الديمقراطية الكويتية أمام اختبار جديد: عطبٌ في الممارسة أم حريات سياسية زائدة؟

رلى موفَّق
حجم الخط
0

أفضى كلام عالي النبرة في قاعة البرلمان الكويتي للنائب عبد الكريم الكندري، اعتُبر تجاوزاً للخطوط الحمر في حق أمير البلاد الأمير الشيخ مشعل الأحمد وما تلاه من تصويت نيابي رافض لشطبه من محضر الجلسة، إلى أزمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما حدا بحكومة الشيخ محمد صباح السالم الصباح إلى إقرار مشروع مرسوم بحلّ مجلس الأمة ورفعه إلى أمير البلاد، حيث تنصُّ المادة 54 من الدستور على أنَّ «الأمير رئيس الدولة، وذاته مصونة لا تُمس».
حلُّ البرلمان، والذي هو حقّ دستوري للأمير، جاء وفق المادة 107؛ وفي تعليل أسباب الحل في المرسوم الأميري الصادر في 15 شباط/فبراير إشارة إلى «ما بدر من مجلس الأمّة من تجاوز للثوابت الدستورية في إبراز الاحترام الواجب للمقام السامي وتعمُّد استخدام العبارات الماسّة غير المنضبطة». وتُشير المادة إلى وجوب إجراء انتخابات لمجلس جديد في موعد لا يتجاوز الشهرين من تاريخ الحلّ. وهو ما التزمت به الحكومة، إذ دعت إلى انتخابات برلمانية في 4 نيسان/أبريل المقبل. وفي هذا السياق، يرى متابعون للمشهد الكويتي أنّه ما دام حلّ البرلمان جرى بطريقة دستورية؛ وما دامت القيادة السياسية دعت في مهلة الشهرين إلى إجراء الانتخابات، فإن ذلك لا ينال من الحريات السياسية في البلاد. فلو تمَّ تعليق البرلمان أو حلّه بشكل غير دستوري لأمكن القول إن نكسة أصابت تلك الحريات.

الحل بتغيير مجتمعيّ شامل

على أنّ وزير الإعلام السابق سامي النصف يعكس وجهة نظر مختلفة لتكرار عملية حلّ البرلمان، والتي تُظهر عدم نضج العملية السياسية في ظل غياب تنمية سياسية للناخب ودون عملية تأهيل للنائب، والتي هي حال دول عربية أخرى أخذت بالمسار الديمقراطي. ويذهب إلى اعتبار أن المسألة تتطلب ما هو أبعد من حلّ للبرلمان ودعوة للانتخابات، بحيث تحتاج إلى تغيير مجتمعيّ شامل، وقيم مجتمعية مختلفة، وتعديل الدستور، وتطوير العمل الديمقراطي والتنمية في المجتمعات من خلال المناهج الدراسية بما يُسهم بالوصول إلى ناخب واعٍ لا يُخْدَع بمعسول الكلام، ولا يُساعد على تبديد الثروة، بل يُسهم في تعزيزها، وينظر إلى مستقبل الأجيال وليس فقط إلى الانتخابات المقبلة.
ويعتقد النصف أنَّ قُصر المدة بين حلّ البرلمان وإجراء الانتخابات لا يُعطي مجالاً لأي تنمية سياسية مطلوبة، ولا لتغييرات دستورية تحتاجها الكويت بعد ستين سنة من الممارسة، ولا تكفي لتحريك المزاج العام الانتخابي. فـ»الخريطة الزرقاء» التي تسبّبت بحل مجلس الأمة ستعود سريعاً بنفس الأشخاص والأفكار والتحديات للمجالس اللاحقة، وهي مضيعة للوقت في كثير من الأحيان.
ما يُقلقه أنّ البلاد لا يمكن أن تُنجز شيئاً في ظل عدم استقرار سياسي بهذه الوتيرة من حلّ البرلمان وعمر الحكومات التي لا تزيد على أشهر معدودة. ويتساءل: كيف يمكن توقّع نهوض الكويت في ظل نفس القواعد السياسية وفي غياب تعديل الدستور بعد توقف عمليات التنمية؟ بحيث يستطيع نائب واحد يحمل أفكاراً خاطئة، أو مُستخدم من قوى معينة لديها أهداف خاصة، يستطيع ضمن اللعبة السياسية الكويتية أن يُوقف حال البلد، وأن يضع كل العراقيل أمام الحكومة، فعضو واحد في البرلمان بمقدوره عبر الاستجوابات وطرح الثقة من دون قيود عليه، أن يخلق المشكلات، وأن يُعطّل عمل السلطة التنفيذية. وقد بات شعار «إلاّ المساس بالدستور» عامل انسدادٍ سياسياً.

نقمة أم نعمة؟

يهمسُ البعض بأن النظام الديمقراطي الذي تتميّز به إمارة الكويت، وسط محيطها، تحوَّل من نعمة إلى نقمة، لكن المحلّل السياسي الكويتي حسين عبد الرحمن يُشير إلى أنّ الديمقراطية لم تكن يوماً من الأيام في العالم أجمع، وبما فيها الكويت، نقمة على الشعوب. فهي خيار الناس بأن يعيشوا أحراراً في ظل نظام ديمقراطي الذي هو وسيلة لبناء المجتمعات والتنمية الاجتماعية. وقد أعطى الدستور الكويتي الصادر في العام 1962 الضمانات الدستورية للمواطن الكويتي من حرية المعتقد، وحرية الرأي، وحق التعبير، وحق التعليم والرعاية السكنية، وحق الانتخاب، وحق أن يعيشَ بكرامة.
في رأيه، أنّ الإشكال ليس في الديمقراطية بل في استغلالها بشكل سيّىء؛ كمن يستخدم الأدوية للعلاج بطريقة سيئة فتضرّ به. والسبب يعود إلى أننا ما زلنا شعوباً يافعة على الديمقراطية، وما زلنا في بداية الطريق، وبالتأكيد لدينا بعض العيوب ولكننا لا نزال في طور التجربة. وليس من مشكلة في حلِّ البرلمان في فترات قصيرة ما دام يحصل وفقاً للدستور الذي هو الضامن للجميع، بحيث يلجأ الكويتيون إلى صندوق الاقتراع للانتخاب والتعبير عن رأيهم، وعليهم أن يتقبّلوا هذه النتائج وأن يتعاملوا معها.
كيف يمكن التخلّص من إساءة استخدام الديمقراطية الكويتية؟ يجيب عبد الرحمن بأنّ الحلّ يكون من خلال حملة كبيرة جداً لتوعية الناخب حين يضع ورقته في الصندوق. وهذه معضلة كبيرة، بحيث علينا ببرنامج توعية للناخبين لتكون نظرته الأساسية هي بناء دولة حضارية وديموقراطية، وألاّ تكون ثقافة الانتخاب من أجل طائفته، أو قبيلته، أو عائلته، أو مصالحه الضيّقة بل من أجل مصلحة البلاد، بشكل يُقدِّم نموذجاً للمنطقة عن وجه الديمقراطية الحقيقية وليس عن الوجه القبيح لها.
ويرى مطلعون عن كثب على المشهد الكويتي أنّ الفضاء الإعلامي، سواء أكان عبر الصحف الورقية أم المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي، ليس فضاءً مفتوحاً فحسب، بل تعدّى ذلك في بعض الأحيان إلى التجريح والطعن في الأعراض، وقد تناوب أمراء الكويت من الشيخ صباح الأحمد، والشيخ نواف الأحمد إلى الشيخ مشعل الأحمد على التحذير من انفلات هذا الفضاء وتأثيراته السلبية على الوحدة الوطنية وغيرها. ما يحكم العلاقة بين الإعلام والسلطة هو قانون النشر والمطبوعات، وهناك تطوير جديد لهذا القانون عرَضَه وزير الإعلام عبد الرحمن المطيري على النخب الإعلامية والسياسية لمناقشته وسيقدّمه إلى مجلس الأمة.

لـ»منظومة إعلامية مسؤولة»

المحلّل السياسي مساعد المغنم، يتوقف عند مسوّدة تنظيم قانون الإعلام الذي بدأت بوادره تظهر في أيلول/سبتمبر 2023 وأخذت عنوان: «قانون تنظيم الإعلام مسؤولية الجميع» لافتاً إلى أن وزير الإعلام حرص على وضع استراتيجية تشاركية، وبعد إطلاع المهتمين – ومنهم نواب في مجلس الأمة حضروا النقاشات التحضيرية – جرى وضع «كيو آر كود» لإضافة أي ملاحظات ومقترحات لتعديل المسوّدة. والمنهج الذي أخذته وزارة الإعلام وفق استراتيجيتها، بالتصدي لأي موضوع من خلال إعداد حلقات نقاش لأخذ الأفكار والملاحظات والتجارب السابقة.
ومسوّدة القانون مرَّت بمرحلة أولى لجمع كل الأفكار والمقترحات والملاحظات من المختصين، ومن ثمَّ مخاطبة مؤسسات الدولة المعنية، التي لديها قوانين ذات علاقة بهذه المسوّدة، وتلتها المرحلة الثانية المتمثلة بكيفية تطبيق قانون يُنظّم الإعلام ويدعم المزيد من الحريات المسؤولة، وهذا ما تعهدت به وزارة الإعلام في اللجنة التعليمية في مجلس الأمة. أما المرحلة الثالثة والأخيرة قبل تحويله إلى السلطة التشريعية، فتشتمل على تقديم عرضٍ مرئي لمشاركين من المسؤولين والإعلاميين والمختصين والقانونيين يتضمن القوانين الثلاثة الحالية التي تطبّقها وزارة الإعلام، وهي قانون المطبوعات والنشر، وقانون النشر الإلكتروني، وقانون المرئي والمسموع، ومقارنتها أيضاً بالمسوّدة المطروحة.
يُعرب المغنم عن اعتقاده أنّ هناك نقلة نوعية في المحتوى الإعلامي وفي شكل منظومة الإعلام الكويتي أخذها الوزير عبد الرحمن المطيري على عاتقه منذ توليه الوزارة، بما يُفضي إلى تقويم الخطاب الإعلامي في الكويت ومحتواه. وسيتم إرسال مشروع القانون الجديد لتنظيم الإعلام إلى ست جهات حكومية لوضع ملاحظاتها.
ويتضمن مشروع القانون الجديد حظر توجيه النقد لولي العهد أو نائب الأمير، إذ لا يجوز أن يُنسب للأمير أو لولي العهد أي قول أو فعل إلا بإذن من الديوان الأميري أو ديوان ولي العهد، ووضَع عقوبات في ما يخص ذلك. ويشتمل على محاذير، ومن ضمنها المساس بالذات الإلهية، والملائكة، والقرآن الكريم، والأنبياء، والرسل، والصحابة، وزوجات النبي، والتعرُّض لآل بيت الرسول، أو الطعن، أو السخرية، أو النقد والتجريح، أو بأي وسيلة من وسائل التعبير المنصوص عليها. كما يُشير إلى محاذير التعرُّض لشخص أمير البلاد وولي العهد، أو تحقير أو الازدراء بدستور الدولة، أو خدش الآداب العامة، أو إفشاء الأنباء عن الاتصالات الرسمية السرية، أو التأثير على قيمة العملة الوطنية، أو كشف ما يدور في أي اجتماع حول ما هو محرّر في وثائق ومستندات أو مراسيم، أو إثارة النعرات أو الفتن الطائفية، أو النعرات القبلية، أو الأفكار الداعية إلى تفوّق أي عرق أو جماعة أو لون أو أصل أو مذهب دينيّ أو نَسَب… إلخ.
كل هذا، في رأي المغنم «سيُلقي بظلاله على شكل المنظومة الإعلامية القادمة في الكويت، بحيث يكون هناك تقويم لما هو مطروح بالإعلام الكويتي من عنوان ومحتوى ومضمون أيضاً».

تقبُّل الرأي الآخر ولكن…

في لقاء مع صحافيين لبنانيين وأردنيين خلال انتخابات أيلول/سبتمبر 2022 سُئل وزير الإعلام الكويتي عبد الرحمن المطيري عن «وثيقة القيم» التي كان وقّعها مرشحون إسلاميون، فاعتبر أنها تندرج في إطار حرية الرأي والتعبير، وعلى الرأي الآخر أن يتقبّل الاختلاف في الرأي. ومنطق تقبّل الرأي الآخر هو سمة النظام الديمقراطي بالنسبة إلى المحلّل السياسي حسين عبد الرحمن، وإن كان يؤكد أن كثيراً من الكويتيين لم يروها إنجازاً وهي لم تسلك طريقها بعد، لأن الشعب الكويتي لا يقبل أن يسيطر على البلاد تيار دينيّ، فهناك دستور نسير تحت مظلته وهو الذي يعطيني الضمانات في مجال العيش المشترك، والتعيين والاستجواب والحقوق الدستورية، ومَن يمارس العمل الديمقراطي يجب أن يتجرَّد من انتماءاته الضيّقة لمصلحة الوطن الأشمل.
الإشكالية التي تواجهها الكويت، بالنسبة إلى الوزير السابق سامي النصف، تَبرزُ وتتفاقم عندما تحدُّ الحريات السياسية من الحريات الاجتماعية، ويقوم النواب والمشرّعون الذين تمَّ انتخابهم بوضع القيود على الحياة الاجتماعية وإسدال «الستار الأسود» على الدولة لجعلها أقرب إلى «دولة طالبان» فيما الحكومة تطمح إلى أن تكون البلاد مركزاً مالياً يستقطب الاستثمارات ومنفتحاً على السياحة، وهذا لن يتحقق في ظل تشريعات منغلقة لن تجلب السائح والمستثمر. وفي رأيه أن الإشكال الحقيقي لا يقتصر فقط على الديمقراطية الكويتية بل يطال الديمقراطيات العربية وديمقراطيات العالم الثالث عندما تؤثر الحريات السياسية غير المنضبطة في النهاية على الحريات الاجتماعية أو حتى الخيارات الأخرى، ما ينعكس على مستقبل الشعوب وحياتهم على غير مستوى سياسي، واجتماعي، واقتصادي، وثقافي، ومجتمعيّ، الأمر الذي يتطلب مراجعة وطرح أسئلة جوهرية عن حدود العمل السياسي وما إذا كان يجب أن يكون مطلقاً، وكيف تذهب أكثرية 51 في المئة إلى مصادرة حريات 49 في المئة وتفرض عليهم مفاهيمها، وحتى تفرض نظاماً اقتصادياً معيّناً يمكن أن يضرَّ بالبلاد والناس.
ما يلفت إليه النصف من معضلة، يُظهّر مكامنها أحد المراقبين للمشهد الكويتي، فـ»وثيقة القيم» أحدثت ضجة من قبل المعتدلين والليبراليين، الذين تخوّفوا من تحويل الكويت إلى «قندهار الخليج»، ولكن مَن يحمل لواء التشدّد المجتمعي في السنتين الأخيرتين هم مَن انتخبهم الكويتيون، أي أنّ المفارقة هنا بين حرية التعبير والتقرير – وهو المؤسسة التشريعية – وبين تأثير ذلك على الحريات العامة. فهل يمكن مثلاً وقوف الحكومة دائماً ضد قانون يشرّعه البرلمان؟
فالكويت التي كانت تحتفل في شهر شباط/فبراير الفائت بمهرجانات واحتفالات «هلا فبراير» التي تُقام سنوياً بمناسبة عيد الاستقلال عن الإنكليز في ستينيات القرن الماضي، وعيد التحرير من الغزو العراقي في تسعينيات القرن الماضي، وتعجُّ شوارعها بالفرح والبهجة وحب الحياة، نقيض أي انغلاق، ويدرك أبناؤها أن مسارهم إلى التنمية السياسية والمجتمعية طويل لكنه مفتوح ما دام النظام ديمقراطياً، وما دامت الحقوق والحريات مكفولة بالدستور الذي هو صاحب الكلمة الفصل، وأن التعثّر لا يعني السقوط بل هو مقدمة للنهوض، غير أن عامل الوقت بات ضاغطاً على الإمارة التي تعتمد على النفط مصدراً رئيسياً لاقتصادها في وقت يتجه العالم في 2050 إلى مجتمع خالٍ من الانبعاثات الكربونية ما يعني صفر استخدام للنفط الذي هو مصدر الثروة في غضون عقود قليلة تُقدَّر بثوانٍ من عمر الشعوب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية