تونس: الميديا ترقص على إيقاع المساواة في الإرث

في العشرين من شباط/فبراير الماضي، أعلنت رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها الرئيس التونسي في اب/اغسطس من العام نفسه عن نيتها تأخير تقديم تقريرها النهائي له بعد ان كان مفترضا ان يحصل ذلك بانقضاء ستة شهور على بدء أشغالها. وكانت حجتها في ذلك، الحرص «على النأي بالتقرير النهائي عن التجاذبات الحزبية والسياسية» حسب ما صرحت به بشرى بلحاج حميدة، في أعقاب لقاء جمعها يومها في قصر قرطاج بالرئيس وحضره معها الأعضاء الباقون في اللجنة. أما المقترح البديل الذي عرضته الحقوقية التونسية ووافق عليه قائد السبسي، فقد كان ان يقدم التقرير في حزيران/يونيو أي بعد شهر من الانتخابات البلدية التي جرت في أيار/مايو الماضي. وبدا حينها أن القرار معقول ووجيه، بل ومطمئن كذلك ومستجيب وبشكل خاص لتطلعات ورغبات بعض الأحزاب. فكل العيون كانت تتطلع إلى نجاح أول انتخابات بلدية حرة تجري في البلاد ولا أحد كان مستعدا للتفكير في أشياء أخرى عدى التهيؤ للتنافس بقوة للفوز فيها ولأجل ذلك فلم يطرح التحجج بتجنب التجاذبات أي إشكال ولم يكن موضعا للنزاع والخلاف. ولم يتساءل الكثيرون عن الجدوى منه أو ان كان مبرر التأجيل مقنعا أم لا ولا بحثوا أيضا عن المستفيد الحقيقي من وراء تلك العملية. كما لم يفسر أحد حينها القرار على انه يعكس إلى حد كبير حالة التحوط والتخوف والريبة من جانب أعضاء اللجنة من قياس المزاج العام ومعرفة رد الفعل الشعبي بخصوص نتائج أعمالها حتى وان كان ذلك سيحصل بشكل غير مباشر، أي من خلال الاستحقاق الانتخابي البلدي. ولكن مسار الأحداث منذ ذلك التاريخ إلى حدود خطاب الرئيس التونسي في الثالث عشر من الشهر الماضي دل بوضوح على ان جزءا واسعا من تلك الهواجس كان موجودا بالفعل.
لقد حرصت رئيسة اللجنة في المناسبة ذاتها على التأكيد بأن التأجيل سيكون فرصة ستعمل فيها على «توسيع دائرة استشاراتها لتكسب توصياتها مزيدا من الدعم والنجاعة». غير انه اتضح ان ذلك لم يكن في الواقع سوى إعلان نوايا مجردا من أي معنى في ظل غياب تواصل حقيقي بين اللجنة والجمهور الواسع. إذ اقتصرت تحركاتها في الغالب على بعض اللقاءات أو الندوات الضيقة التي دعيت لها بعض النخب الجامعية أو الإعلامية ولم تهتم كثيرا بالخروج من برجها العاجي ومخاطبة قطاعات واسعة من التونسيين باللغة التي تفهم وبالوضوح الذي تنتظر وتريد. كما ان تركيبتها لم تكن تعكس في شيء تنوع وثراء المواقف والقراءات الفقهية والقانونية والاجتماعية لمسائل حساسة لا تقبل الاصطفاف الايديولوجي ولا كانت تضم في عضويتها أيضا عددا واسعا من الخبراء والمختصين المعروفين بالنزاهة والكفاءة والخبرة بمثل تلك القضايا. وفاقم ذلك المشكل بشكل واضح من حالة الضعف والوهن الاتصالي التي كانت واحدة من بين العقبات الأساسية التي وقفت فيما بعد في وجه الفكرة التي عرضتها اللجنة وتحولت إلى المقترح الأبرز من بين مقترحاتها وهي إقرار المساواة التامة في الإرث والتي تبناها الرئيس التونسي وأعلن عن عزمه التقدم للبرلمان بمشروع قانون بشأنها. ونتيجة لذلك ولأسباب أخرى أيضا، تحولت اللجنة في نظر الرأي العام إلى لجنة بشرى والتقرير إلى تقريرها دون باقي الأعضاء. فيما عكس الانقسام الحاد بين المواقف المؤيدة والمعارضة لها والذي ظهر بشكل جلي في ردود فعل التونسيين في وسائل التواصل الاجتماعي انحراف السجال عن بعده الديني والقانوني والاجتماعي الواسع وتحوله إلى ما يشبه الخصومة الشخصية أو حتى صراع الديكة. ولعل رئيسة اللجنة كانت تدرك جيدا ان الأمر لم يكن ليمر بسهولة وانه لم يعد ممكنا بالمقابل أيضا ان يستمر الجميع في اللعب على أكثر من حبل واحد. وكانت تعلم هي وباقي الأعضاء ان المهمة المنتظرة منهم كانت واضحة ومعقدة في الآن نفسه وهي صياغة نص يكرس المساواة في الإرث ويمكن ان يحظى بقدر واسع من القبول من دون ان تكون مرجعيته إسلامية مثلما كان عليه الأمر في مدونة الأحوال الشخصية التي وضعها الرئيس الراحل بورقيبة في السنة الأولى لإعلان الاستقلال. وربما كان الدكتور عبد المجيد الشرفي وهو عضو في اللجنة دقيقا في التعبير عن طبيعة تلك المهمة حين قال في تصريح لصحيفة «الصحافة اليوم» المحلية، ان التقرير الذي قدم لم يكن «اجتهادا في نطاق الدين بل في نطاق تحديثي للمجتمع التونسي» مقرا في الوقت نفسه أن هناك «إرثا فقهيا تاريخيا» يمكن «التحرر منه في الوقت المناسب» على حد تعبيره.
وهذا ما يدل على ان مربط الفرس كان يكمن في طريقة الخروج النهائي من فلك المنظومة الدينية والدخول بشكل تام وكامل فيما يفترض انها منظومة مدنية مقابلة. ان ذلك هو أيضا جوهر السجال الذي انخرطت فيه معظم وسائل الإعلام المحلية دون ان توضح لجمهورها بشكل دقيق وصريح طبيعة الخيارين المعروضين وتبعات وآثار كل واحد منهما على حياة الناس ومستقبلهم وانعكاسه على مصير تونس وعلى تخيلها أو حفاظها على هويتها العربية والإسلامية التي عرفت بها طوال عقود. لقد كان التخيير بين تطبيق المساواة في الإرث والذي يفترض ان يصبح القاعدة وبين استبقاء التقسيم الحالي للمواريث على حاله والذي سيصير حسب مشروع القانون الذي سيقدمه الرئيس للبرلمان استثناء بنظر معظم الصحف المحلية حلا منصفا ومقبولا وبنظر البعض الآخر منها «حدا أدنى» وخطوة أولى في انتظار إلغاء التخيير والتنصيص بشكل تام ونهائي على المساواة الكاملة في الإرث. ورأت صحيفة «المغرب» مثلا في خطوة الرئيس «ثورة فكرية ودينية واجتماعية كبرى» فيما وصفت صحيفة «الشروق» الخطاب الذي أعلن فيه عن مشروعه بـ«خطاب المنهج» واعتبرت صحيفة «الصباح» من جهة أخرى أن الرئيس قد ألقى كرة المساواة في الإرث في ملعب باردو ومونبليزير، في إشارة للبرلمان وحركة النهضة. ولكن أغلب التحليلات التي ظهرت خصوصا خارج محطات التلفزيون التي تغط في سباتها الصيفي ركزت على الجانب السياسي للمبادرة الرئاسية وعلى وصفها بانها اختبار حقيقي لمدنية الإسلاميين الذين يشكلون عصب الائتلاف الحكومي، ولم تحاول ان تشرح للتونسيين ما كانوا يرونها تناقضات حادة شابت التقرير وطبعت المقترح في حد ذاته، والسبب هو ان التجاذبات والحسابات السياسية التي تحدثت عنها رئيسة اللجنة وصرحت برغبتها الابتعاد عنها، لم تعطل ذلك فقط، بل ظلت هي المحدد الأول والأخير للتعاطي الإعلامي مع فكرة المساواة في الإرث وجعلت قسما واسعا من الإعلاميين ينحاز بشكل مفضوح ومخالف لكل القواعد والمعايير المهنية لوجهة نظر على حساب أخرى. ان ذلك الخلل المنهجي أعطى الفرصة لبروز خطابات أخرى على منابر المساجد وفي الندوات والمؤتمرات التي عقدها المعارضون للمشروع والتي كانت تغطية الإعلام المحلي لها محدودة وضعيفة وفتح الباب واسعا أمام حالة من الانفلات والتضارب الحاد في المواقف والآراء ظهرت بشكل واضح على شبكات التواصل الاجتماعي وبالأخص على موقع فيسبوك. وكان اللافت فيها هو ان عددا من الوجوه الحقوقية وحتى الفنية المعروفة بانها حداثية ومناصرة لقضايا المرأة خرجت لتعلن معارضتها لتغيير أحكام الميراث ولإعلان الرئيس ان لا مرجعية دينية لتونس. وفي هذا الصدد نشر المحامي عبد العزيز الصيد على صفحته على فيسبوك رسالة مفتوحة للرئيس قائد السبسي دعاه فيها لان يأخذ مجموعة من القرارات حتى يكون منسجما مع نفسه، كأن يغير علم تونس لان النجمة والهلال على علاقة بالإسلام، وان لا يحلف على المصحف ويلغي وزارة الشؤون الدينية وتنظيم الحج ولا يستشهد بآيات قرآنية في خطاباته.
أما على الطرف المقابل فقد وجد المشروع مدافعين متحمسين له من أمثال الجامعية ألفة يوسف، التي شنت هجوما على عضو من هيئة علماء الأزهر أظهر رفضه له وكتبت تقول على صفحتها على فيسبوك «اهتموا بشؤونكم يا من كنتم ولا زلتم سببا في تخلف المسلمين وعقدهم وعنفهم وتجهيلهم… أنتم يا من تريدون حبس الإلاهي والروحاني بين قضبان مؤسسة قوامها مصالحكم الضيقة… تونس بنسائها ورجالها الأحرار عصية عليكم… وستتبعون خطاها يوما…». وبالمجمل فقد غنى التونسيون في مواقع التواصل كل على ليلاه لترقص باقي وسائل إعلامهم على نخب مشروع المساواة في الإرث لكن على رجل واحدة.

11HAD

تونس: الميديا ترقص على إيقاع المساواة في الإرث

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    مربط الفرس هو ان نخرج من دولة النفاق و البين بين و ربع دين و نصف مدنية و ربع الاثنين معا ….لنخرج من دولة الشكزوفرينيا ….الى دولة الوضوح الذى لا سلطة فيه إلا للقانون المدنى الذى نضعه و ان لم يعجبنا نغيره لنواكب تطور المجتمع و تغير العصر و لنكون مثل باقى سكان الكرة الأرضية نعيش عصرنا …. هذا علاوة و كما قلت سابقا و بخصوص المساواة بين التونسيين و التونسيات لم يعد فيها اى قبول للتمييز و بأسم اى مسمى و لا استفتاء على الحرية الفردية و المساواة و لا استفتاء على التنفس و شرب الماء و لا استفتاء على تحييد الإرهاب بكل الطرق و الوسائل …طبقوا الدستور …..تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

إشترك في قائمتنا البريدية