خالد أبو خالد: معلقة غزة على أسوار القدس

لم يكن خالد أبو خالد شاعراً من أهم شعراء فلسطين، وصوتاً من أقوى أصوات المقاومة والنضال فحسب، بل كان قطعة حية من تاريخ فلسطين، ومن أوائل الذين عايشوا المأساة، وأشربوا المعاناة منذ المهد. صاغ فلسطين شعراً بكلماته، وكتب عنها بقلمه، ورسمها بريشته، وصار بطلاً في روايات الآخرين التي استلهموها من حكايته.
هو ابن الشهيد محمد صالح الحمد، أحد أبطال ثورة فلسطين الكبرى في الثلاثينيات، وواحد من خمسة، كانوا أول من انضموا إلى المجاهد الشيخ عز الدين القسام سنة 1936. استشهد محمد صالح الحمد سنة 1938، وكان قد حمل لقب أبو خالد لمدة عام واحد فقط، عندما أنجب طفله خالد ثم رحل عنه، تاركاً إياه رضيعاً في عامه الأول، مع شقيقته وأمه التي صارت أرملة وهي لا تزال في ريعان الشباب، لذلك سمى الشاعر نفسه خالد أبو خالد، ولم يستخدم اسمه الطبيعي، خالد محمد أو خالد الحمد مثلاً. اغتيل الشهيد محمد صالح الحمد وتم تهريب جثمانه، ودفنه سراً في أحد الأضرحة، دون علامة تدل على قبره خشية التمثيل به، ويروي الشاعر خالد أبو خالد، كيف كان يصطحبه جده لأمه وهو طفل صغير إلى ذلك الضريح، ويقول له لا تقف فوق تلك المساحة من الأرض، فهذا قبر أبيك.
عاش الشاعر طفولة صعبة شاقة مع أمه وشقيقته، حيث كانوا يقيمون في بيت خشبي، لا يحميهم من مياه الأمطار، وكانت الأم تضع الطفلين في الركن الأقل تضرراً، وتنام هي تحت المطر، واضعة فوق جسمها بعض الأوعية لتجمع المياه في داخلها، وتحلم بأن زوجها الشهيد أتي ليغطيها، هذه صورة مما يرويه الشاعر عن طفولته، لم تتزوج الأم مرة أخرى، وكانت تقول إنها لن تجد رجلاً مثل زوجها الشهيد، الذي ضحى بحياته من أجل وطنه، وبذل كل ما كان يمتلك من عملات ذهبية، في سبيل الجهاد والدفاع عن فلسطين. بعد وفاة الجد صارت الحياة أصعب وأقسى، فلم يستطع الشاعر أن يكمل تعليمه، وكان عليه أن يبحث عن عمل يمكنه من أن يعيل أمه وأخته، فسافر إلى الأردن، واشتغل بعدد من المهن والحرف، ثم عاد إلى أمه مرة أخرى في فلسطين، ليخبرها أنه سوف يسافر إلى الكويت، عن طريق التهريب عبر البصرة، كما كان يفعل الكثيرون في ذلك الوقت.
خاض خالد أبو خالد تلك الرحلة وهو في السادسة عشرة من عمره، وذهب إلى الكويت بالفعل، وكان أحد أخواله يعمل في الكويت حينذاك، بدأ الشاعر بالعمل في بعض المهن، إلى أن أخذ يمارس النشاط الثقافي والأدبي والتشكيلي، وانطلق في مسيرته في العمل الصحافي والإذاعي والتلفزيوني، إذ عمل مذيعاً في تلفزيون دولة الكويت، لفترة من الوقت حقق خلالها بعض النجاحات. كما اجتمع خالد أبو خالد في الكويت، بمجموعة من أعلام فلسطين وأبرز مواهبها، الذين ساهموا في خلق حركة صحافية وثقافية نشيطة في الكويت في تلك الفترة. كان منهم ناجي العلي وغسان كنفاني، حيث رافق ناجي العلي أثناء عمله في مجلة «الطليعة» وتعاون مع غسان كنفاني الذي كان مشرفاً على أحد الأندية الأدبية في الكويت، ومن خالد أبو خالد عرف غسان كنفاني الكثير عن رحلات التهريب، التي كانت تجري وتذهب بالفلسطينيين إلى الكويت، والتي خاض الشاعر إحدى هذه الرحلات بنفسه، وألف كنفاني روايته «رجال في الشمس» وظهر الشاعر خالد أبو خالد بين شخصياتها الروائية بملامح أخرى، كفتى في السادسة عشرة من عمره.

كتب خالد أبو خالد قصائد الشعر الحر، وكتب كذلك أشعاراً رائعة بلهجة فلسطين العامية، وبكلمات تحمل روح الأرض والشعب والوطن، وتحفظ تراثه وثقافته. تم غناء معظم هذه الأشعار عن طريق فرقة الجذور، التي تألقت بقوة في فترة الثمانينيات، ما ساعد على انتشار هذه الأشعار وبقائها في الذاكرة، وحفظها في وجدان وأذهان السامعين. غنى الفنان الفلسطيني محمد هباش، وبقية أعضاء فرقة الجذور، مجموعة من الأغنيات الرائعة، منها: «الأرض ندهت من وجعها» «سبل عيونو» أو أغنية الشهيد، «سلم على غزة ورفح» «يا المايلات العصايب» «يا ابن الجليل» الله يا دار» «يا حيفا لأمواج البحر غنينا» «دوت رصاصات الغدر» «طلعوا يتامى الوطن» «أنا من يافا» «بيدي حجر».
كانت مواقف الشاعر الراحل خالد أبو خالد الوطنية والسياسية، معلنة بشكل واضح من خلال أشعاره وكتاباته، وأحاديثه ورسوماته أيضاً، فهو صاحب مقولة «إما فلسطين أو فلسطين». ويعد ديوانه الكامل الذي يضم كل منجزه الشعري، كتاباً فلسطينياً على قدر كبير من الأهمية، سواء من الناحية الوطنية والتاريخية، أو من الناحية الأدبية والفنية، حيث يؤرخ ذلك الديوان لفترات زمنية طويلة من فصول المأساة الفلسطينية الممتدة، ويحفظ صمود وكفاح الشعب الفلسطيني على مدى الأجيال المتلاحقة، يُعرف الديوان باسم «العوديسا الفلسطينية» وهو عنوان إحدى قصائده أيضاً، حيث جمع في كلمة العوديسا بين الأوديسا والعودة.

معلقة غزة على أسوار القدس، قصيدة طويلة من قصائد خالد أبو خالد، وكما كانت المعلقات تكتب بماء الذهب، وتعلق على أستار الكعبة قبل الإسلام، كتب أبو خالد غزة شعراً، وعلقها بخياله على أسوار القدس.

غزة في وجدان الشاعر

معلقة غزة على أسوار القدس، قصيدة طويلة من قصائد خالد أبو خالد، وكما كانت المعلقات تكتب بماء الذهب، وتعلق على أستار الكعبة قبل الإسلام، كتب أبو خالد غزة شعراً، وعلقها بخياله على أسوار القدس. تتكون القصيدة من عدد كبير من المقاطع، وتتضمن الكثير من الأفكار والصور الشعرية، غزة هي محور القصيدة بطبيعة الحال، لكن الشاعر لا ينأى بها ولا يفصلها عن بقية فلسطين، ولا يختصر القضية ويركزها في غزة فقط، وكما يبدو من عنوان القصيدة، أنه يصل غزة بالقدس مباشرة، وببعض المدن الفلسطينية الأخرى أيضاً داخل القصيدة. وهذا دأب الشاعر في أغلب قصائده، وكذلك في أشعاره الغنائية، حيث نجد أسماء المدن والقرى الفلسطينية، كما لو أنه يحاول أن يضم خريطة فلسطين كاملة غير منقوصة، ويحيطها بشعره، ويعقد الصلة بين كل بقعة وأخرى من بقاعها.
«لنخيل غزة» كلمتان تتكرران كثيراً على مدى القصيدة، بهما يفتتح الشاعر كل مقطع من مقاطع القصيدة الطويلة، ويفتتح بها القصيدة ككل، حيث يقول في مطلعها: «لنخيل غزة ما أراد.. وما يريد.. وما أريد». تعد الأبيات التي تحتوي على هاتين الكلمتين «لنخيل غزة» من أجمل أبيات القصيدة، ربما يتعجب القارئ في البداية من هذا التكرار، لكنه لا يمل منه، ويعجب في النهاية بقدرة الشاعر على هذا التنويع، والانفتاح بهاتين الكلمتين على مجموعة كبيرة من الأفكار والمشاعر، والتعبير عن تأملاته اللانهائية وهو ينظر بعين الخيال إلى نخيل غزة.

يمكن القول إن الشاعر اتخذ من النخيل رمزاً للوجود وربما الضمير، وجعله شاهداً على المأساة: «لنخيل غزة أن يرى.. ما سوف يحدث أو جرى.. لدم المدائن والقرى» وحكماً يفصل في الأمور: «لنخيل غزة وحده جدلية الرؤيا.. ومعرفة العدو من الصديق.. وهو الذي فضح الجريمة والجنون» وقاضياً يحاسب ويحاكم: «لنخيل غزة أن يحاكم بعضهم في الضوء.. أو قبل اكتمال الليل في ليل يخون» وموئلاً يضم الجميع: «لنخيل غزة ميجانا.. يا ميجانا الحزن الخضيل.. لنخيل غزة أن يلم صغاره في العيد.. في الفرح البسيط».
تصف القصيدة بعضاً من معاناة غزة ومأساتها، وهناك حضور بالطبع لمفردات الموت والقتل والدمار: «بيني وبين البحر قتل دائم.. بيني وبين القدس نيران مركبة» ويعبر الشاعر عن بعض مواقفه السياسية في القصيدة فيقول: «إني أخاصر بئرنا الأولى.. لأدبك خارج النثر المراوغ.. في السياسي البليغ أو البليد» ويقول أيضاً: «بعضهم زرع الكراسي في الكراسي.. واشترى بدم الطفولة صولجان» ويقول في موضع آخر: «وموعد يضع الحدود لم يؤنسن ذئبة.. باسم الذهاب إلى السلام». يذكر الشاعر بعض مدن فلسطين الأخرى في قصيدته: «سأعود في نارنجة حلمت طويلاً بالجليل.. أعود كي أجد الخليل» «لقلاع عكا أن ترى دمنا.. وتشهد». ولا تخلو القصيدة من صور المقاومة ومعاني الصمود، فيقول أبو خالد: «لا تموت غزالة قطعت على الصياد نشوته.. ووزعت الشظايا.. فانتهى الصياد في نعش القتيل» ويقول أيضاً: «أنا في الرماد نهضت مرات بأجنحتي.. وفي النيران أنهض.. أنا لي من الأحلام أحلامي بما يكفي لأصمد.. أنا لي من الألوان لون صواعقي.. والأفق أحمر.. كان المقرر أن أموت فلم أمت.. كان المقرر أن يغيبني الرحيل فلم أغب».

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية