الحالة الإسرائيلية… أو الانقلاب الدائم على الهوية

تاريخ الكيان العبري هو دائما تاريخ يبحث عن الآخر من أجل محاولة توكيد الذات التي لا تريد أن تتحقق، لأنها سلكت طريق الاعتداء والعدوان والاستيلاء والنهب المنظم والعشوائي، ما يلخص في المطاف الأخير والتحليل النهائي، أن كل تاريخ إسرائيل هو تاريخ استعمار لا يريد أن ينتهي، ويعاند في البقاء بقدر ما يمحو ما أسسه أو أرساه في الأرض المحتلة. هذه الأخيرة لا تزال تنطق عربي وتأبى العِبْري، لأن الذات مع الأرض واحدة، ولأن الإنسان فلسطيني هو بالذات ومن الذات نفسها، على خلاف مَنْ أراد أن يكون ذاتا بمقومات غيره، كأن يشكل جيشه بالكامل من المرتزقة والفلول الأجنبية، وتيسير حصول الجنسية الإسرائيلية على من لهم هويات أصيلة سابقة.
الحالة الإسرائيلية حالة لا تشبه غيرها، لأن تداخل الاستعمار وتصفية الاستعمار، يجري في لحظة مفارقة وغريبة غربة الذات الإسرائيلية المستحيلة في الأرض الفلسطينية العربية، فقد مرت كل شعوب وأمم وبلدان العالم خلال فترة القرن العشرين من لحظة الاستعمار إلى ما بعده، وشكلت دُولَها على أساس هذه التجربة.. إلا في الكيان العِبْري القائم على عقيدة صهيونية كدين وضعي أكثر من الديانة اليهودية، فإن تصفية الاستعمار تتم في لحظة الاستعمار نفسه، الأمر الذي يصعّب مسألة تكوين الذات وبناء الهوية، فما تفقده إسرائيل لا يعوض، وأن كل التاريخ، لا يسجّل فعل العدوان والانتهاك والاحتلال، بل يراكم لصالح الأرض الفلسطينية والإنسان الفلسطيني.

الحدث العظيم الذي يتحقق في غزة لا تصنعه دولة الاحتلال، بل حركة المقاومة، لأن البطولة على ما يشهد كل العالم تظهر في بسالة المحاربين وفي سقوط الشهداء

فصور الدمار والخراب التي تجري الآن في قطاع غزة بدافع غريزة التصفية والمحو والإزالة، تلاحق وترافق الفعل الاستعماري، وليس المقاومة، لأن المقاومة في النظرية السياسية المعاصرة هي الرد الشرعي والطبيعي على الاحتلال. عندما ندقق في مشاهد حرب غزة، وهي حرب أرادها الكيان العِبْري عنوة وقسرا، نستشف فورا الصلة بين قصور الذات في التعامل مع السياسة، والدفع بها إلى الحرب كأفضل سبيل إلى تأبيد الأزمة والتعامل معها كأمر عادي، أو التعود على ما يمكن أن يكون أصلا من الذات، ونقصد المعاملة السلسة والسلمية والسياسية في مدلولاتها النبيلة.. لماذا؟ لأن كل السياسة المتطرفة لنتنياهو وزمرته الفاشية حوّلها إلى فعل حرب في سياق ما دخلت إليه إسرائيل ككيان محتل يعاني من لحظة تصفية الاحتلال أيضا.. وتلك هي النكبة والنكسة في معانيها الإسرائيلية.
بدأنا هذا المقال بالإشارة إلى حالة قصور في الذات الإسرائيلية، على ما تقدمه الصور والمشاهد والبث الحي لما يجري في قطاع غزة، إلى توكيد حالة فقدان متوال ومتتال، لما حاولت أن تراكمه، أو تبحث عنه، فلم تجده، والدفع إلى الاعتماد على الغير، ليس من دعم عسكري وسياسي متوفر، بل بالاعتراف القانوني بوجود إسرائيل من أجل أن تحصل على جنسية بلد آخر مثل ما جرى في ولاية سكسونيا (ألمانيا)، عندما ألح رئيسها على ضرورة الاعتراف بوجود إسرائيل لمن يرغب في الحصول على الجنسية الألمانية من الأجانب المقيمين فيها. وقد جاء نص الاعتراف على النحو التالي: «إنني أعترف صراحة بالمسؤولية الألمانية الخاصة حيال دولة إسرائيل وحقها في الوجود، وأدين أي مساع معادية للسامية. لا أتبع مساعي موجهة ضد حق دولة إسرائيل في الوجود، ولم أتبع مثل هذه المساعي». وغني عن القول، إن هذا النص يكشف من جملة ما يكشف، النزعة النازية للسياسة الألمانية، عندما تقصر الاعتراف بإسرائيل على الأجانب الراغبين الإقامة في ألمانيا، ولا تعممه على كل الألمان، لأنه لو تم ذلك لاكتشف الجميع مدى كراهيتهم لليهود، وأن الأصل لا يزال ثابتا. وتصرف مثل هذا يجري في بلد غريب وبعيد عن إسرائيل، لا يفضح ألمانيا فحسب، بل يؤكد هشاشة الكيان العِبري، الذي فَقَد ما في جعبته وأضحى يسعى إلى أدوية وأمصال من الخارج… ذروة الاستهتار بالدول والعلاقات الدولية.
الحدث العظيم الذي يتحقق في غزة لا تصنعه دولة الاحتلال، بل حركة المقاومة، لأن البطولة على ما يشهد كل العالم تظهر أول ما تظهر في بسالة المحاربين وفي سقوط الشهداء، في حرب إبادة تشنها أجهزة حربية أمريكية على يد صهاينة من داخل وخارج إسرائيل. وكل هذا الصنيع هو الذي جعل الجميع يكتشف مدى زيف الرصيد الذي يدخل به الجيش اليهودي في حرب ليست لصالحه، حتى لو دمر بها الخصم. العارفون بالوضع في إسرائيل يؤكدون حالة انقلاب في الهوية اليهودية التي أبدا لم تتحقق في أرض غير أرضها وفي مسار غير تاريخها الشرعي، أي الحدث الذي يؤكد الحقيقة التاريخية ويتفاعل معها، وليست تلك التي يفقدها دائما. فما يجري الآن في غزة هو بيان مشهدي هائل يختصر تاريخا لدولة إسرائيلية خابت في أن تتحقق وفق الشرعية المحلية والشرعية الدولية، ومن ثم فهي تفقد الروح وتخسر الحرب لأنها حرب إبادة على ما يطلعنا تاريخ الأنظمة التي ارتكبت حماقة حرب الإبادة. الكل اليوم صار يعرف مدى قصور الاعتبار اليهودي في تكوين شرعي لدولة وفي بناء ثقافة في غير مجالها الحقيقي، وهذه المعضلة الأساسية هي التي أملت حالة الحرب الدائمة في الشرق الأوسط بصورة عامة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني بصورة خاصة. والوضع الآن، على ما يجري في غزة ويتواصل في الضَّفة، هو حالة من يطلب إسعاف دولة احتلال غرقت في أتون حرب ولم تعرف كيف تخرج منها، لعجزها عن أن تكون «نحن» كما هي سائر الدول في العالم، التي تكونت وتشكلت وفق المسار التاريخي الذي أرست معالمه وملامحه وخصائصه هيئة الأمم المتحدة، مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي لحظة الحركات الوطنية الاستقلالية وتصفية الاستعمار.
نعم، إسرائيل ليست دولة اليهود على ما تقدمه مشاهد غزة، بل كل الخطاب السياسي حول هذه المسألة مجرد أساطير وأوهام وضرب من الخرافات لاستدراج المحارب الذي قدّم بيانا زائفا حول يهوديته.. لأن اليهودي الأخير يجب البحث عنه في أرشيف ما قبل سنة 1948. والحالة التي لا تشبه في الوضع الإسرائيلي أنها لم تكن مسار شعب يتحرر، بقدر ما أنها شعب يحْتَل ويستَعْمر ويواصل استعماره في الوقت الذي كان قد تعرّض فيه لأكبر عملية إرهابية خلال الحرب العالمية الثانية، على يد النظام النازي، الذي اختزل كثيرا من الأنظمة الأوروبية المعادية والمناهضة لليهود. مفارقة أن الضحية أصبحت جلادا أرعن وخسيسا من كثرة النفاق والبهتان، هي التي فرضت على العالم كله من خلال نواته الأممية واجب السعي الحثيث إلى انتشال نتنياهو وعصابته من وَحْل الحرب والفساد والمأساة التي يعيش بسببها الشعب الفلسطيني واحتمالاتها المقبلة على بقية شعوب المنطقة، وفق ما تقدمه مؤشرات وتوقعات يمكن التقاط معناها الواضح لمن يحسن النظر والتحليل.
كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية