الموسيقار التركي فاضل ساي وقصائد ناظم حكمت

من أجمل ما أبدعه الموسيقار التركي العالمي فاضل ساي «أوراتوريو ناظم»، العمل الموسيقي الرفيع الذي يحتضن قصائد شاعر الأمة التركية ناظم حكمت. عُرض الأوراتوريو للمرة الأولى سنة 2001 برعاية وزارة الثقافة التركية، بعد عقود ظل خلالها الشاعر العظيم ممنوعاً في تركيا، منفياً خارج أراضيها، محروماً من الدفن في ترابها، منزوع الجنسية، إذ كان يُعد من الخائنين. بعد أن قضى ردحاً من العمر في سجون مصطفى كمال أتاتورك وخلفائه، وكان على شفا الإعدام شنقاً، لم يرجع ناظم حكمت إلى تركيا حياً، ولم يأو جثمانه إليها ميتاً، لكنه عاد إليها شعراً نابضاً بالحياة والحرية، لا يمكن سجنه أو نفيه أو قتله. والحق أن حكمت لم يعرف يوماً القيد والحصار الجماهيري، وكان على الدوام قادراً على الوصول إلى مكانه المحفوظ في وجدان الشعب التركي، ومخاطبة ضمائر الإنسانية في العالم كله، من خلف أسوار سجنه وقضبان زنزانته، حتى عندما كان يخوض إضراباً طويلاً عن الطعام، يضنيه التعب والضعف، ويهدده الموت في كل لحظة.
يحتل السجن مساحة كبيرة من حياة ناظم حكمت وشعره، إذ قضى اثني عشر عاما في سجن بورصة فقط، إلى جانب سنوات أخرى وزعت على السجون التركية المختلفة. خرج ناظم حكمت من السجن في الخمسين من عمره، ليودع تركيا إلى الأبد، ويعود أدراجه إلى الاتحاد السوفييتي، حيث درس وتلقى تعليمه في فترة الشباب، واعتنق حينها الفكر الشيوعي الذي طبع أشعاره، وصار من سماته البارزة، الذي تبع حساً صوفياً كان في البدايات المبكرة، وامتزج مع الحس الإنساني الكوني في المراحل المتأخرة. في موسكو يرقد ناظم حكمت الذي أحب وطنه تركيا، وجاهد في سبيله مخلصاً وفق ما يرى ويعتقد، والذي أحب الشعب التركي ولم ينفصل عن ثقافته ولغته، وهو المتحدر من أسرة أرستقراطية عريقة عالية المقام، كتب عن الجوعى ونظرات عيونهم المكسورة، عن الحروب وصناعة الموت التي لا تتوقف، ولا ترتوي من الدماء ولا تشبع من الأشلاء، عن حب الوطن الفطري الكامن في نفس المرء ولا يمكن التخلص منه، عن السجون وضياع الأعمار في ظلماتها، عن العبث بالأوطان والاستهانة بحياة الشعوب، عن الظلم والقمع والقهر، عن انقلاب الأحوال والمفاهيم وموت المنطق، حين يكون تدمير البلاد ونهب خيراتها وطنية شريفة، بينما توصم محاولات الإصلاح بوصمة الخيانة المدنسة.
يُعد ناظم حكمت الذي عاش في الفترة من سنة 1902 حتى سنة 1963، من أكثر شعراء تركيا حضوراً في اللغة العربية، فقد تُرجم الكثير من أعماله، وتأثر به بعض الشعراء العرب، وتعاطف معه المثقفون العرب الذين عاصروا محنة سجنه، وقاموا بتداول قضيته في كتاباتهم وطالبوا برفع الظلم عنه، كما آزرته الصفوة من فناني وأدباء العالم في ذلك الوقت، حيث كان شاعراً تجوب شهرته الآفاق ولا يزال. ظلت قضايا ناظم حكمت مثارة حتى بعد موته، يتم تباحثها وتجري مشاورات البت بشأنها، وقد قررت الدولة التركية أن تعيد إليه جنسيته عام 2009، أي بعد رحيله بستة وأربعين عاما.

صوت عالمي للموسيقى التركية

الموسيقار التركي فاضل ساي من أهم أصوات الموسيقى التركية في العالم، فرغم أنه يقدم الموسيقى الكلاسيكية في الأساس، إلا أن أعماله لا تخلو من ملامح الثقافة التركية، سواء من حيث المواضيع المنتقاة، أو عناصر الموسيقى نفسها، والآلات الموسيقية التقليدية التركية، التي يضمها أحياناً إلى الأوركسترا السيمفوني، بالإضافة إلى التراث الغنائي التركي، وكل ما يعبر عن الروح التركية. وُلد فاضل ساي في أنقرة عام 1970، ودرس الموسيقى هناك، وتخصص في آلة البيانو، إذ يُعد من عازفي البيانو المرموقين في العالم، يمتلك تقنياته الخاصة في العزف، ويتميز ببعض الأمور النادرة، كالعزف على أوتار البيانو مباشرة، عندما يكون صندوق الصوت مكشوفاً. ويلاحظ أنه يقوم من خلال مؤلفاته بتقريب الموسيقى الكلاسيكية إلى الشعوب، وتقديم موسيقى الشعوب إلى العالم الكلاسيكي. كما أنه يعتني بالكلمة عناية شديدة، ويظهر مهارة فائقة في تلحينها والتعبير عنها موسيقياً، لذا ينظر دائماً إلى شعراء تركيا ويتطلع إلى قصائدها، ويبحث في التراث التركي بشكل عام، الشفهي والمكتوب.

ناظم حكمت

على مدى ساعة ونصف الساعة تقريباً، يقدم فاضل ساي قدراً هائلاً من المتعة الفنية، الممتزجة بجمال قصائد ناظم حكمت بما لها من قيمة شعرية كبيرة. يتيح العمل للمتلقي غير التركي، فرصة الاستماع إلى أشعار حكمت في لغتها الأصلية، بينما يتابع ترجمتها باللغة الإنكليزية. تم وضع العمل في قالب الأوراتوريو، وهو قالب موسيقي كلاسيكي يتسم عادة بطابع ديني ملحمي مهيب، ويعتمد في تكوينه على مجموعة من العناصر، كالكورال، والأوركسترا، والإلقاء الملحن أو غير الملحن، والغناء الفردي. كل هذه العناصر نجدها في أوراتوريو ناظم، فقد حشد فاضل ساي على المسرح، عدداً ضخماً من الفنانين، ربما يفوق المئتين، فنرى الكورال الكبير المكون من الأصوات الرجالية والنسائية، والأوركسترا السيمفوني الكاملة، المضاف إليها بعض الآلات التركية التقليدية، منها الآلات الإيقاعية والآلات الهوائية الخشبية. كما يعزف فاضل ساي بنفسه على البيانو الذي يتوسط المسرح، ومن الأصوات الغنائية المنفردة، يوجد باريتون وسوبرانو، وطفلة صغيرة تغني واحدة من أكثر القصائد روعة وتأثيراً. أما الإلقاء الذي يتربع على عرش البطولة بعد الموسيقى، ويلعب دوراً خطيراً في خلق الانفعالات، وتحريك المشاعر والأحاسيس، والانتقال بها من قصيدة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر في عالم ناظم حكمت الشعري الرائع. وسط العازفين والمغنين، قدم الممثل التركي جنكو إركال أداءً قوياً لامعاً للغاية، ينافس بسحره كلاً من الموسيقى والغناء، وبالإضافة إلى جمال الصوت وحسن الإلقاء، وبراعة التقطيع والتنغيم، ودرامية الوقفات والقفلات، والغناء الجيد أيضاً عندما يردد جملة وحيدة في نهاية العمل، بالإضافة إلى كل ما سبق، عبّر جنكو إركال من خلال مواهبه التمثيلية، عن روح كل قصيدة وفحواها، كما لو أنه يلقي القصيدة بصوته وجسده وشعوره وأحاسيسه، بل وكيانه كاملاً. يحتل الإلقاء الشعري مساحة أكبر من الغناء بطبيعة الحال، كذلك يطغى الغناء الجماعي بصوت الكورال على الغناء الفردي، وتتعدد الانفرادات الموسيقية خصوصاً لآلة البيانو، التي يقيم صوتها في بعض الأحيان حواراً بديعاً مع الإلقاء الشعري، حيث يتبادلان الانفعالات ويتنافسان في قوتهما التأثيرية.
ينقسم العمل إلى خمسة أجزاء، يحتوي كل جزء على مجموعة قصائد مختارة، ترتبط بمرحلة معينة من حياة الشاعر، وتتناول مواضيع تعبر عن الفكرة ذاتها، أو الأفكار القريبة منها التي تدور في فلكها، فهناك قصائد الشباب، وقصائد السجن، وقصائد الوطن، وقصائد الإنسان، وقصائد الحياة. من القصائد المؤثرة للغاية قصيدة «هيروشيما»، نسمعها بصوت طفلة صغيرة، تغني على وقع لحن طفولي لطيف، لكنها تتحدث على لسان طفلة ميتة لا يراها أحد، تروي ما حدث وتصف شعرها الذي تطاير، وجسدها الذي تناثر في الانفجار، يخلق التناقض بين اللحن الطفولي والأداء البريء من ناحية، وكلمات الموت القاسية من ناحية أخرى، انفعالاً كبيراً لدى المتلقي، ويترك أثراً بالغاً في نفسه.

قصائد السجن والوطن

لا شك في أن قصائد السجن والوطن من أقوى القصائد في هذا العمل، التي بدورها ألهمت الموسيقار فاضل ساي ألحاناً رائعة وتعبيرات موسيقية عميقة. يضم الجزء الخاص بالسجن قصائد «يوم الأحد»، و»منذ أن ألقيت إلى الداخل»، أما قصيدة «من سجن بورصة» فتعد من الأغنيات اللافتة جداً بإيقاعها الحماسي، كذلك يمتلئ الجزء الخاص بقصائد الوطن، بالكثير من المشاعر، كما في قصيدة «وطني» على سبيل المثال، والتأثير الذي تخلقه براعة فاضل ساي، في تلحين كلمة Memleketimوتكرارها بتنغيم متنوع. وكذلك قصيدة «الشهداء» تلامس الوجدان بقوة، فكما أنها قصيدة عن شهداء تركيا الذين ضحوا في سبيلها، هي في الوقت نفسه قصيدة إنسانية، يجد فيها أي إنسان ذكرى شهداء بلاده، يصف ناظم حكمت الشهداء بأنهم الجذور الضاربة في الأرض، ويناديهم ليهبوا ويقوموا من تحت التراب، فالوطن لا يزال في حاجة إليهم. ولا تلامس قصيدة «الخائن» المشاعر فحسب، وإنما تهزها هزاً عنيفاً، فهي قصيدة غاضبة كتبها الشاعر المتهم بالخيانة، وانتقل هذا الغضب إلى موسيقى فاضل ساي، وإلى إلقاء جنكو إركال أيضاً، قدم الموسيقار هذه القصيدة بشكل مميز بتداخل الإلقاء مع غناء الكورال، وتقسيم الأدوار بينهما. في هذه القصيدة يخاطب ناظم حكمت من اتهموه بالخيانة، من يحكمون البلاد ويسيطرون عليها، يناقشهم في مفهوم الوطنية، فيقول إذا كانت الوطنية هي مزارعكم الشاسعة، وحساباتكم البنكية المتخمة، وامتصاص دماء الشعب، فأنا الخائن. وإذا كانت الوطنية هي أن يموت الشعب جوعاً على الأرصفة، فأنا الخائن.

كاتبة مصرية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية