«ووقعُ فعاله فوقَ الكلام»: عن التجمّع الطلابي في الجامعة الأردنية

حجم الخط
11

هنالك فكرتان قديمتان، انتُهكتا تماماً في السنين الأخيرة، وأصبحتا تُستخدمان كعلكة يُواري بها مُستخدموها رائحةَ علل كثيرة فيهم: فكرية وأخلاقية. كلتاهما، بالمناسبة، تُستخدمان حين لا يعرف المثقّف، أو الفنّان، أو المفكّر، أو الأكاديميّ، كيف يبرّر تَرفه أمام الثائر، أو المتظاهر، أو الحراكيّ، أو المعتصم.
الفكرة القديمة الأولى هي «المقاومة بالفنّ». كان محمود درويش يتحدّث عن تجربة شخصيّة في الحصار عندما قال إنّه مع كل سطر يكتبه كان «يشعر» بأنّ الدبابة تراجعت متراً. انتُزعت لاحقاً الجملة من سياقها الشخصيّ، ونُسيت «يشعر»، وأصبحت تُتداول لتعني أنّ السطر قادر على مواجهة دبابة، ولا يقلّ تأثيراً عن الحجر أو السلاح، الذي كان الشاعر ربما ليرمي القلم بحثاً عنه لو أنّ الدبابة كانت أقرب والحال أصعب من حصار. قبل سنوات في مقابلة مع درويش، واجهه مقدّم البرنامج بالسؤال عن السطر والدبابة، وبعد أن أسهَب الشاعر في وصفه للحالة الشعرية الجميلة في المقاومة على المستوى الذاتيّ، سأله المقدّم عن رأيه فيمن «يفعلون»، وكان السؤال وقتها تحديداً عن العمليّات الاستشهادية. أدرك عندها الشاعر تماماً حجم الفداحة في المقارنة، مهما اختلف أيديولوجيّاً عمن يقدر على أن يفجّر نفسه، وأجاب: «أولئك أنحني لهم إجلالاً».
لاحقاً، حين نضج الشاعر أكثر، كتب في رائعته: «وليس في وسع القصيدة/ أن تغيّر ماضياً يمضي ولا يمضي/ ولا أن توقف الزلزال»…
الفكرة الثانية المستهلكة هي أن كل ثورة تحتاج إلى «منظومة فكرية» تسبقها. لا أعرف اللحظة التي أصبح عندها العرب يستبدلون بكل لفظة «نظام» السليمة تماماً أحياناً كثيرة الكلمةَ المفضلة الجديدة: «منظومة»، ولا أعرف كيف تشكّلت عندهم تلك النظرة بالغة التبسيط للثورة الفرنسية على طريقة أفلام الكرتون، كمثال لـ»منظومة» تسبق ثورة. الفكرة بحد ذاتها، كفكرة المقاومة والفن، فيها الكثير من الصواب، لكنها حين ترى نفسها مترفة تواجه فعلاً، ولا تقترح سوى نفسها، أي سوى الحاجة إلى وجودها، فإنّ قيمتها لا تتجاوز غالباً التبرير ومواراة العجز، لذلك فهي تأخذ غالباً شكلاً دفاعياً منتقداً لكلّ ما يحاول أيّ فاعل فعله؛ شكلاً مثيراً حقاً للشفقة، الشفقة على نموذج المثقف العربي الجديد: الخائر الحائر، والثرثار رغم ذلك.
حدث ذلك في مكتبي قبل أسابيع. زارني بعض طلبتي من التجمّع الطلابي لإلغاء قرار رفع الرسوم في الجامعة، وأخبروني أكثر عن حراكهم. ذكروا أنّهم هذه المرة متحدّون تماماً بلا تفرقة: الإسلاميون والمستقلون وكتلة عودة وكتلة تجديد اليسارية وأبناء العشائر. كانت زميلة أكاديمية مثلي حاضرةً، ورغم أنّها هي من ذكّرتني بالصورة المشهورة لسارتر في لقائه مع جيفارا، وأسهَبت في وصف الفوارق الدقيقة بين الفيلسوف الذي يبدو هزيلاً في بذلته وجلسته، وبين الثائر بالغ الحضور في بسطاره وسيجاره، إلا أنّها في تلك اللحظة تلبّستها تماماً شخصيّة المثقف العاجز، وانتقدت طلاّب التجمّع لأنّهم لا يتوحدون إلا لدوافع اقتصادية بحتة، وتنبّأت بأنّهم سيعودون لذبح بعضهم في الانتخابات، ونصحتهم بأن يؤسسوا «لخطاب» فكري مشترك ما، ولحسن حظها لا أذكر أنّها استخدمت أمامي كلمة «منظومة»، وإن كان «الخطاب» مصطلحاً آخر أصبح يزجّ فيه عند أي كوز يدقّ في أيّ جرّة.
لم يمتلك الطالب نفسه من أن يستلذّ بسلطة «الفعل» الذي يقلب الموازين، وقال لها أمام كثيرين: «عفواً دكتورة، وأنت ماذا تفعلين أمام ما يحدث؟» انتقلت السلطة في تلك اللحظة تماماً من المثقف القادر على التنظير والكلام، إلى الثائر، الأقلّ ثقافة أحياناً أو غالباً، لأنه ببساطة قادر على الفعل ودفع الأثمان. كان المشهد في عيني مؤذياً فعلاً، لأكثر من سبب واضح. فأنا لا أستطيع مهما نظّرت كصديقتي عن قيمة المعرفة والثقافة والأفكار، إلا أن أشعر بخجل شديد، بل وبوضاعة أحياناً، أمام من يستعد لمواجهة سلطات أكثر وضوحاً وأذى، ويصر على فعل بالمعنى المادّي، مهما بدا هامشياً تماماً في حركة التاريخ، بدل أن يجلس وينظّر عما قد يغير وقد لا يغير على المدى القريب والبعيد.
مشهد آخر. طالبات وطلاب التجمّع الطلابي قرروا في آخر يوم من نشاطات اليوم العالمي للفلسفة، أن يخرجوا من مدرّج الكندي حين يحين دور رئيس الجامعة في تكريم أحد أساتذتهم، احتجاجاً على قرار رفع الرسوم، ثم أكملوا اعتصامهم وهتافاتهم في الخارج، داخل الكلية، فاهتزّ مكتبي إعجاباً وخجلاً. «هذه فلسفة أيضاً»، بلغة إحدى طالبات قسم الفلسفة الصاخبات الجميلات. وبلغة طالبة أخرى في الفلسفة، صارخة الثقافة معترضة على بلاهة الأكاديميين بشكل عام: «هو ضجر من المجرّد من الأفكار، ومن الحقارة ألا توجد الآن وهنا في قضيّة لا لبس فيها مهما قالت الفلسفة عن نسبية الحقيقة». وبلغة طالب أقرب إلى الشعر من الفلسفة: «أتظاهر لأنّ كل ما يقضّ مضجع السلطة مفيد، على طريقة مجنون ليلى أمام العقلاء والوسطيّين، وعلى طريقة الحلاج إذ قال: ألقاهُ في اليمّ مكتوفاً وقال له/ إيّاك إياك أن تبتلّ بالماء». وبلغة أحد كبار ناشطي العمل الطلابي: «أخرج اعتراضاً على منظومة كاملة في البلد، تقمع الحريات، وتُجهّل العامّة، وما الجامعة إلا نموذج لنهج الدولة في إفقار الناس لشغلهم في لقمة العيش، كيلا يلتفتوا إلى قضايا التعليم وما يجرّه من فتح للآفاق». لم يصل «التفصيل» حول آخر أيام نشاطات قسم الفلسفة بالطبع إلى الخبر الرسميّ الصادر عن إدارة الجامعة حول «نشاطاتها»، في محاولة بائسة لإخفاء ما هو موثّق عند الطلبة، وأهمّ.
يقول هرم السلطة داخل أي مؤسسة تعليمية إنّ الأستاذ يعلو الطالب بحكم الشهادات. لا بأس من هذا داخل قاعة الدرس، إذا كان المعيار الوحيد فيها فعلاً الفكر والمعرفة، وطالما أجرمت في تقييم طلبة وإن كان لهم نشاطهم السياسي المهم خارج القاعة. خارج القاعة لا أستطيع، مهما أخلصت لفكرة المكان، إلا أن «أُجلَّهم عن الملام»، وأن أنحني لهم طويلاً احتراماً وإجلالاً. هم طلاب في مؤسسة تعكس تماماً كلّ ما في هذه الدولة الصدئة المهترئة من قمع وظلم وفساد وعقلية أمنية تأبى أن تتحضّر، وتنتج بسهولة مواطناً يعشش اليأس والصدأ في عظامه، إلا في حالات استثنائية كهؤلاء الطلاب. طلبوا منّي أن أكتب، رغم أن «وقع فعالهم»، عندي، «فوق الكلام» بلغة المتنبّي الذي لم أفكّر يوماً، رغم كلّ ما بيني وبينه، أنّه في لحظات كان فعلاً فارساً على فرس وسط معركة، مقتنعاً أن في وسع القصيدة، ووصف الفارس والشاعر والفرس، أن تنتظر إلى حين يبين، من وسط الغبار، وجهٌ وضّاحٌ، وثغرٌ باسمُ…
وجوه وضّاحة جميلة ومضيئة هم وسط هذه القباحة وهذا الظلام: قباحة أن مؤسّسة تعليمية، كما هي الدولة، تقرر أن تسدّ ديونها من عظام الفقراء والضعفاء، من جيوب مثقوبة لطلبة بعضهم متفوق ولم يعد بإمكانه أن يحلم بإكمال دراسته فيترك مقعده فارغاً في الدراسات العليا لآخر ميسور الحال. قباحة أنّ الطلبة أنفسهم لا يكادون يكسبون شيئاً بدل ما يدفعون، أدوات ومعرفةً في الكليات الإنسانيّة على وجه الخصوص (وهذه بالمناسبة فكرة زميلتي المنظّرة الأخرى). قباحة أنّ الكفاءة واحدة فقط من المعايير الممكنة لدخول الجامعة أصلاً، والباقي محاصصة ومجاملة ومداراة ومواراة ومجاراة لفئات يغازلها النظام، كما هو حال الأمر في كلّ الدولة، مغازلة تحاول التكفير عن ظلم «الأقل حظاً» (أو بتعبير أدق «الأسوأ إدارة») منذ الأزل، بينما تُبنى مدارس باهظة بصبغة أجنبية تلميعاً لصورة النظام واحتراماً لذائقة الفئات الأكثر حظّاً. قباحة أن الأكاديميين يعرفون تماماً خفايا قصص الفساد ويصمتون. يصمتون، لأن ثلث رواتبهم على الأقل هي من حوافز برنامج الموازي، الذي فوق وجوده أمراً واقعاً قبيحاً ظالماً، قررت الجامعة رفع رسومه أيضاً لتكتمل المهزلة. قباحة أن طلاباً يهدَّدون صراحة وضمناً بالفصل والإنذارات التي لا تنتهي، وتفضّ اعتصاماتهم بالطرق المعهودة، وأنهم وحيدون في كلّ هذا. قباحة أن مساقاً جديداً أصبح «يُدرّس» لطلبة الجامعة بعنوان «أخلاقيات الطالب الجامعي»، وكأن كل هذا الصمت والتضليل والتواطؤ والظلم في غاية الأخلاقية. مساق يهدف ببساطة، على حدّ تعبير طالب ساخر، «إلى إنتاج مواطن «صالح» «مثالي» «نموذجي» «مرضي» ليست لديه القدرة على التفكير الناقد». قباحة أنّ التضليل يصل حدّ أن تتغنى إدارة الجامعة بحريّة «سقفها السماء وحدودها الوطن»، وأن تتجرأ فتقول إنّ الجامعة وسط كلّ هذا هي «عقل الدولة ونبض الأمّة». معها حقّ: هذا هو عقل الدولة تماماً، وهذه هي حدود الوطن. عقل تجاريّ، ولسان كاذب ركيك، وقلب لا تصل حساسيته وجماله وعنفوانه إلى عشر ما لدى شباب لا يملك فعلاً «منظومة فكرية» عميقة بعد، على أنّ الذنب ذنب من يحاسبه على غيابها رغم غيابها عنده أصلاً. شباب صلّى بعضه قبل فترة صلاة الغائب في باحة كليّة الآداب عن روح زميلهم الذي قرر أن يترك كلّ هذا الصدأ المتراكم في الدولة والجامعة ويحارب مع جبهة النصرة في سوريا. شابّ لم يحتمل كلّ هذا الزيف ببساطة، واحتار أين يذهب بقلبه، فمات. دمه في رقبة الدولة ومؤسساتها التعليمية تماماً وحصراً، لا في رقبة «قوى التطرف والإرهاب» أبداً. ويكفي الاطلاع على التقرير السنوي للحملة الوطنية من أجل حقوق الطلبة للشعور بالقرف من الترف في ظلّ أحداث العنف الجامعي، بل في ظلّ تسلّل شبح أحداث اليرموك إلى مجلس أمناء الجامعة، رغم إصراري على أن كلّ ما يبدو «ترفاً» فكريّا معرفيّاً قد يكون، للمفارقة، «ضرورياً» كما بّينت في مقال نُشر هنا العام الماضي.
لا أملك أن أقول أكثر وأخشى منطق الوصاية. أرجو فقط أن لا يفسد جمالهم منطق التفرقة، وهم من كتبوا في بيانهم الأخير: «التجمّع فكرة». وأن يقرؤوا أكثر وأكثر وأكثر، كي يحققوا معنى ما جاء في بيانهم: «المجد للطلبة»، وكيلا يظنّ أكاديميّ مترف مثلي أن من حقّه التنظير الهزيل، وكيلا يصدّق كذبة أنّه بمقال كهذا يقترب منهم، وكيلا يحتاجوا أو يطلبوا أن يكتب عنهم أحد أصلاً. مرّة أخرى، ورغم كلّ الوجع، وبسببه، أنحني لهم إجلالاً ومراراً، وأدعو لهم قبل كل شيء بالخير والسلامة.
كاتبة أردنية

د. بلقيس الكركي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رائد -الاردن:

    لماذا لا تبادرين بالتغير وانت ابنت الجامع لماذا الان الانتقاد

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية