أريحا أقدم مدينة فلسطينية مأهولة على الأرض

إسماعيل عبدالهادي
حجم الخط
0

تقف فلسطين في مقدمة الدول الغنية بالأماكن التاريخية الأثرية والدينية، التي تشكل جزءاً مهماً من الهوية الثقافية الفلسطينية، وجزءاً لا يتجزأ من الموروث الثقافي العالمي، فمدينة أريحا القديمة هي واحدة من المدن الفلسطينية التي تعتبر بوابة فلسطين الشرقية، فهي تقع على مقربة من نهر الأردن والبحر الميت من وأقدم المدن المحصنة في العالم، حيث يعود تاريخ هذه المدينة العريقة إلى العصر الحجري، وعمرها يزيد عن عشرة آلاف وخمسمئة عام، حيث تقع أريحا القديمة التي لا تماثلها أية مدينة أخرى عند مستوى 250 متراً تحت سطح البحر، ويعد مناخها مدارياً، مع درجات حرارة عالية جداً وجفاف تام في الصيف وشتاء دافئ وقليل الأمطار، ويمتد فصل السياحة في أريحا من شهر كانون الأول/ديسمبر حتى نهاية نيسان/ابريل، أما في الصيف فيتجنب الكثيرون زيارة أريحا نتيجة الارتفاع الشديد في درجة الحرارة فيها، حتى أن الكثير من أهلها يغادرونها في فصل الصيف متجهين إلى المحافظات الجبلية وخاصة رام الله والقدس، وهذا ما جعلها مشتى مثالياً ومدينة سياحية من الدرجة الأولى، بفضل مناخها المعتدل شتاء وبفضل العديد من المواقع التاريخية والأثرية المنتشرة في كل مكان تقريباً في المدينة وحولها، فعلى مساحة 20 كم مربعاً تتركز بعض أهم المواقع الأثرية فيها، ومن بينها تل السلطان وخربة قمران وجبل التجربة والكثير من الكنائس والقصور والمساجد، وتكثر في أريحا المتنزهات والمطاعم والفنادق ومنها ما أفتتح حديثاً، كما أن شوارعها واسعة وأهلها كرماء معتادون على وجود السياح في بلدهم.

أكثر من 80 موقعاً أثرياً

تضم أريحا أكثر من 80 موقعاً أثرياً وتاريخياً ودينياً وتتميز بتنوع حقبها وامتزاجها، وشهدت في بداية الألف الثالث قبل الميلاد نقلة حضارية، وكانت من أهم المراكز الحضرية الكنعانية بمنطقة الشرق الأدنى، وذلك بتحصيناتها المنيعة وعمرانها وقصورها ومقابرها ومقتنياتها المميزة، وما يميز تسجيل موقع أريحا عن بقية المواقع الأثرية الفلسطينية التي أدرجت سابقاً من قبل «اليونسكو» أنها أدرجت بتوصية من «الإيكوموس» وهو الجسم الاستشاري الفني للجنة التراث العالمي والذي يوصي بتسجيل أية مواقع، بينما سجلت المواقع الأخرى تحت بند ملف طارئ دون توصية «الإيكوموس» وبفضل المكانة التاريخية العريقة التي تتمتع بها مدينة أريحا الواقعة ضمن مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، جعلها تواجه مخططات السرقة والسيطرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، كما فعل مرات عديدة في السيطرة على مواقع أثرية عريقة وذلك لنسب تاريخها إلى اليهود، حيث نجحت إسرائيل بضم ما يقارب من 40 في المئة من الآثار الفلسطينية إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، فمدينة أريحا تواجه مخاطر السرقة والتهويد من قبل السلطات الإسرائيلية، وذلك لاستثمار المشاريع السياحية داخل المدينة التي تتميز بأنها منطقة جذب سياحي ذات أهمية كبيرة في فلسطين، بفضل الموقع البيضاوي للمدينة والمطل على نهر الأردن وبحيرة طبريا والبحر الميت، ونتيجة لذلك عملت السلطات الفلسطينية بجهد كبير على مواجهة انتهاكات الاحتلال بحق المواقع والمدن الأثرية في فلسطين، واتخذت قراراً بحماية المواقع وتوثيقها عالمياً، كونها تمثل تراثاً إنسانياً وتبين أن أرض فلسطين لها تاريخ متجذر، لذلك تساهم الاكتشافات الأثرية التي يعثر عليها الفلسطينيون باستمرار في الضفة الغربية بشكل كبير في تعزيز الهوية التراثية الثقافية الفلسطينية، وتشير إلى تجذرهم في أرضهم منذ آلاف السنين، رغم محاولة الاحتلال الإسرائيلي إثبات عكس ذلك من خلال رواياته الكاذبة، حيث أثبتت العديد من المكتشفات الحق الفلسطيني المتجذر على هذه الأرض المباركة، التي تحتوي طبقاتها على كنوز حضارية وشواهد عمرانية ومعالم ومقتنيات تاريخية أثرية، تجزم بارتقاء وسمو الحضارة الفلسطينية منذ آلاف السنين، فمديمة أريحا أدرجت من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» على لائحتها للتراث العالمي، بعد جهود فلسطينية لحماية المدينة من مخططات التهويد الإسرائيلية، وذلك عقب تصويت لجنة التراث العالمي بالمنظمة الأممية بالأغلبية الكبرى على ضم أريحا القديمة إلى لائحة التراث العالمي، حيث تصف «اليونسكو» على موقعها الرسمي أريحا القديمة بأنها ضمن إحدى مناطق الشرق الأوسط القديم ومهد الحضارات، وتتمتع بتراث ثقافي غني وطويل الأمد يمتد من عصور ما قبل التاريخ، وتشهد عليها الثقافة المادية المتنوعة الموجودة التي لا تزال بادية في الخنادق المحفورة في الموقع.

الهوية التراثية والثقافية الفلسطينية

وبعد معركة شرسة خاضها الفلسطينيون وواجهوا خلالها ضغوطات الاحتلال الإسرائيلي الذي رفض قرار «اليونسكو» مثلما حاول عرقلته سابقاً، أشاد مسؤولون فلسطينيون بهذا الإنجاز الذي يؤكد على هوية التراث الفلسطيني، إلى جانب الاعتراف الأممي بأحقية الشعب الفلسطيني على هذه الأرض، إضافة إلى تعزيزه الهوية التراثية والثقافية الفلسطينية، كما سيسهم التسجيل العالمي في حماية الموقع من الاحتلال الإسرائيلي وغيره، وسيكثف الجهود الفلسطينية القائمة والدولية لتحمل مسؤولية أكبر تجاه حماية هذه الآثار، حيث رحب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالقرار واصفاً إياه بأنه بالغ الأهمية ودليل على أصالة وتاريخ هذا الشعب، في المقابل قالت وزيرة السياحة والآثار الفلسطينية رولا معايعة في تصريحات صحافية، إن فلسطين نجحت في تسجيل موقع أريحا القديمة على قائمة التراث العالمي التابعة «لليونيسكو» خلال الجلسة الـ45 للجنة التراث العالمي المنعقدة في العاصمة السعودية الرياض، وعن أهمية الموقع قالت الوزيرة الفلسطينية إنه يمثل الحضارة الاستثنائية لأول نموذج ناجح للمستقرات البشرية الدائمة، ويمثل أقدم بلدة زراعية مسورة في العالم، بنيت في العصر الحجري الحديث قبل أكثر من 10 آلاف عام في أخفض بقعة على سطح الأرض عند مستوى250 متراً تحت مستوى سطح البحر قرب نبع عين السلطان، الذي شجع على انتقال الإنسان من حياة الالتقاط إلى الاستقرار القائمة، وتدجين النباتات والحيوانات وبناء المنشآت المعمارية وغيرها من أنظمة تطور الحضارة البشرية، أما خبراء آثار فلسطينيون فقد بينوا أن مدينة أريحا القديمة تمثل موقعاً يروي قصة تاريخ البشرية، من خلال بقايا تعود إلى العصر الحجري الحديث وتستمر حتى العصر البيزنطي، حيث احتوت المدينة على برج دائري ضخم بالإضافة إلى أسوار لحماية الموقع، وظل المكان قيد التنقيب لأكثر من قرن من الزمان، وأسفر عن بقايا أقدم مدينة مأهولة بالسكان على هذا الكوكب، وكانت مياه نبع عين السلطان في المدينة مصدر حياة أريحا منذ آلاف السنين، ولعبت دوراً رئيسياً في تشكيل تاريخها، بالإضافة إلى ذلك كانت أريحا بمثابة نقطة عبور لشبكات الطرق القديمة الممتدة من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وكانت بمثابة مكان وسيط للثقافة والتجارة.

محاولات سرقة التراث

وفي خطوة وصفت بالإنجاز الكبير، بعد أن وثق الفلسطينيون مسبقاً أربعة مواقع أثرية تاريخية رسمياً على قائمة التراث العالمي، ومنها البلدة القديمة في القدس، وكنيسة المهد، وتلال بتير، والبلدة القديمة في الخليل، أصبحت أريحا التي وثقها الفلسطينيون خامس موقع أثري يتم توثيقه من قبل منظمة «اليونسكو» حيث قوبل تصويت المنظمة باعتراض وغضب كبير من قبل إسرائيل، التي عملت مراراً على تعطيل القرار واستخدمت كل نفوذها لإبطال وتأخير هذ الملف، ولكن قوة الحق الفلسطيني فرضت نفسها كأمر واقع واعتمد القرار الدولي، حيث قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان نعتبر أن القرار الذي تم اتخاذه علامة أخرى على استخدام الفلسطينيين الساخر لليونسكو وتسييس المنظمة، حيث ترفض إسرائيل بشكل قاطع إدراج المواقع دون موافقة إسرائيل عليها، وشددت على أنها ستعمل بالتعاون مع أصدقائها الكثيرين في المنظمة، من أجل تغيير كل القرارات الجائرة الصادرة عنها، وهذا الاعتراض جاء ضمن سياسة تهويد تنتهجها إسرائيل من أجل تزييف التاريخ الفلسطيني وسرقة التراث، حيث أنه ومع بداية العام الماضي، رصدت إسرائيل مبلغ 150 مليون شيكل لتهويد المواقع الأثرية الفلسطينية من بين حوالي 7 آلاف موقع أثري فلسطيني بالضفة الغربية، في حين تتعرض هذه المواقع يومياً لمضايقات الاحتلال عبر عمليات حفر وتنقيب غير قانونية، وسرقة القطع الأثرية وطرد العاملين الفلسطينيين منها، ولذلك تخطط مؤسسات رسمية لا سيما وزارة السياحة وبالتعاون مع قطاعات حكومية وأهلية، لإعداد ملفات لمواقع تراثية أخرى تمهيداً لتسجيلها عالمياً، وذلك للتصدي للاحتلال ومشاريعه الهادفة للسيطرة على تلك المواقع التاريخية.
من جهته يقول الخبير في علم الآثار والتنقيب فضل العطل إن الأثار والكنوز العريقة التي تقع في مناطق عدة من فلسطين سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، من الضروري توثيقها دولياً لأنها دليل على أحقية الفلسطينيين بهذه الأرض، فمساعي السلطة الفلسطينية في توثيق مدينة أريحا القديمة، يأتي في سياق دحض كل الروايات الإسرائيلية واليهودية التوراتية، التي يزور الاحتلال عبرها الحقائق ويدعي أن هذه أرضه وأنه أول من سكنها، وهذا التسجيل تأكيد على أن الفلسطيني الكنعاني هو أول من سكن هذه الأرض، كما أن ذلك يعد اعترافاً عالمياً صريحاً بدور فلسطين وإسهامها في الحضارة الإنسانية.
وأوضح العطل في حديثه لـ«القدس العربي» أن ملف توثيق أريحا القديمة وتسجيله على لائحة التراث العالمي، قد مر بمراحل شاقة وطويلة استوفت شروط المنظمة الدولية فيما يتعلق بالموقع وخطط إدارته وعلاقته بالمحيط، حيث تم تجهيز الملف ورفعه منذ عام 2020 إلى حين أن اعتمدت المنطقة بالقائمة التمهيدية أوراق الملف، واستوفت الشروط اللازمة ليتم اعتماد المدينة طبقاً لمعايير «اليونسكو» التي أرسلت وفداً للتقييم ومن ثم وافقت على ضم المدينة على لائحة التراث.
ولفت إلى أن كل هذه الاكتشافات تشير بشكل بارز إلى الدور الكبير الذي كانت تلعبه فلسطين على مر العصور، بدءاً من العصور الحجرية القديمة وصولا إلى العصور الحديثة مرورا بالعصر الحجري الحديث، حيث شكل الإنسان أقدم مدن التاريخ في مدينة أريحا، وأيضا بالفترات اللاحقة أنشأ أكبر القصور والقبور الرومانية في فلسطين.
وتابع العطل حديثه قائلاً إن سعى الفلسطينيين إلى حماية تاريخهم وآثارهم، هو بمثابة نقلة نوعية تشير إلى أهمية هذا التراث العريق، وفرصة الفلسطينيين للتعريف بهويتهم وثقافتهم لإبراز هويتهم عبر الترويج للرواية الفلسطينية الحقيقية، فبالرغم من أن الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على العديد من المواقع الأثرية في الضفة الغربية والقدس، إلا أن الفلسطينيين يحاولون بشتى الطرق دحض نسب اليهود تاريخ هذه الآثار لهم.
ولفت إلى أن قرار ضم أريحا القديمة للائحة التراث العالمي، يحمل اعتبارات سياسية واقتصادية تعود بالنفع كثيراً على الفلسطينيين، سياسياً يعزز الرواية الفلسطينية والمخزون القانوني والدبلوماسي للشعب الفلسطيني، ويوفر الإطار القانوني لحق شعبنا في هذه الأرض، ويعزز حقنا في حماية التراث الوطني في ظل الهجمة الشرسة من الاحتلال الإسرائيلي، كما أنه يبرز للعالم أجمع أحقية الفلسطينيين بالأرض وتكذيب كافة الروايات الصهيونية، ويدعم المساعي الدبلوماسية عند توجه الرئاسة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، أما من الناحية الاقتصادية، فلهذا القرار جوانب تنموية وسياحية مهمة، كونها ستصبح منطقة جذب سياحي، وهذا يعزز الرؤية الفلسطينية الطموحة لتنشيط السياحة، ويعود بالنفع مالياً على خزينة السلطة، بعد تنشيط الاستثمار في المشاريع السياحية داخل المدينة التي تعتبر مقصداً للسياح من شتى أرجاء العالم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية