بين «أبشري» و«كبر مقتاً عند الله»

حجم الخط
5

لا يوجد أمّة على وجه البسيطة تبجّحت وما تزال بمكارم أخلاقها، ومنّت على العالم بتمسّكها بها قدر أمّتنا المبجّلة. فبينما يغرق العالم في منطق المال والمصلحة، يرى العربيّ في نفسه كائناً مختلفاً: رجلاً كريماً شهماً فارساً شجاعاً بل وصادقاً، وينعى على الآخرين رخاوتهم ورياءهم، ويخطب خطبا عصماء عن نفاق دول الحريّة وحقوق الإنسان، ولا يرى التناقض إلا في سواه.
يجبر العربيَّ دمُه الحامي الذي يعتزّ به على الكلام قبل التفكير؛ على «أبشِر» و»أبشري» ومرادفاتها من التراكيب المليئة بحروف الجرّ لسبب غامض: «عندي»، و»عليّ» و»ما عليك» تسبقهما أحياناً «خلص» البليغة. يضرب على صدره منتشيا بالموقف: «تكرم عيونك»، و»أنت عندي بـكذا؟»، مسهباً في شرح «غلاوتك» وغلاوة أهلك عنده، وممعناً في الالتذاذ بالشكر المقابل على شيء لم يحدث، وعلى وعدٍ سيُخلَف بالضرورة.
لقد غدت هذه الحال، أو كانت من بعيد، حقيقةً نتجاهلها ستراً لعوراتنا، ولم نتعلّم بعدُ أن نقبل بالخيبة نهجاً للحياة، وما يزال بنا أملٌ بأنّنا حقّاً ما نظنّ أنفسنا عليه: عرباً أو مسلمين مختلفين عن العالم في شيء. يتلبسّنا الدور: نضرب على صدورنا مراراً ونعد بعضنا بما لا نقدر عليه، ولن يحدث، لأنّنا سنبرد وننسى بعد المشهد المسرحيّ السخيف الذي كنّا فيه أبطالا في الادّعاء، ونمضي إلى غدنا واثقين بـ»صدق الخيال»، وبمعجزاتنا في الأخلاق، التي يبدو أنّها غير حقيقية إلاّ فيما يخصّ أمرين ينطلق فيهما القول إلى الفعل وتستيقظ الحميّات: المشاجرات القبلية (وما شابهها في أسبابها)، وعفّة النساء. أمّا سوى ذلك، فأخلاقنا مسرح كاذب قصير، وصور فيسبوكية ومجاملات وكذب وتصفيق هستيري متبادل. لا أفعال صامتة فوق الكلام، ولا سخاء حقيقيّاً… بل تساخيا.
(جاء في «أخلاق الوزيرين»: «وأيّ كَرمٍ يُعتَقَد فيه، وهو يغرُّ الآمل ويسحبه على الوعد حتّى إذا انتهى فقراً أو ضجراً حرمه حرماناً يابساً، وردّه ردّا مرّا، وأعطاه شيئاً قليلاً وقِحاً»).
«أبشري»: يقولها بكثرة وقحة من لا يفكّر إن كان يستطيع أو سيتذكّر أصلاً، أو سيستطيع فقط أمام المرايا، ويلتذ قلبه كلّما نطقها لسانه فيعيدها ويعيدها هي ومرادفاتها بلا توقّف، كأنّه دونكيشوت وقد قرّر أن يكون حاتم الطائيّ أو عنترة بن شدّاد من طريق هذه الفروسية اللغوية. ويبدو أنّ الحال فينا من بعيد حتّى لامنا الله نفسه شاعراً بالمقت منّا: «لم تقولون ما لا تفعلون»… «كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، وحتّى ذكّرنا النبيّ بأنّ إخلاف الوعد من آيات النفاق. لماذا ما زلنا على ذلك؟ لأنّنا غرائزيون نشتهي قيمة ما، وحيدون مكبوتون، مستعجلون في إثبات أنّنا خلوقون، واثقون بغباء من أنّ الكلام سيستر عوراتنا، ومن أنّ الزمان لن يفضحنا على حقيقتنا.
تقول لي، بعد أن تزوجّت آخر وغدت سعيدة حدّ الصمت الآن، أنّ السرّ في أنّها لم تعد تصدّق الكلمات مهما كانت جميلة، وأنّها طلّقت عشقها القديم للشعر، وأنّها اختارت أخيراً من يحمل معها الحياة، لا من يعدها عاماً بعد عام بأنّه سيحسّ بها أخيراً، وأنّه سيفكر بغير نفسه، وأنّه سيكون موجوداً خارج عبارة «أنا موجود» وخارج التجليات الديكارتية في شخصه، وأنها جميلة وأنّه يحبّها، بينما العمر بارد مثل شتاء البلاد، ثقيل مثل جرّة الغاز، والوعود المتكررة مسمومة مثل رائحته التي تفوح من كل «أبشري» و»عندي» و»عليّ». وأخرى يدفعها حملها وإرهاقها من عملها الطويل إلى الشكوى أمام الغرباء من كونها «ناريّة» حسب وصفها لا تتوقف عن الحركة بينما زوجها «تنبل» حسب وصفها أيضاً، ليس مضطرّاً لأن يفعل شيئا لأنّ بذلته الرسمية ستوفيه حقّ صورته من الرجولة والشهامة والمروءة. كم في بلادنا من «لبؤات»، يصطدن بصمت طول النهار، بينما يأخذ الأسد «التنبل» الكسول حصّته من الطعام والصور الشعرية ودرس البلاغة: زيد كالأسد في الشجاعة، والشجاعة من مكارم الأخلاق.
لا يعني هذا أن النساء يعانين أكثر بالضرورة، إذ ما تزال «إذا غدرت حسناء وفّت بعهدها» موجودة لم يستطع كلّ الكبت أن يمنعها، هذا إن لم يكن يصنعها. ما الذي يمنعنا من إنهاء هذه المهزلة؟ من أن نصمت ببساطة، من ألاّ نَعِد، إطلاقاً، ومن أن نمحو «أبشر» و»أبشري» من قاموسنا حفظاً لما سيسال ولو متأخراً من ماء وجهنا (وإن خالها تخفى على الناس…)، وأن نعترف برخاوتنا وكسلنا وخيبتنا التي نصرّ على سترها، خاصة في حالات اليقين بالعجز؛ الخيبة المتجلية في «أعدك بأنني سأحاول» أو «بشوف» و»إن شاء الله خير»؟
«وأنّهم يقولون ما لا يفعلون»: قالها الله أيضا عن الشعراء، وجاء مثلها عند أبي حيّان: «وإنما يقولون ما يقولون»، «لا تصحبنّ شاعراً»، «فهو لا يكترث كيف أجاب سائلاً، وكيف أبطَل مجيباً». على أنّنا أمّة تحبّ الشعر، جدّاً، ويبدو أنّها ما تزال تقدّم على الفعل الكلامَ الجميل رغم كثرة الضحايا، بل ربّما تحاكي الألوهة في اعتبار بعض القول إعجازاً، واهمة أنّه يغني عن الفعل ناسية أنّ الآلهة تَخلِق قبل الكلام أو معه أو بعده بقليل. ربّما علينا أن نصبح برعة في التأويل كي نسيّر الحياة: بأن لا نأخذ الكلام على ظاهره إلاّ نادرا وأن نتوقع خروجه الدائم عن مقتضى الحال وأن ندرك أنّ الناس لا يقولون ما يعنون لأنهم في دواخلهم عباقرة شعراء. ربما هكذا فقط سنعيش بسلام لأنّا لا ننتظر شيئاً: نشطب الأمل كي لا يخيب، ونفهم «أبشر» و»أبشري» على أنّها كلمة من نص مسرحي لا يزجر الطير، ومع ذلك لا يملك العربي إلاّ أن يتلبس فيه دور البطولة ليشبع غريزة ما في الوجود والهوية، وليستدرّ عواطف الجمهور، وليستر عيباً كما عرف الشاعر: «تستّر بالسخاء فكلّ عيب/ يغطّيه كما قيل السخاءُ». الأخلاق إذن ستار مؤقت، ونحن لا نزال أجبن من الحقيقة، مقنّعون لا نشبه الكنديّ في شيء، ونريد مع ذلك من أمثاله أن يحفظوا غيوبنا على الدوام كي لا يسقط القناع ويدرك أوديب فضيحته.
هنالك حفنة من الاستثناءات التي من طبعها ألا تُعرَف، التي يفاجئك أصحابها بحكّ جلدك من غير أن تسأل، ومن غير كلام كثير أو شماتة بظفرك. الذين «يفشّون قلبك» حسب تعبير أمّي التي تفشّ بصمتٍ قلب أمّة بأكملها. الذين لست مضطراً معهم لأن تسمع نفسك وأنت تقول على غير عادتك أنّك تريد وتحتاج فيتجرّح كبرياؤك، الذين لا مكان لهم على مسارح الأسود أبداً، والذين لسبب غريب لا تستطيع أن تقول لهم شكراً ، ربما كي تحميهم من شبه ولو كان سطحيّاً بعالم لا يشبهونه.
جاء كذلك عند أبي حيّان دعاء فيه بعد العوذ من «أخلاق الصغار»: «ونعوذ بالله مِن صُحبة مَن غايتُه خاصّة نفسِه… وأعوذ بالله ممن يساعِدُك على ساعتك، ولا يفكّر في حوادث غدك، ولا يبالي في أيّ أقطارها نزلت، ومن أي أعيانها سقطت.» نعوذ إذن بالله من ضَرَبة الصدور وكلّنا بشكل أو بآخر منهم، إلاّ من رحم نفسه وأراد لها أكثر من صورة وإن صدّقها الناس.
كاتبة أردنية

بين «أبشري» و«كبر مقتاً عند الله»

د. بلقيس الكركي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د حمود الفاخري/واشنطن:

    من اجمل ما قرأت حق انه الواقع الدي نكذب على أنفسنا اننا مختلفون احسنتي

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    لا توجد بالعالم رجولة أفضل من رجولة الإنسان العربي في صفاته الحسنة والتي أقرها الإسلام
    المشكلة هي في رجولة بعض زعماؤنا الأشرار
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول سيف كرار .السودان:

    كلام سوشلي صباحي جميل ..

  4. يقول غسان - الاردن:

    اوجزت فابدعت

  5. يقول هيا الحوراني:

    ليتها تقف عند خيبة الأمل يا بلقيس،، بل هو الخذلان الذي يجعلنا نقف وننتظر ماذا سيحدث، والمؤلم أننا ننتظر أمرا يعنينا،، ولا ندري كيف تسير الأمور، وإن درينا فحتما لا نستطيع المضي بطرائقهم الملتوية والمشوهة.
    لو يعلم هؤلاء الذين يدقون على صدورهم أننا نحيا بأمل دقتهم هذه التي سرعان ما تطفئ فينا الأمل، وتعيد إلينا شعورا بالمرارة وتخلف فينا غصة الوحدة والاغتراب.
    أين نحن من أبي ذر الغفاري _إن صحت القصة_ عندما كفل رجلا صحراويا لا يعرفه وحك جلده بالثقة فقابله ذاك بالوفاء.

إشترك في قائمتنا البريدية