عام المسغبة: مسلسل «الفرج بعد الشدة»

من مسلسلات رمضان 2024، المسلسل الكويتي «الفرج بعد الشدة» الذي يتناول فترة مهمة تاريخياً وإنسانياً، ربما لم يتعرض لها أي عمل درامي من قبل. تقع أحداث المسلسل سنة 1868، عندما ضربت المجاعة دولة الكويت وجزيرة العرب، وبعض مناطق العراق والساحل الشرقي والغربي للخليج العربي. استمرت هذه المجاعة ثلاث سنوات، وأخذت تفتك بالضعفاء وتضعف الأقوياء، وتُهجر الناس من أماكنهم، وترتحل بهم من موضع إلى آخر، بحثاً عن أمل في النجاة. لم تكن هذه المجاعة الكارثة الأولى التي تحل بالكويت، فقد ضربها قبل أربعين عاماً طاعون أفقدها ثلثي سكانها، ما دفع الكويتيين إلى الزواج من البلدان والمدن المجاورة كالزبير وبعض المناطق السعودية، حسب ما يذكر المسلسل، فنرى إحدى بطلات العمل وهي زوجة وأم كويتية، تحكي عن نشأتها في الزبير، وتستقبل صديقها القادم من هناك هرباً من المجاعة. ونرى العائلة الواحدة يعيش نصفها في الكويت، ويعيش نصفها الآخر في السعودية، لذلك تنتقل الأحداث بين السعودية والكويت، وتُصور مشاهد البؤس الذي يكون أشد ضراوة في السعودية، بينما يكون الوضع أفضل قليلاً في الكويت، رغم الترقب وانتظار الأسوأ المقبل.

كان التعاضد والتكافل الاجتماعي وبذل الخير، مساعداً للكويت في عبور الأزمة، ويعرض المسلسل هذا الأمر جيداً بشكل مفصل، ويخلد تجار الكويت الكبار الذين ساهموا بقوة في إغاثة الملهوفين، وإطعام الجوعى والمساكين، وإنقاذهم من الموت، وهؤلاء التجار هم، عيسى المخيزيم، يوسف البدر، عبد اللطيف العتيقي، يوسف الصبيح، بن إبراهيم وسالم بن سلطان. المسلسل قصة وسيناريو وحوار مشاري حمود العميري، وإخراج محمد عبد العزيز الطوالة، وشاركت فيه مجموعة من الممثلين الكويتيين والخليجيين. تم خلق أجواء قديمة تماماً، بواسطة الديكور والمباني والأسواق والدكاكين البسيطة المظهر، والأواني والأدوات والملابس التي تختلف عن ملابس العصر الحالي، وإن كانت ذات طابع عربي خليجي أيضاً، لكنها تتميز ببعض التفاصيل الخاصة. تكاد الصورة تخلو من الألوان في كثير من المشاهد، أو تنحصر في درجات الأصفر والأبيض، وقد يشعر المشاهد أنه لا يرى الألوان إلا في ثياب النساء، ويغلب عليها اللون الأسود، وفي بعض الأبواب الملونة وزرقة البحر. لم يعتمد خلق الأجواء القديمة على العناصر البصرية وحدها، وإنما اعتمد كذلك على الحوار واللهجات، وربما استدعاء بعض الكلمات من الذاكرة البعيدة، التي قلّ تداولها في الزمن الحاضر. يقدم المسلسل الوقائع التاريخية الحقيقية من خلال حكاية درامية، تحتوي على عدة علاقات متشابكة، وأكثر من عقدة تنتظر الحل، منها ما يعود إلى ما قبل المجاعة، إلى زمن الطاعون، الذي يعرف باسم «عام الرحمة» نظراً إلى كثرة الترحم على الموتى، عندما مات ماجد وزوجته الهندية، وتركا طفلهما الرضيع وحيداً في مكان غريب بعيد عن أهلهما، ارتحل إليه ماجد بعد أن طرده أبوه من المنزل، غاضباً عليه بسبب زواجه من امرأة هندية، تزوجها أثناء عمله في الهند وعاد بها إلى الكويت.

يأخذ الطفل زوجان من الجيران لا أولاد لهما، وبعد انتهاء الطاعون يرحلان إلى مكان غريب آخر، ويظل العم أبو داوود يبحث عن ابن شقيقه، من أجل أن يسلمه نصيبه من الميراث، ثم تأتي مشكلة إثبات النسب في ما بعد. ومن المشكلات الأخرى التي ينتظر المشاهد حلها طوال المسلسل، مشكلة زواج منيرة في السعودية من ابن عمها مجبل في الكويت، الذي يتأخر في الذهاب إليها، بينما تضربها المجاعة بقسوة، وتفقدها الأب والأم، ولا يبقى معها سوى شقيقها الصبي الصغير دحيم، ويواجهان خطر الموت جوعاً، إلى درجة أن تربط منيرة الحجر على بطنها. وما إلى هنالك من المشكلات الفرعية التي تقع على هامش المجاعة، المشكلة العظمى والحدث الأكبر الذي تجري من تحته بقية الأحداث.
الجانب الخيري ومشاهد البؤس
يتم عرض الجانب الخيري لدى الكويت، من خلال تأصيله ورده إلى جذوره القديمة، ويذكر المسلسل الشيخ جابر الصباح الحاكم الأول لدولة الكويت، الذي أطلق عليه الناس لقب «جابر العيس» نظراً لشدة إحسانه وعطفه على الفقراء والمساكين، وتوفيره الطعام لهم طوال الوقت، فلا يضيع أو يذل من لا يجد حاجته من المأكل والمشرب. يقول المسلسل إن الشيخ جابر هو من سن هذه السنة الحسنة في الكويت، وصار قدوة لأهلها منذ ذلك الزمن القديم، وغرس في نفوسهم حب الخير والعطاء، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الله. كذلك يبرز المسلسل دور الشيخ عبد الله الثاني الصباح، حاكم الكويت في زمن المسغبة، واجتماعه بالتجار والتنسيق معهم، وتوصيتهم دائماً على الوقوف في مواجهة الأزمة والرأفة بالناس، وتجهيز الأماكن لاستقبال المهاجرين القادمين عبر البحر، فراراً من الجوع في بلدانهم وتوفير الطعام لهم. لا يقتصر الأمر على تقديم الجوانب المثالية فقط، بل هناك إشارات إلى العنصرية، كغضب أبو ماجد على ابنه الذي تزوج من امرأة هندية، وغضب بعض الأشخاص من أن يقوم بلال الهندي بإمامتهم في الصلاة، وتلاوة القرآن على أسماعهم، بلال من الشخصيات المحورية في المسلسل، يرتبط بالأحداث ويلعب دوراً في حل بعض العقد الدرامية، حيث يعود إلى الكويت في زمن المجاعة، في صحبة رحالة إنكليزي، بعد أن عاش فيها طويلاً في السابق، وعندما يعود إليها يكتشف موت أعز أصدقائه في فترة الطاعون، يحزن كثيراً ويقرر عدم مغادرة الكويت مرة أخرى، وأن يظل فيها، رغم الخطر ويلقى مصيره مع أهلها.
في مثل تلك الأحداث يكون الإنسان أمام اختبار عسير لإنسانيته، هل سيستسلم للجانب الوحشي الشيطاني في داخله، وهل ستدفعه غريزة البقاء والخوف من الموت إلى أن يسرق أو يقتل، أو يتجاوز المكروه والمحرم الذي يصير حلالاً في تلك الحالة، إلى أكل الآدمي مثلاً؟ كما يقال إنه حدث بالفعل في بعض المجاعات؟ أم أنه سيفضل أن يموت مسالماً مستسلماً لقضاء الله وقدره، صابراً على الابتلاء، متمسكاً باعتقاده وإيمانه، وتعاليم الإسلام وقيم القرآن الكريم. كما يواجه الإنسان أيضاً شح نفسه، وقدرته على الإيثار أو حتى المشاركة واقتسام القليل مع الآخرين، الذي قد ينقذهم من الموت، ويمنحهم بعضاً من الوقت للحصول على فرصة في النجاة، ولا يخفى فضل الإطعام خصوصاً في أوقات الشدة والعسر والضيق، عندما يكون الإنسان خائفاً من المجهول، يرى الكثير قليلاً، فيمسكه ويخبئه لما هو مقبل من الأيام، وقد يوسوس له شيطانه بأن الكل هالك لا محالة، وأنه إن فرق ما عنده على الآخرين، سيكون قليلاً لا يسد رمقاً ولا يقيم أوداً ولا يصلب عوداً.

على الرغم من أن المسلسل عمل تاريخي يدور في إطار اجتماعي، إلا أنه يتعرض لبعض الجوانب الدينية، نجد ذلك في مشاهد تلقي الدروس الشرعية، وحفظ المتون ومناقشة الأحكام الفقهية، ونجده في أحداث درامية تستدعي بعض أحكام الشرع، كحد السرقة والتعزير بالجلد، وحكم  عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بتعطيل حد السرقة في أوقات المجاعة. كذلك يشرح المسلسل من خلال أحد المشاهد الدرامية، حكم أكل الميتة للمضطر، الذي يواجه الموت جوعاً، يقع هذا المشهد في السعودية في مدينة القصيم تحديداً، عندما يقوم أحد الأشخاص بجر شاة نافقة إلى بيته، ويذبحها ويشويها، فيأتي إليه أحد الجيران عندما يشم رائحة الشواء يطلب طعاماً، فيقول له صاحب الشاة، إنها حلال له وحرام على ذلك الجار، حلال له لأنه ليس لديه ما يأكل على الإطلاق، أما الجار فلا يزال لديه بضع تمرات، ما يعني أن أكل الميتة لا يلجأ إليه إلا من لا يجد شيئاً البتة ليأكله. وكذلك يتعرض العمل لحكم الزواج طلباً للأكل، حيث تقوم الفتاة التي فقدت أهلها وتواجه خطر الموت جوعاً، بالذهاب إلى شيخ الجامع، وتقول له زوجني ومهري أكلي، فيبحث لها الشيخ عن رجل يستطيع إطعامها ويزوجها له. وبالطبع تبرز في المسلسل قيمة التمر، كأفضل الأطعمة في أوقات الكوارث والمجاعات، التي يمكن أن يحيا المرء عليها لفترات طويلة إلى جانب الماء، صحيح أن التمر لا يعوض الجسم عن بقية ما يحتاج إليه من عناصر غذائية، لكنه يزوده بالطاقة ويساعده على مقاومة الضعف والهزال، ويعينه على تحمل الجوع وقلة الطعام.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية