بعد اعتصام الجامعة الأردنيّة: تحيّة للعقلاء خلف قناع المجانين

حجم الخط
4

قد لا يعني الموضوع القارئَ غيرَ الأردنيّ كثيراً، أو ربّما يعنيه: أنّ في بقعة ما داخل هذا البلد الصغير، أمام مكتبةٍ في ساحة جامعة فيها، اعتصم لعشرين يوماً إلاّ قليلاً، عشرات الطلّاب اعتراضاً على قرار متعلّق برفع الرسوم.
واحتملوا ما احتملوا من تبعات النوم في العراء، وأيّام البرد الأخيرة، والقطع المتعمّد للكهرباء والدراسة على أضواء أجهزة الصرف الآليّ، وسلسلة من الاتّهامات المضحكة، على عادة أيّ سلطة حين تخاف على نفسها وتفلس من مبررّات وجودها، شملت اتهاماً بوجود أجندات خارجيّة وآخر بإهانة الجيش، وصولاً إلى وجود المسكرات والمخدرّات في الاعتصام. الطلاّب اعتصموا بحبال الممكن ولم يتفرّقوا فكان ما كان: أن أُجبرت الجامعة على التراجع، ومجلس التعليم العالي على عدم التجديد لرئيس الجامعة.
مقالات كثيرة كُتبت في الفترة الأخيرة، من قبل مؤيّدين للاعتصام منهم طيّب النيّة، ومنهم – حسب وصف الطلبة – من أعجبه ركوب الموجة، وبين معارضين وصلت الوقاحة ببعضهم إلى تحذير الدولة من تبعات حراك الطلبة، الذي يريد تحويل «عمّان إلى درعا»، ولسبب ما هناك علاقة وثيقة جليّة بين موقف المعارضين وعدد الأخطاء اللغويّة والإملائيّة الهائل في مقالاتهم، رغم تجرؤ بعضهم على إضافة لقب «دكتور» أمام أخطائه، ممّا يشي بالكثير عن حال التعليم العالي في الأردن. هنالك فئة أخرى، لا تكتب، من أصحاب نظريّة المؤامرة الذين يرون أنّ «الأجندة الخارجيّة» لم تكن إسلاميّة بل أمنيّة ومن صلب الدولة، وترى هي الأخرى في الطلبة محض أدوات لحساباتها السياسيّة.
برز في الصورة العامّة في الإعلام ما أراد الطلبة إبرازه: أنّ العنوان العريض للاعتصام اقتصاديّ، والمسألة غنى وفقر ومال ودراسة، وأنّ الهويّة الجامعة هي الطالبيّة فقط، من غير أدلجة أو تسييس، فإذن هي قادرة على أن تجمع من كانوا أعداء في الانتخابات فألّفت الأسعار المرتفعة بين قلوبهم، هكذا ببساطة مخلّة. هذا بالطبع يرضي منطق الوصاية عند كثيرين، خاصّة الداعمين لحقّ الطلبة في الاعتصام: فالطلاب عندهم ثلّة من «الشباب الواعي» الذي يرفض الظلم والضيم، وهم كما برزت صورهم في بعض الكتابات «بسطاء»، مسالمون، طيّبون، بل ربّما سذّج، أو حتّى مجانين.
ليس الجنون أبداً شتيمة، إلاّ عند أصحاب العقل البارد والحِسّ الوَهِن، كما أنّ العرب كانت تقول «الشباب شعبة من الجنون»، ويزخر التراث بأمثلة على من تعاطى الحُمقَ «ليرى شأنه ويستره على الناس» (ابن حبيب النيسابوري). الشباب في هذا السياق ربّما تعاطوا البساطة، على أنّ وراء قناع الاقتصاد الواضح في الاعتصام، على عكس ما كتبه المعارضون المصرّون على تصوير الطلبة كمخربّين، والمؤيّدون المصرّون على تصويرهم كصغار غاضبين، أسراراً كبيرة تكشف عن عقول حقيقيّة قادرة على مراقبة نفسها جيّداً، وتعرف ما تفعل، وكيف ولماذا، ولذا أكنّ لها احتراما خاصّاً إذ تجعلني، بكلّ صدق، أعيد النظر في يأسي الكبير، لأنّ وراء هؤلاء المجانين العشرينيّين الصابرين، الذين غلبوا مئتين (والنصّ بالمناسبة ليس حكراً على داعش والقاعدة كما يظنّ المرعوبون)، عقلاء لا على المستوى الفكريّ حصراً، بل على المستوى السياسيّ الدقيق. هذا لأنّ تحوّلاً في النماذج نفسها التي أنتجتها الدولة بدأ فعلياً بالحدوث عند جيل الشباب كما يتبدّى لي: فالإسلامي بدأ ينشد تكوينا معرفيّاً أكثر عمقاً، داخل الإسلام وخارجه، وابن العشيرة داخل تاريخ قبيلته من قبل تأسيس الدولة وخارجها. عند الأوّل، تبدأ الحيرة كما يصفها الطلّاب من إشكالات هامشية مثل اللحية والموسيقى ثم تصل إلى الصحابة ومعاوية وتصبّ في أسئلة تاريخ الخلافة والدولة وانتهاء بأسئلة الحرية والمرجعيات وتاريخ الفلسفة. عند الثاني تبدأ الحيرة من الانفصام بين الواقع السياسيّ وبين تاريخ القبيلة الشفويّ الذي يُحكى شِعراً في مجالس قبليّة ترسم صورة البدويّ الذي يقدّم «اللا» على «النعم» من أيّام العثمانيين ثم البريطانيين، مرورا بعلاقة القبائل بالفدائيين في السبعين وصولاً إلى العلاقة الحالية مع الدولة والأجهزة الأمنية والإسلاميّين، في خطاب يركّز على مفاهيم الشرف والكرامة والعزّة من غير تطابق حتميّ مع معناها عند الدولة أو الأحزاب مما يقود إلى أسئلة المرجعيّات ذاتها وتاريخ الأمّة والأفكار وضرورة القراءة.
كلا الطرفين– ودورهما الجماهيريّ ما يزال حاضراً بقوّة في الجامعة والدولة– ابتدأ يطرح أسئلة الهويّة بعد أن تجاوز إجاباتها المكرّرة وسئمها وواقعَها، بل بدأ الطرفان الشابّان يجتمعان أوّلاً على ما يرفضانه بالمطلق: مثل ما حدث حين سادت السخرية من إدارة تصرّ على أن يكون الفكر داخل أسوار الجامعة «أردنيّ المنشأ» فكتب أحد الطلبة، وهو ابن عشيرة، معلّقاً بأنّ توجّهاً كهذا يعني أن على ماركس أن يكون من بني صخر والبنّا من سليل بني عبّاد كي تقبل الجامعة حضوره في المشهد. «أردنيّ المنشأ»: هو الفكر الذي أرادته الإدارة نفسها التي أصرّت على الافتتاح العظيم لأوّل فرع لـ»برجر كينغ» داخل أسوار الجامعة مكان الكافتيريا القديمة مقبولة الأسعار، من غير أن تقدّر أنّ «أجندة داخلية» كهذه سيقاومها الطلبة بكلّ عنف، لا بسبب الفقر وحده، بل بسبب الفكرة، التي هي أحياناً أكثر إيلاماً وإهانة من نتائجها الماديّة الواضحة.
السؤال الماديّ ذاته أعقد من رفع الرسوم، خاصّة حين أصبح واضحاً أنّ وعي الطلبة، إذا كان متقدّماً، فهو لا يدين للجامعة والمدرسة بقدر ما يدين لفضول صاحبها الشخصيّ أو لإحباطه أو لصدفة عابرة أفضت إلى اتساع القراءة والتجربة. والسؤال إذن ينبغي أن يشمل المقابل التعليميّ الحقيقيّ لكل دينار يدفعه طالب الجامعة، حتى داخل البرنامج التنافسيّ العاديّ، خارج إطار الشهادات وكشف العلامات. الجواب، في الكليّات الإنسانيّة، غالباً ما يقود نحو السخرية، فالـ»أجندة الداخليّة» تشمل كما هو معروف، قاعات تدريسيّة يمضي فيها بعض الأساتذة ساعة المحاضرة في الحديث عن قصص شخصية وتفاصيل دراسته العتيقة في الـ»دول المتقدمة»، حكّاءً بكّاءً، كما أنّ المعرفة التي تقدّم خلال المحاضرة مشكوك أبداً في صحّتها لكثرة الفساد الممتدّ من البكالوريوس إلى الأستاذيّة، إذ لم تعد الشهادات والألقاب تعني بالضرورة القدرة على تركيب جملة واحدة مفيدة أو التعبير عن فكرة منطقيّة. وعن هذا قال ساخراً أحد طلبة الاعتصام الغارق في قراءات «خارجيّة» كي يحمي عقله من تجهيل المؤسسة: إنّ الأسهل على الجميع أن أدفع المبلغ وأعطى الشهادة سريعاً، فالمسألة تجارة وحسب، والمعرفة شيء خارج عن المؤسسة لأنّ أولوياتها مطابقة لتلك التي للدولة: أمنيّة استثماريّة، وهو منطق وصل إلى مكتبة الجامعة التي غدت تسخّر أعتى جهودها للتدقيق على الهويّات أكثر من توفير الخدمات التي يدفع الطالب ثمنها وقت التسجيل في كلّ فصل. الطالب نصحني مشكوراً بقراءة كتاب «مجتمع بلا مدارس»، واقتراحه يعبّر بوضوح عن الهموم المعرفيّة الحقيقيّة لطالب الجامعة الذي لم يعد يرى فيها مكاناً للمعرفة أصلاً.
هذا «الوعي المكتسب» عند بعض الطلاب، على حد تعبير أحد منظّمي الاعتصام من إدارة الاتحاد، يأتي من جهتين. الأولى متعلّقة بالمعرفة بالضرورة، التي قد تبدأ خارج المدرسة، من المسجد غالباً أو من ثقافة عائليّة أو شخصية، ولاحقاً من التواصل مع طلبة آخرين من اتجاهات مختلفة. الجهة الثانية هي الرغبة المشتركة بالتغيير، اعتراضاً على واقع سياسي واجتماعيّ غارق في الظلم والفقر والفساد، ولا بدّ من فهمه والانخراط فيه، جنباً إلى جنب مع متابعة «الدراسة الحقيقيّة» خارج قاعات المحاضرات في محاولة للمواءمة بين ترف التجريد والتنظير وبين الواقع المتعطّش للفعل؛ محاولة ترفض الإذعان لفكرة الانسلاخ أو الانفصام الحتميّ بين الجهتين.
هذا المستوى من التعقّل والوعي أفضى إلى التالي: أن يكون الاعتصام مدخلا ًإلى انتصار متعلّق بالفهم لا بالمكسب النهائيّ وحده، إذ لم يكن ليقدّر له النجاح من غير استيعاب للصراعات السياسيّة والمصلحيّة داخل إدارة الجامعة والدولة، ومن غير فهم لعقليّة الطلاب وتوجهاتهم المتنوّعة حدّ التنازع، من أجل الوصول إلى خطاب مشترك ما. ولأنّ الفهم هذا يشمل التفاصيل، فإنّ تصوّرهم جميعاً كبسطاء أو محض أدوات هو تصوّر مشوّه حتماً لبعده عن الحقيقة بأبسط صورها. ليس سراً عند الطلاب مثلاً أنّ مِن داخل الاتحاد من أبناء العشائر من رفض التعامل مع الأجهزة الأمنيّة فكسب احتراماً وثقة عند الإسلاميّين، واقتدى به بعض أبناء عشيرته، بينما يبني سواهم مستقبلاً وظيفياً إذا امتهن الوشاية؛ وليس سرّاً أنّ اعتصامهم كان يمكن أن يفضّ لولا تطابقه المتحمل مع مصلحة جهات أمنيّة، لكنّ الطلبة اختاروا استغلال هذا الاحتمال لصالحهم؛ وليس سراً كذلك أنّ الفلسطينيين منهم – من غير الإسلاميّين – أضعف موقفاً بسبب سهولة تهديدهم بما يسمح به منطق المواطنة المعاصر المختلّ؛ وأنّ السؤال السياسيّ في لحظات مفصليّة لا بدّ من تقديمه على الأيديولوجيّ وترك الاشتغال بالمزاودات لعشّاق السلطة. هذا كله، بالمناسبة، فهم طالب من صلب الاتحاد وليس من إملاءاتي على الحدث، عشرينيّ بإمكانه النقاش في تفاصيل الدولة ومفاصلها بطريقة طاهرة تماماً من التسرع والاختزال والإقصاء، يعود وأصحابه بعيداً عن ضجيج الاعتصام ليصفوا النتيجة بالانتصار لفكرة «الجدوى»، وليبحثوا في أسئلة الهوية والدولة والمرجعيّات وليتساءلوا – على حدّ تعبير أحدهم – عمّا تبقّى الآن حقّاً من الوطن.
الذي تبقّى منه ربّما، يختصره مشهد سابق على مشهد «سجدة الشكر» أمام رئاسة الجامعة بعد الانتصار، السجدة التي شارك فيه طلاب يساريّون أيضاً وانهالت رغم ذلك الاتهامات المتسرّعة بـ»داعشية» المشهد. المشهد الآخر كان حين دعا الطلبة الناس إلى المشاركة في صلاة الجمعة أمام بوابة الجامعة الرئيسيّة، وأرادوا دعماً في العدد، وطلبوا من اليسارييّن المشاركة ووافقوا، فتفاجؤوا بأنّ «الرفقاء توضّؤوا» أيضاً على حدّ تعبيرهم، إمعاناً منهم في منطق الدعم لخصومهم الأيديولوجيّين، إخوانهم في الفهم والمصير. هنالك شيء من الظُّرف، بل والجنون في ظاهر المشهد، وعقل حقيقيّ وخلق كبير في الباطن، مصدره وعي فكري سياسيّ لا يمكن وصفه بالبساطة والسذاجة. أيّ سذاجة وفي مقدرة طالبة مشاركة في الاعتصام أن تكتب معترضة على من يرتدي ربطة عنق و»ينعق عن (جارتنا) «إسرائيل» وديمقراطية أمّها (أمريكا)، فدرويش يصدح الآن في رأسي وفي أعماق أعماقي: سنحفر ظلّنا ونـ… مزّيكا على تمثال أمريكا، وسالم يمتطي جواده ولا يصالح على الدم حتّى بدم» وتتابع: «ها أنا أمرّ كل يوم تقريباً من (وادي الرّمم) الذي دفنت فيه أشلاء فدائيينا في أيلول الأسود، ولا أشعر بالعداء لجارتنا الأردنيّة، بل أنتمي لأحمد الدقامسة أكثر من انتمائي لياسر عرفات».
هؤلاء الطلاب «البسطاء» أكثر تعقيداً واتّقاداً مما يظنه الناس. يعرفون الدقامسة مثلما يعرفون الكساسبة، ويسألون عن أبوزيد في الموقّر مثلما يسألون عن الزيود في إربد، ولا يرضخون سريعاً لانتقاءات السلطة في رسم الهويّة والأبطال والشهداء ومعنى الأردنيّ وابن البلد. طلّاب يفكرون في أصل المشكلة، ويبحثون عن حلول، إجرائيّة وفكرية داخل حلقات معرفيّة دوريّة لا دور فيها للأساتذة، ويقرؤون في كلّ مرّة خمسة كتب على الأقلّ حول مفاهيم تأسيسيّة ويفيدهم في الحلقات تجسّد تاريخ الأفكار في بشريّتهم الحاضرة فيسأل كلّ منهم نفسه كيف انتهى هكذا. طلّاب محتارون، فإذن أحرار على طريقة أبي نصر، حيث الحريّة «جودة الرويّة وقوة العزيمة على ما أوجبته الروية»، رافضون للمعنى البهيميّ للأمن والأمان الذي بات ينخر عظام البلاد والعباد ولا يشمل الخبز والكتاب والدواء، لا يكرهون سوى الوشاة على طريقة العذريّين الكبار، ويسأل أحدهم السؤال الطريف: «كيف يمكن لواشٍ أن يحبّ حقّاً فتاة»؟ راغبون بالاستمرار على طريقة كثيّر: «فلا يحسَبِ الواشونَ أنّ صبابتي… بعزّة كانت غمرةً فتجلّتِ»، فعند هؤلاء « البسطاء» أشياءٌ «لا القلبُ يَسلاها… ولا النفسُ مَلَّتِ».
من أجل هذا كلّه لهم هذا التحية الثانية منّي لأنّهم، لا مؤسساتهم العاجزة، هم عقل الوطن في صورته الممكنة، الأجمل بالطبع.
كاتبة أردنية

د. بلقيس الكركي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير قايت- الاردن:

    مقال رائع بكل معنى الكلمة.

  2. يقول احمد - الاردن:

    كما أنّ المعرفة التي تقدّم خلال المحاضرة مشكوك أبداً في صحّتها لكثرة الفساد الممتدّ من البكالوريوس إلى الأستاذيّة، إذ لم تعد الشهادات والألقاب تعني بالضرورة القدرة على تركيب جملة واحدة مفيدة أو التعبير عن فكرة منطقيّة. وعن هذا قال ساخراً أحد طلبة الاعتصام الغارق في قراءات «خارجيّة» كي يحمي عقله من تجهيل المؤسسة: إنّ الأسهل على الجميع أن أدفع المبلغ وأعطى الشهادة سريعاً، فالمسألة تجارة وحسب، والمعرفة شيء خارج عن المؤسسة لأنّ أولوياتها مطابقة لتلك التي للدولة: أمنيّة استثماريّة، ……. رائع جدا

  3. يقول نسرين-الاردن:

    مقال رائع جداً من استاذة داخل الجامعة الام…والمطلعة دوماً على احوال طلبتها…و هي اعلم بما يجري داخل اسوارها لكِ كل الاحترام والحب

  4. يقول سيما الأردن:

    دكتورة بلقيس من أروع الدكاترة الذين يدرسون في الجامعة و أنا أشهد لها دعمها لنا الذي قدمته وقت الاعتصام في حين أن بعض دكاترة ودوا لو يُزجى بنا في السجون لأننا على حد تعبيرهم “مخربون و تدعمنا أجندات خارجية لنهز أمن البلد ” هه

    دكتورة بلقيس بل كل الشكر و العرفان لكِ

إشترك في قائمتنا البريدية