الطاقة الخفية في أعمال التشكيلي التونسي نجيب بوقشة

أين يمكنك العثور على الأستاذ الجامعي المساعد نجيب بوقشة؟ طلبة المعهد العالي للفنون الجميلة في سوسة على الساحل الشرقي لتونس، قد يجيبونك ودون تردد: طبعا داخل قاعة من قاعات المعهد، حيث يتولى منذ سنوات تدريسهم تقنيات الرسم. لكن أين يمكن أن يجد الفنان التشكيلي نجيب بوقشة نفسه؟ الجواب البديهي في هذه الحالة، هو وبلا جدال، في محرابه أي في المرسم الخاص به. وبين الحياتين أي حياة مدرس تقنيات التعامل مع الريشة والألوان وما قد تفرضه أحيانا من صرامة وانضباط أكاديمي وحتى نوع من التقييد المنهجي والإداري، وحياة أخرى للفنان المنفلت والمتحرر من الالتزام والمنطلق نحو آفاق رحبة لا نهائية، والمنقاد وراء غواية الخروج عن الضوابط والحدود والانحياز الكامل للغة المشاعر، يقسم التشكيلي التونسي الذي طلّق الأعمال التشخيصية رغم نجاحه وتميزه فيها، واختار الأعمال التجريدية على صعوبتها، وضعف استيعاب وربما حتى اهتمام الجمهور بها، برنامجه اليومي. وفي ما قال عنه شمس الدين العوني ذات مرة في مقال في«القدس العربي»في 18 مايو/أيار 2014 أنه « يتهجى الينابيع بحثا عن المفردة التشكيلية الملائمة» يبدو أن نجيب بوقشة قد وجد بعد رحلة شاقة وممتعة، في الوقت نفسه، من البحث والتجريب المتواصل، ضالته وعثر على تلك المفردة التشكيلية في ما يطلق عليه الرسم الديناميكي. وهو شكل فني ينضح بالحيوية، ويجعل المتأمل في العمل الإبداعي يستشعر وبشكل واضح تلك الطاقة الخفية الكامنة وراء الألوان، من خلال تأمله في اللوحة المعروضة أمامه، لكن ما الذي جعل الأستاذ الجامعي والفنان التشكيلي يرتاح لذلك الصنف الفني أكثر من غيره، وينغمس فيه ويجد فيه راحته واستقراره الذهني والنفسي؟ وما الذي حفزه على أن يهجر الأسلوب المباشر الذي كان يعتمده في أعماله، والذي كان يدر عليه أعجاب وتنويه حتى بعض الجهات والدوائر الرسمية في تونس، حين بادرت في إطار تشجيعها للفنانين عموما، على اقتناء عدد مهم من لوحاته؟

الخبير الفني الفرنسي بول هارفي وهو يقيم احد اعمال بوقشة

تبدأ القصة من حدث مثّل المنعرج الحقيقي في مسيرته، وهو قدوم الخبير الفرنسي في تقنيات الرسم بول هارفي إلى تونس ومعاينته لبعض لوحات بوقشة ليخرج باستنتاج مهم وهو أنها، أي تلك اللوحات، تضج ومن خلال ما تحمله من ألوان بشيء مبهر وهو الطاقة وأنها تحمل، حسب توصيفه، أداء فنيا عاليا. لقد كان رأي ذلك الخبير، كما أسر لي نجيب في إحدى اللقاءات، حافزا إضافيا دفعه إلى التمسك بالأسلوب الذي اختاره في التعامل مع اللوحة. فهو لم يعد يقنع أو يقبل بالعمل البسيط والمفهوم، بل صار يتطلع إلى أبعد من ذلك، أي إلى سبر الأغوار القصية والعميقة، التي قد تبدو مبهمة أو مستعصية على الإدراك الحسي المباشر، لكن أليس ذلك هو جوهر العملية الفنية التي يبدأها المبدع، دون أن يعرف شيئا عن مآلاتها، أو عن شكل وطبيعة ما ستثمره في النهاية؟ إنه يقف كل مرة أمام ورطة جديدة وهي تحديد الطريقة التي سيملأ بها بياض اللوحة، قبل تحولها إلى عمل فني. وعند الخروج من تلك الورطة أي عند اكتمال ذلك العمل فإنه يجد فردوسه الأرضي، ويتلقى المكافأة الحقيقية التي تشعره بالراحة والسكينة والاطمئنان. والتفاصيل الصغيرة في هذا الجانب تبدو مهمة. فبوقشة لا يرسم قبل أن يعطي اهمية بالغة للجزئيات المرتبطة ببناء اللوحة، فهو يبحث بعناية شديدة عن نوع القماشة المناسبة للوحاته، ويبذل وقتا طويلا في ذلك لأنه يعي جيدا أن ذلك الأمر ليس قطعا شيئا ثانويا، ما دام أنه سيؤثر بشكل ما في النتيجة النهائية لعمله الفني. أما طموحاته فلا سقف لها. فالمشروع المقبل الذي يشتغل عليه الآن بتؤدة، لكن بعزم وتصميم كبيرين، هو إنجاز عمل فني استعراضي سمعي بصري وحركي في الوقت نفسه، يجمع بين الرسم والموسيقى، ويعرض مباشرة للجمهور في إحدى الساحات العمومية. وما تحمله لوحاته من طاقة على حد توصيف بول هارفي، قد يسمح له بأن يطمح لذلك وأكثر، ولأن يحلق عاليا لا في سماء الفن التشكيلي وحسب، بل في سماء يتمازج ويتزاوج فيها أكثر من فن واحد.

كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    بعض الكلمات ادا سمح لنا المنبر في فضاء فن التشكيل التونسي بين قوسين المنبر عيون لاتنام تسهر على التقاط الصور الفنية دات مكانة حسنة جد ا سواء كانت برائحة الشعر او برائحة الرواية او برائحة القصة او برائحة المسرح او برائحة السينما اوبرائحة التاريخ اوبرائحة التشكيل وهو البيت المنبر يرحل بنا مرة الى الشرق ومرة الى الغرب ومرة الى الشمال ومرة الى الجنوب ليعرفنا على الجديد في عالم التشكيل الواسع وهده المرة في البلد تونس التي دخلت من الباب الواسع لهد ا الفن الدائم وسيظل يفاجئنا باالمحير الواضح والغامض وما لايقدر بثمن بسبب كثرة السحر المعطر به ومن كل جانب فاتحية للفنان وللبلد كدالك

  2. يقول المصمم الرسام محمدالمالكي:

    عندما تحاور مع إبداعات المبدع الرسام نجيب بوقشة، فعليك استحضار الذاكرة المنسية،وفي الان نفسه التحليق في عالم الخيال والسفر بعيدا مع الخطوط والأشكال واللطخات لتشكل صورة من الماضي البعيد وصورة اخرى ربما تكون في المستقبل القريب ،نجيب بوقشة صاحب الألوان الترابية التراثية وعاشق اللطخات عندم تتشكل هكذا بحركات متنوعة الاختلاف محورا هاما في الحياة العامة او حتى الخاصة الوانه من السهل الممتنع الدالة على خبرة راكبها الفنان على مر السنين والاعوام تحية إلى صديقي المبدع دام ابداعك

إشترك في قائمتنا البريدية