أمّا قبل: في كوارث الجدل الإسلامي- العلماني في الأردن

حجم الخط
6

قبل أن يتحول الجدل الذي أثاره مقال للكاتبة زليخة أبوريشة عن «غسيل الأدمغة» في المؤسّسات التعليميّة في الأردن إلى سلسلة حلقات بائسة من برنامج حواري لا حوار فيه ولا وجهات نظر متماسكة أصلاً، لا بدّ من بعض الاستدراك.
كثيرون كتبوا عن «آداب الحوار» المقتصرة عندهم كما يبدو على «الأدب» بمعنى واحد للأخلاق متعلّق باللباقة الاجتماعية وتجنّب الشتائم والقدح، ويفوتهم شقّه الفكري الحاضر في معاني الأدب والتأدّب، التي لم تنفصل في تاريخها منذ فجر هذه الحضارة عن أخلاق أهل العلم، الذين من «قلّة الأدب» عندهم أن يهرف الإنسان بما لا يعرف، بل إنّه مهما عرف فإنّه يدرك أنّ الله – ذاتاً أو فكرة – أعلم، وهكذا تتروّض في داخله ولو قليلاً نزعتا العنف والنرجس.
ما الفرق، حقّاً، بين تقاذف الاتهامات من الأطراف كلّها: الاتّهامات بالانغلاق أو الجهل أو الإقصاء أو الكفر أو الخيانة أو التعصّب أو الانحلال أو إهانة الإسلام والوطن، عن تقاذف مجّاني في معظمه لمفاهيم يظنّها بعض القاذفين والقاذفات كلمات في معجم غير تاريخيّ: الدين، الإسلام، الرجعيّة، السلفيّة، التنوير، العقل، العلم، العلمانية، الخطاب، الأدلجة، التطرّف، الحداثة، الليبرالية، المرأة، الإنسان، الحرّية؟
الجدل بهذه الطريقة يشبه حال أطفال قرّروا محاكاة لعبة كرة قدم التحقوا بنصفها الأخير في الحارة المجاورة، مستعيرين كرات عتيقة خَرِبة من مستودعات عوالم التواصل الاجتماعي، مصادرِ المعرفة الجديدة اللاهثة خلف أهداف مزيّفة. لا اللعبة لعبة، ولا الكرة كرة، ولا الأهداف أهدافا، ولا الأبطال أبطالا مهما تحلّقت حولهم جيوش المحبّين والكارهين.
قد تكون الحالة التي تظنّ نفسها بطوليّة تدافع عمّا يظنّ صاحبه أنّه يفهمه من المفاهيم والأفكار، حالة هجائيّة بامتياز. فهي تهجو صاحبها والفكرة التي يدافع عنها من غير أن يدري، هذا لأنّ أيّ لغة بائسة مجترّة تستبطن بطبيعتها آلاف الشتائم الغارقة في الإسفاف الموجّهة نحو قائلها وفكرته. وينبغي لمن يدّعي أنّه مدافع عن الدين من صميم القرآن أن يكون خبيراً بمنطق اللغة العبقريّ هذا، ولمن يدّعي أنّه مدافع عن «التنوير» أن يكون قد قرأ نصف كتاب مدرسيّ في تاريخ الفلسفة وصفحة ويكيبيديا عن فلسفة اللغة، لينتبه إلى الكوميديا التي يثيرها دفاعه الفتيّ قليل الخبرة عن شيء يسمّيه العقل. على أنّ الكوميديا الحقيقيّة هي في اتهام كل طرف الآخرَ بالجهل في الدين أو الفلسفة، وربّما لا شيء يهين الإسلام والقرآن قدر ادّعاء العلم بهما بعبارات لا يعرف صاحبها مواضع الهمزة في نصف الكلمات، ولا يحتفي بفكرة «الصبر الجميل»، بل يتحمّس ويتهوّر ويصرخ ويختال ويفجر وينظّر عن السقوط والانحلال الأخلاقي. أمّا العقل، فلا شيء يقدر أن يغتاله إلى آخره قدر ادّعاء الإخلاص له بسجنه داخل زنزانة المخالفة الركيكة التي بدأت تستحيل إلى سائد مضجر، داخل سجن جعل من الحرية نفسها سياجاً حديدياً، وهي أبدا كذلك حين تتصلّب في معنى واحد حدّ التكلّس، وحين يجهل سدنَتُها عدد الكتب والمكتبات وحجم الكدّ والصبر المطلوبين ليتسع العقل والروح، وتكبر الأجنحة، ويمكن الطيران.
تاريخ الفكر البشريّ متأسّس على إدراك الفرق الجوهريّ بين الرأي والمعرفة، وعلى إدراك أدلّة الأخيرة ومسوّغاتها. ما يحدث اليوم وينبئ عنه الجدل البادئ حديثاً في الأردن لا علاقة له إذن بالفكر. هنالك آراء، وجهات نظر لا تدرك أنّها محض «وجهة» ممكنة، ولا «نظر» في معظمها بالتأكيد. أحياناً أتساءل كيف يمضي الأبطال الجدد ومشجعوهم أوقات فراغهم قبل إبداء آرائهم وبعدها. هل ينتشون ويسكرون باللعبة وضجيجها وردود الأفعال؟ أم هل منهم فعلاً من يغرق في ذنب طفيف لأنّ شكّاً ما جرحه وقاده إلى كتاب بعيد يعالجه؟ هل تسقط من خاصرته ورقة نرجس حين يراجع ما قال؟ أو كتب بعينٍ تجتنب المرايا؟ أمّ إنّ اكتنازه بنفسه يجعله لا يحسّ بالريح؟ قليل جدّاً، حدّ التساؤل والغرابة، هو عدد المهووسين حقّا بالمعرفة الذين قابلتهم في حياتي في الأوطان والأسفار، ولم تكن مهمّة أبداً نهاية الآراء لنتشارك الاعتراف والهدم والبناء، وما كان أجملهم وأنقاهم وأعلاهم، وكم منهم تعلّمت وعلى أخلاقهم وإن غابوا درست وما زلت. راسخون في فكرة العلم، لأنّهم بحقّ قلقون، لا يهابون الريح، ويدركون تماماً ما قاد النبيّ إلى الغار، والمتنبّي إلى مصر، وابن عربي إلى مكّة، وأعاد زهيراً إلى سلمى، مدركاً أنّ نصف الإنسان فؤاد، والآخر لسان.
(هامش: كتب أمبرتو إيكو مرّة أنّ المثقّف أو الأكاديميّ، حين يدفعه الواقع إلى إبداء رأيه بشغف فيما يحدث في مقال صحافيّ، فإنّه بعد نشره، يتمنّى لو ينساه الناس. الآراء إذن ثبات مؤقّت، وتشبه مشاعر الحبّ جدّاً في مزاجيّتها، لا الصداقة في ديمومتها، ولقد أصرّ دولوز على التذكير بأنّ الفلسفة ليست حبّ الحكمة، بل صداقتها.)
في اللعبة النزقة أيضاً من يتحدّث عن الجرأة أمام قيود السلطة. هنا فصل آخر من الملهاة، يكون فيه التجرؤ مقتصراً على سلطة واحدة، دينية مثلاً، تحت غطاء سياسي سببه المؤقت توافق الدولة مع هذه الجرأة لمصلحة النظام المهدّد من «قوى التطرّف». أحياناً تنقلب الصورة، فيكون التجرؤ على مخالفة السلطة السياسية وحدها وقد يقود إلى السجن، على أنّ البطل هنا، المنسوب إلى الدين والدعوة والإسلام، هو بالمقابل مسؤول عن حملة تخلّف سقيمة كبيرة أساءت للدين والعلم والدنيا، ودعمتها الدولة ومؤسساتها التعليمية والإعلامية نفسها كي تستطيع ادّعاء نسب ما مع إسلام الناس. كلا الطرفين لا تعجبه المناهج المدرسيّة، وينسى أنّ الأمر منوط تماماً بمصلحة الدولة ولا علاقة له بالعلم. ولو وافقت الدولة على دعوات العلمانيين والمعتدلين والوسطيّين إلى تغيير المناهج، لن يكون ذلك إطلاقا بنيّة تعليم الناس التفكير، بل ستتنقل المعرفة من انتقاء إلى آخر، وتبقى الحقيقة السياسية والفكرية لاجئة عريقة تقاوم التسوّل عند عتبات الغرباء. لا أعرف أيّ «تنوير» سيتحقق لو تغيرت مناهج الثقافة الإسلامية وبقيت مناهج التربية الوطنيةعلى حالها سوى أنّ الرواية التي تقود من الأولى نحو الثانية ستتغيّر، لتبدو الثانية من نَسَبِ «الاعتدال»: شرط الدعم الأمريكي لهذا البلد الفقير، وسوى أنّ نسخة الطلبة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي قد تصبح أكثر سذاجة مما هي عليه الآن، وفكرتهم عن العقل والحريّة أكثر مراهقة. قد لا يكون هناك فرق حقيقي بين نمط من التدين متواطئ في الأردن منذ عقود مع السلطة السياسية، وكان منه ما كان في السبعينيات وتغلغل في عمق الجامعات، وبين نمط من الدعوة إلى العلمانية متواطئ معه ولو بمحض الصمت بحجة الترفّع الفلسفي عن أزمات الفقر والكبت والاضطهاد. وأخشى أن ينقلب هذا الوضوح في المعادلة إلى غموض، فنستحيل دولة «متنوّرة» تقطع باسم الحداثة والتفكير يمين جعفر الطيّار من أجل أمريكا، ويساره من أجل إسرائيل.
لو أردنا حقّا الحديث عن التفكير، لتركنا للإعلام السريع الحديثَ عن التطرف والإرهاب، وللناشطين الفيسبوكيّين اجترار الآراء والمواقف والجمل المقتبسة، ودخلنا بصبر في أعماقنا جميعاً، بمن فينا من اختار الموت لسبب لا يمكن اختزاله في كل حالاته بانتظار الحور العين، إلاّ إذا كنّا فعلاً من الخوف حدّ أن لا تتحرّك مهاراتنا في تحليل الشخصيات و»أنسنتها» إلاّ إذا كانت داخل فيلم أو رواية. على أنّ التفكير المبني على الرعب الذي يتأمل في أصعب الأفكار مركّزا حصراً على ما يحّقق الأمن المرحليّ ويحقن الدماء من غير أن يسمّي أي شيء غير إراقتها موتاً، ومن غير أن يعود إلى الماضي، كلّ الماضي قبل أن يختار أحلامه والآخرين، فلا يمكن أن يسمى تفكيراً إلا بمعنى القوّة الوهميّة في عالم الحيوان. وحتّى لو أراد البعض البدء بالتفكير من مقدّمات الأمن والسلام، وأقصى في المقدّمة الثانية البعض من الوطن والإسلام والإنسانية وأسماهم إرهابيّين، فإن عليه أن يسأل، في مقدّمة أخرى، إذا كانوا وحدهم، داخل حدود الوطن، هم الإرهابيين. أما القفز للحديث عن إرهاب أمريكا وحدها فهو تمويه بلا شك، وانتقاء يشي بأنّ خلايا صاحبه الذهنيّة نائمة، مصابة إمّا بالخَوَر أو العَوَر. فكريّا، هنالك دوماً شيء من الخيانة في الحذف الذي أحاول اجتنابه في هذا السطور، وإن كنت أقلّ جرأة مما يتطلبه اكتمال الفكرة.
بعد هذا، من منّا يجرؤ على الادّعاء بأنّ دماغه برمّته غير مغسول، غير منحاز، غير أعور، وبإمكانه فعلاً النظر إلى العالم بـ»عين الله» كما أراد التنويريّون الغربيّون وسخر منهم نقّادهم؟ أتخيّل كمّ الكسل الإبيستمولوجي الذي تطلّبه الوصول إلى الحديث عن مراكز تحفيظ القرآن وتحويلها لأزمة وطنيّة وموضوع للجدل، الكسل الذي ينسي صاحبه أنّ لغته التي يكتب بها ويفكّر ويحسّ وينحاز عاشت لأنّ وراءه حضارة بالغة العظمة ما تزال تستعصي على فهم كامل لها، وكان فيها الذين يفكرون، من أعتى المتزمتين إلى بعض أعتى الزنادقة، يحفظون القرآن. سأدخل في الكسل، وأجرؤ على الافتراض بأنّ دماغ ولد يمضي وقتاً في حفظ سورة مريم أو يوسف أو النجم أو الرحمن في أحد مراكز تحفيظ القرآن ما يزال ممكنَ التطوّر أبعد ممّا يمكن لمثقّف أخطأ في الطريق وظنّ، على طريقة يستحي منها حتّى الأطفال، بأنّه وحده على حقّ مطلق في كلّ ما يقول ويكتب، والآخرون على باطل. وسأجرؤ على الحلم، وأتخيّل ما سيحدث في دماغ هذا الولد، بعد أن تعلّم كيف لا يلحَن، لو استوعب التفسيرات المشهورة وغير المشهورة لسورة النور مثلاً، وأمضى وقتاً حول ألف سؤال، ألف زيتونة لا شرقيّة ولا غربية وتعلّم الكلام، والفلسفة والشعر واللغات، وتبع نداء خفيّا يوصيه بأن يستمرّ وسط الرهبة، ولا يتوقّف رغم الموج إلاّ قليلاً، فيكبر ليضجر من الكلام المعاد، ويسأم من كلّ برّ وساحل. ربّما سيكون أكثر ما سيكره من الكلام عبارة «حريّة التعبير»، حين يرى أنْ باسمها انشغل القوم عن التفكير في المعبّر عنه، وأصبحوا كما لا يشاء أن يصير: ممثّلين مستعجلين، يبتلعون نصف كلمات النصّ الرديء، ليسمعوا التصفيق.
كاتبة أردنية

أمّا قبل: في كوارث الجدل الإسلامي- العلماني في الأردن

د. بلقيس الكركي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول وديع الهواري:

    لعلها المره الاولى التي اقرأ فيها مقالا بهذه الدرجه من الرصانه الفكريه والتشخيص الدقيق للحاله التي تمر بها البلاد في زمننا هذا .
    اتمنى ان اقرأ المزيد من هذه المقالات للكاتبه

  2. يقول سمير بريطانيا:

    من اكثر الاوصاف دقه للعلمانيين النرجسيين الذين لا يحبون الا سماع اصواتهم وللمتزمتين دينيا الذين لا يدركون ان الدين يسر وليس عسر

  3. يقول هيا الحوراني:

    وفي هذا المقال المحكم تظهر المعرفة الحقيقية التي تنطلق منها الدكتورة بلقيس، ولا تتوقف عند مجرد طرح الآراء غر المستندة إلى حجج.
    موضوعية الكاتبة وملامستها القضية بوضع الإصبع على الجرح هو ما نحتاجه بعيدا عن نرجسيتنا وقصورنا المعرفي.

  4. يقول د. هيا الحوراني:

    وهنا تتجلى المعرفة الحقيقية للكاتبة وليس مجرد طرح الآراء غير المستندة إلى حجج. والموضوعية التي عُرفت بها الكاتبة أظهرت مواطن الخلل والقصور في منظومتنا المعرفية التي ندعي لها الكمال ولا نقبل أي اتهام يدعي غير ذلك. وهنا أيضا فرصة لمن يظنون أنهم قد وصلوا مرحلة الاكتمال المعرفي وبدأوا يسلطون سيوف انتقادهم على معارف الآخرين. ولعلي أميل لسماع نص قرآني بصوت جميل وقراءة صحيحة متقنة من طفل على أن اضطر لسماع جمل يغلب عليها التنظير على هؤلاء وكلها لحن وأخطاء. دكتورة بلقيس شكرا لك على هذه المكاشفة لعلها تؤتي أكلها بإيقاظ بعض النرجسيين ومدّعي الكمال.

  5. يقول هدى أبو غنيمة:

    تقديري واحترامي لمقالة الدكتورة بلقيس الزاخرة بالمعرفة العميقة والرؤية الثاقبة

  6. يقول محمد جميل:

    مقال جيد ويمتاز بجزالة اللغة والمعرفة

إشترك في قائمتنا البريدية