والثقافات والحضارات.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية