معرض الفنان عز الدين البراري: تشكيل الهوية بألوان من تونس

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: يحتضن رواق الفنون علي القرماسي بالعاصمة التونسية المعرض الشخصي الجديد للفنان التشكيلي عزالدين البراري وذلك إلى غاية يوم 16 من هذا الشهر. ويحمل المعرض عنوان «ألوان من تونس» وتعرض فيه 12 لوحة موضوعها الرئيسي هو التراث والعادات والتقاليد التونسية والأمكنة التي تعبق أصالة في البلاد. ومن أهم اللوحات المعروضة لوحة عرس سيدي بوسعيد التي يتزامن عرضها مع اختيار هذه البلدة من قبل واحد من أهم المواقع ذات المصداقية كثالث أحمل بلدة في العالم.

ويأتي هذا المعرض بعد عدد من المعارض الفردية والجماعية لعل أهمها المعرض السابق الذي انتظم منذ قرابة السنة بالنادي الثقافي الطاهر الحداد الذي تضمن 15 لوحة وحمل عنوان «تونس الجميلة». وقد صور البراري في هذا المعرض الذي لقي النجاح المأمول الأحياء في مدينة تونس العتيقة وقد تزامن يومها مع شهر رمضان الذي يقبل فيه التونسيون على المدينة العتيقة بمساجدها ومقاهيها القديمة.

تشابه وتفرد

ويبدو أن الفنان عز الدين البراري يسير في هذا المعرض على خطى الفنان التشكيلي والنحات التونسي الكبير الراحل زبير التركي الذي أبدع في تخليد العادات والتقاليد واللباس التقليدي التونسي والأكلات وغيرها. حتى أن الرئيس الحبيب بورقيبة عندما رغب في نحت تمثال يخلد العلامة ابن خلدون الذي ولد ونشأ ودرس وعاش وتقلد المناصب في المدينة العتيقة للعاصمة لم يجد أفضل من زبير التركي لنحت تمثال للعلامة مؤسس الاجتماع بملامحه التونسية.
ويؤكد العارفون بالبراري أنه لا يقلد التركي وإن جمع بينهما عشق البيئة التونسية الثرية بالعادات والتقاليد والتراث المادي واللامادي، والتي هي مصدر إلهام لعديد الفنانين التشكيليين التونسيين والأجانب. ولعل ما يرجح هذا الرأي هو أن التشابه بين الرساميْن التشكيلييْن يقتصر فقط على موضوع الأعمال وهو البيئة التونسية العتيقة في حين أن هناك تميزا لكل فنان منهما فيما يتعلق بطريقة معالجة الموضوع وبملامح الشخصيات التي تؤثث اللوحات وبالألوان المختارة وغيرها من أوجه الاختلاف.
ويبدو أن البراري لا يهتم فقط باللوحات وكيفية تشكيلها بل أنه يختار بدقة وعناية أماكن العرض، حيث جنح خلال السنة الماضية إلى النادي الثقافي الطاهر الحداد الواقع بقلب المدينة العتيقة للعاصمة والحامل لاسم المصلح التونسي خريج جامعة الزيتونة رافع شعارات الدفاع عن حقوق المرأة بوجه التخلف والرجعية في زمانه. بينما في هذا العام يعرض البراري برواق الفنون علي القرماسي بباب الجزيرة وهو الرواق المنسوب للرسام التونسي علي القرماسي بأمر من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عاشق الفن والفنانين، وعرف عن القرماسي أيضا اهتمامه في لوحاته بالحياة التقليدية حيث قام بتخليد النساج التونسي التقليدي ونوله والشواشي أي صانع الشاشية وهي غطاء الرأس التقليدي ذات اللون الأحمر والمختلفة عن الطربوش العثماني المغربي وغيرها.
لقد أبدع البراري في تخليد ذاكرة التونسيين مثلما خلدها أجداده القدامى في اللوحات الفسيفسائية أو لوحات الموزاييك وكذلك من خلال الرسومات على الجدران التي بقيت صامدة إلى اليوم ومثلث وثائق للمؤرخين. فلم يترك أسلاف التونسيين كبيرة أو صغيرة تتعلق بتراثهم المادي واللامادي إلا وقاموا بتوثيقها ويسير اليوم البراري وأبناء مدرسته على خطاهم وبالتالي مهما حاول البعض السطو على تراث الخضراء فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.
تخلد لوحات البراري طقوس الاحتفال على الطريقة التونسية واللباس والأكلات والمعمار وزخرفة الأبواب والشبابيك وحتى الأغاني التقليدية التي يشعر بها المتأمل في العمل ترانيم في أذنه اعتاد سماعها منذ نعومة أظافره. فهي لوحات ناطقة، يسمعها الزائر ولا يقتصر فقط على رؤيتها باعتبار الشخوص داخلها من النوع المألوف الذي اعتاد التونسي رؤيته واعتاد على خطابه وأدرك سلفا ما ستنبس به شفتاه.

حنين وذكريات

لقد اختار البراري ألوانا تونسية صرفة أجاد استعمالها شعب الخضراء على مر العصور فأبدع معمارا استثنائيا أصبح تراثا عالميا إنسانيا تسعى المنظمات الدولة لحمايته والحفاظ عليه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وقد حاول البعض توظيف تلك الألوان لعله يسطو على التفرد التونسي فكانت النتيجة نسخا مشوهة من سيدي بوسعيد ومن المدن العتيقة في تونس العاصمة والقيروان والمهدية وغيرها من المدن التي تعبق عراقة وأصالة على امتداد التراب التونسي.
من معمار هذه المدن استوحى البراري ألوانه ونجح في محاكاة الأصل نجاحا باهرا خلافا للوحات باهتة أخرى اهتمت بالموضوع ذاته جادت بها في الماضي قرائح غرباء عن الديار من المستشرقين تحديدا أرادوا تونس كما تبدو في أذهانهم أو كما يريدونها وليس كما هي. إن تونس في لوحات البراري هي التي يعرفها أبناؤها حق المعرفة بأدق تفاصيلها التي تخفى عن الغريب عنها، صورها بأمانة المحب العاشق فنجح إلى أبعد الحدود في جعل لوحاته تنطق إبداعا وتمرسا بالفن التشكيلي.
لقد بدا عز الدين البراري ذكيا وخطط كما يجب لإنجاح معرضه فهو يعلم مدى حب التونسيين لتلك الأماكن التي تضمنتها لوحاته على غرار مقاهي سيدي بوسعيد وصفصاف المرسى وساحة الحلفاوين وغيرها. ويعرف جيدا الحنين الذي استقر في وجدان أبناء الخضراء في علاقة بتلك العادات والتقاليد والألبسة وغيرها، فحرك فيهم ذلك العشق وذلك الحنين وضمن النجاح سلفا للوحاته ولمعرضه عموما.
لا يوجد تونسي لم يرتد تلك الأماكن ولم يعش تلك المناسبات واللحظات الجميلة ولم يلتق وجوها تشبه تلك الوجوه وترتدي اللباس ذاته، وبالتالي فإن كل ما قام به البراري هو تنشيط ذاكرة التونسيين لأحداث عاشوها ورسخت في عقلهم الجماعي الباطن. فالبراري إذن متفرد جديد من مدرسة عريقة في الفن التشكيلي التونسي ضمت أسماء لامعة حازت على شهرة عالمية ويبدو أنه المصير الذي سيعرفه عز الدين البراري المتمسك بأصالته والمحافظ على هويته والمتمكن من صنعته.
تؤكد ليلى بورقعة الصحافية التونسية المتخصصة في الشأن الثقافي في حديثها لـ«القدس العربي» أن معرض الفنان التشكيلي عز الدين البراري المقام حاليا بالعاصمة هو مواصلة للنهج الذي دأب عليه هذا الفنان المبدع وهو التوثيق لتونس وللحياة اليومية للتونسيين بأدق تفاصيلها. وبالتالي، وحسب محدثتنا، فإن البراري مؤرخ ويوما ما ستصبح لوحاته وثائق تاريخية يستشهد بها التونسيون كلما حاول أحدهم السطو على تراثهم المادي واللامادي ومن خلالها ومن خلال وثائق أخرى سيتم التأريخ لمرحلة ما من تاريخ تونس.
وتضيف بورقعة قائلة: «لقد ولد هذا المعرض ناجحا منذ البداية باعتبار أن هذه اللوحات هي ابنة بيئتها، هنا رسمت ومن هنا جاءت أفكار مواضيعها وإلى هذه الأرض ينتمي رسامها. هذه اللوحات تمثلنا مثلما تمثلنا الراية الوطنية وشعار الجمهورية والنشيد الوطني واللباس التقليدي والأكلات التقليدية وغيرها، هي عنوان للهوية أحسن الفنان التشكيلي إخراجها للمتلقي في شكل جميل».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية