الرسام التونسي جمال الصغير تجربة رائدة من المهجر أبدعت في المعرض الجماعي للتشكيليين التونسيين

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: يعتبر جمال الصغير واحدا من أهم الفنانين التشكيليين في المهجر حيث حاز على شهرة واسعة في بلد إقامته لكنه بقي مرتبطا بموطنه وأرض أجداده في تونس التي كلما دعته إلا وكان حاضرا لتلبية الدعوة ودون تردد ليقدم لوحاته وعصارة تجاربه الفنية في المهجر. ويشارك جمال الصغير في المعارض التشكيلية الجماعية التونسية بانتظام مؤكدا رغبته باستمرار في أن يكون قريبا من زملائه في تونس وحاضرا معهم لتبادل الخبرات.

وفاء للوطن

وقد كانت مشاركة جمال الصغير لافتة هذا العام في المعرض السنوي للفنانين التشكيليين في تونس، حيث عرض بعض الأعمال الفنية من مجموعته الجديدة التي يبدو أنها ستعرض في وقت لاحق في معرض خاص يلتقي من خلاله بجمهوره. وكأن مشاركته في هذا المعرض الجماعي للفنانين التشكيليين التونسيين هي عملية دعائية أو مقدمة للمعرض القادم الذي سيتضمن جميع الأعمال الجديدة لهذا الفنان التشكيلي الذي يثبت وجوده يوما بعد يوم ويتموقع تدريجيا مع الكبار على الساحة التونسية رغم عدم تواجده المستمر فيها.
يستقر جمال الصغير في كل من ألمانيا وفنلندا حيث نهل من المدارس الفنية العريقة للبلدين الملهمين وحيث أثرى تجربته الفنية كما يجب بالاحتكاك بمختلف المدارس وبكبار الفنانين التشكيليين في البلدين. كما أن عدم انقطاعه عن زيارة تونس واحتكاكه المستمر بالرسامين التونسيين جعل تجربته رائدة ومتميزة وانعكست على لوحاته التي تنطق إبداعا ومزاوجة بين عالمين مختلفين أو ربما ثلاثة عوالم فألمانيا وسط أوروبا ليست فنلندا القريبة من العالم الاسكندنافي من حيث التجارب الفنية وأيضا من حيث شكل الطبيعة والألوان.

الجغرافي البحَار

لقد كان جمال الصغير في صباه بحارا وأمضى شبابه في التنقل بين المياه الزرقاء العميقة، وربما لا يزال لديه ميل إلى الأسطح الكبيرة أحادية اللون الشبيهة بالبحار. وخلال السنوات التي قضاها في أوروبا تطور وأتاحت له أوروبا الفرصة لإتقان أسلوبه وفهم طريقته والاستفادة قبل كل شيء من دعم المعارض الشهيرة التي تحتضنها مدن القارة العجوز.
وبالتالي فإن رحلة جمال الصغير في عالم الفن التشكيلي هي رحلة خاصة وثرية جدا وتجربة إنسانية رائدة فيها بحث مستمر في عالم المسطحات والأشكال الهندسية والنطاقات اللونية. فلوحاته الجميلة تبدو مستوحاة من عالم الهندسة ورسم الخرائط، وكأننا أمام جغرافي من القدامى أو رحالة كشاف من زمن ماجلان وكرستوف كولومبوس وفاسكو دي غاما.
جمال الصغير هو سليل أجداد رحالة وكشافين وجغرافيين أيضا رسموا الخرائط الأولى للعالم القديم على غرار حنون وخيميليك القرطاجيين وخصوصا الثاني الذي أبحر منذ عصور ما قبل ميلاد المسيح حتى وصل إلى بحر الشمال القريب من موطن جمال الصغير في فنلندا. فيما توجه الأول صوب السواحل الأطلسية الغربية للقارة السمراء وأسس كلاهما المستعمرات والمرافئ أينما حلوا في القارتين الأوروبية والأفريقية، ولم يكتفيا بالمتوسط القريب بل اقتحما غمار الأطلسي البعيد.

تلميذ كاندينسكي

ويبدو جمال الصغير متأثرا إلى حد بعيد بالفنان الروسي الألماني فاسيلي كاندينسكي الذي يعتبر واحدا من أهم المبتكرين والمجددين ليس فقط في مجال الفن التجريدي بل في الفن الحديث والذي صنع لنفسه مدرسة خاصة في ألمانيا وتأثرت به أجيال من الرسامين والفنانين التشكيليين وتنسب له جائزة كاندينسكي للفنون. تبدو لوحاته المعروضة متأثرة إلى حد بعيد بمبدأ اللاتصويري أو اللاتمثيلي أو ما يسميه البعض «التجريدية الصافية» وهي التي أسسها ورسخها في تلاميذه كاندينسكي الملقب بأمير الروح.
لكن ما يلاحظ أن للوحات جمال الصغير خصوصيتها باعتبارها لا تشبه لوحات كاندينسكي، لأن للتلميذ بصمته التي تجعله لا يطبق تعليمات الأستاذ بحذافيرها مهما حاول وحرص على ذلك، ومهما تأثر بأستاذه وملهمه. فهو ولئن تأثّر بكاندينسكي إلا أنّه ظلّ وفيا لأفكاره ولأحلامه ولآفاقه الرحبة ولمشروعه الخاص في مجال الفن التشكيلي الذي يرغب من خلاله في نحت اسمه مع الكبار في تونس وخارجها.
لقد أبدع جمال الصغير لوحات تشغلها إلى حد كبير وحدات هندسية تتكون من مكعبات ومثلثات ومتوازيات سطوح، تكون أحيانًا مثالية وغير مكتملة أو متقاطعة بخطوط متعددة الألوان. وتنضح هذه اللوحات بقوة هادئة وصامتة وبتكرار يشبه التعويذة، وتعيد الأشكالُ غير المكتملة إلى الأذهان عملية البحث عن التوازن في الفضاء الشاسع عديم الأبعاد، وهي القوى الدافعة للإبداع أيضًا عند كاندينسكي.

الكون الشاسع

في الواقع، يؤسس جمال الصغير لكون شاسع جدا بعيد المنال يصعب احتواؤه واختصاره، فيه مساحات قد تبدو ثابتة ولكنها في حركة دائمة لا تعرف مستقرا وسط هذه المسطحات اللامتناهية التي تتيه فيها الأبصار ولا تجد من حل سوى العودة إلى المنطلق والأصل. والمظهر الهندسي للأشكال يخفي عيوبها وخطوط تصدعها وتشققاتها وفجواتها التي قد لا تظهر للعين المجردة، كما أن تشابكها يولد أشكالا هندسية أخرى وعوالم جديدة بلا حدود وإحداثيات يمكن ملاحظتها عند التجوال بتمعن في فضاء اللوحة.
ذلك هو جمال الصغير المشبع بالتجارب الغربية في الفن التشكيلي مثلما قدم نفسه لزملائه من الرسامين التونسيين الذين شاركهم معرضهم وكان واحدا منهم رغم اضطراره للاستقرار بعيدا عن الديار، ومثلما قدم نفسه أيضا لجمهوره التونسي العاشق للفن التشكيلي ولأبنائه خارج الديار. تجربة فريدة ورائدة بكب ما للكلمة من معنى ستثري المشهد التشكيلي التونسي الذي يتطور من قبل مختلف المدارس والروافد التي نهل منها الرسامون التونسيون سواء في الداخل أو في الخارج.

نجاحات عديدة

لقد كان النجاح خارج الديار حليف الكثير من الفنانين التشكيليين التونسيين، ففي ألمانيا تحديدا أبدع رشيد العلاقي ابن منطقة باب الفلة بالعاصمة وخريج معهد الفنون الجميلة بتونس، لوحات جميلة أبهرت عشاق الفن التشكيلي خارج الديار وداخلها. لقد كانت تجربته رحلة جميلة في عالم الألوان والأشكال والريشة والقماش قادته إلى بلد الجرمان والبافار والبروس وغيرهم، وتأثر فيها برسّامين كبار، مثل جاك آرنو وبيار بارجل وبول سيزان وغيرهم.
عاش العلاقي بمدينة كولن ومنها جاب العالم وعرض أعماله في مختلف القارات ونال الإعجاب والثناء أينما حل، رافعا راية تونس التي كانت جواز سفره إلى قلوب شعوب العالم على اختلاف الأديان والألسنة والألوان. وعلى غرار جمال الصغير بقي رشيد العلاقي وفيا لوطنه الأم يعرض فيه لوحاته ويلتقي رساميه ومبدعيه ويتابع أخباره وعاش معه مختلف الأحداث منذ الحرب العالمية الثانية التي دارت بعض معاركها الفاصلة على الأراضي التونسية باعتبارها قلب البحر الأبيض المتوسط ومفتاح السيطرة عليه من خلال مضيق صقلية.
ومن الفنانين التشكيليين التونسيين الذين نجحوا وأبدعوا في الخارج نجيب بلخوجة الذي ولد في العاصمة في ثلاثينات القرن الماضي وهاجر إلى إيطاليا نهاية الخمسينات وتأثر بالرسام الإيطالي فابيو ركشجيانو وعرض معه في معارض مشتركة جمعتهما بآخرين. لقد كان بلخوجة في بداياته تشخيصيا إلا أنه سرعان ما غير مدرسته وجنح إلى خياله الخصب مستفيدا من الصور الجميلة لمدينة تونس العتيقة التي نظر إليها بمنظار المحب العاشق الذي غير الكثير من معالمها فبدت مدينة أخرى راسخة في ذهنه ونقلها إلى جمهوره من عشاق الفن التشكيلي وخلد تجربته الرائدة، وأمثاله كثر في هذا المجال.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية