ماذا بقي من لقائي مع نجيب محفوظ؟

داخل إحدى حقائبي ما زلت احتفظ بشريط كاسيت سجلت فيه حوارا جمعني قبل أكثر من ثلاثين عاما في مقهى علي بابا في ميدان التحرير وسط القاهرة، بالأديب المصري والعالمي نجيب محفوظ، ودام لأكثر من ساعة. و ما أعجز عن الإجابة عنه كلما سئلت عن ذلك هو، لم احتفظت كل تلك السنوات بذلك التسجيل، ولم يخطر ببالي أبدا إذاعته أو نشره في أي وسيلة.
ويخال لي أحيانا أن واحداً من الأسباب، هو أنني أحسست بأنه بات بالنسبة لي أشبه بالكنز الشخصي، الذي ينبغي لي أن لا أتقاسمه مع أحد. وقد يرى البعض في ذلك وبلا شك، نوعا من الإفراط في الأنانية. لكن ما أعجب له حقا هو كيف امتلكت القدرة طوال كل تلك السنوات على الصمود أمام إغراء الشهرة وإغوائها ولم أسع لإذاعة التسجيل أو نشره حتى في الفترة التي تلت مضي ثلاثة شهور على إجراء المقابلة، وأعلن فيها رسميا عن فوز من كان يدعوه أصدقاؤه والمقربون منه بـ»نجيب بيه» بجائزة نوبل للآداب. والمؤكد أن الحنين الذي جرفني إلى ذلك الزمن الذي لم يكن فيه لا موبايلات ولا إنترنت، ولا كل تلك الآلات الصماء البكماء التي صارت تطوقنا من كل جانب، هو ما جعلني أكتب قصة ذلك اللقاء. كما أن إحساسي بتقدم العمر قد يكون هو من دفعني لأن أدرك أيضا وبشكل أعمق وأكبر قيمة بعض المواقف، أو الأحداث، أو اللقاءات التي كنت شاهدا عليها، أو طرفا فيها. وربما صرت على يقين من أن التحولات السريعة التي عشتها، خصوصا في السنوات الأخيرة، هي التي جعلتني أفكر في العودة قليلا إلى الوراء واستحضار بعض الأشياء التي قد تبدو لغيري شاذة وغريبة مثل لقائي وأنا في الثامنة عشرة من العمر وقبل سنة فقط من اجتيازي امتحان الثانوية العامة المعروف في تونس بالبكالوريا أي في يوليو/ تموز من عام 1988 بأديب عربي كبير حاز في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه أعلى وأرفع جائزة أدبية في العالم، وهي جائزة نوبل للآداب.
وفي الواقع فإني لم أخطط أبدا لتلك المقابلة، ولم يكن في أول زيارة لي إلى مصر أي فكرة أو تصور عما كنت أنوي فعله، أو عمن كنت أفكر باللقاء بهم. وكل ما حصل هو أنني سافرت ومعي توصية من أحد أقاربي، وكان ساعتها الرجل الثاني أو الثالث في حزب حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، الذي تحول في عهد الرئيس المخلوع الراحل بن علي إلى واحد من الأحزاب الكارتونية، بأن أمرّ على الكاتب المعروف لطفي الخولي للسلام عليه واللقاء به، بعد أن استقبله قريبي قبلها بأيام في تونس.. وهكذا فما أن استقررت في أحد البنسيوهات في شارع عدلي حتى قصدت المبنى الفخم لجريدة «الأهرام» في شارع الجلاء. ولم أكن اتصور وأنا الذي خبر في سن مبكرة ضيق مكاتب أعرق صحف تونس، أي صحيفة «الصباح» حين كنت أزورها مع الوالد رحمه الله، أن مكاتب «الأهرام» ستكون على تلك الفخامة والرفاهية التي كانت جديرة بفندق من فنادق الخمسة نجوم. وبالفعل فقد كان مبنى الصحيفة وحده بالنسبة لي بمثابة الاكتشاف المذهل بطوابقه التي فاقت العشرة طوابق على ما أذكر.

ولأنه ليس باستطاعتي الآن أن استعرض كل ما دار بيننا في تلك الجلسة فسأكتفي فقط بأن أذكر الدرس الثاني الذي تعلمناه أنا وصديقي الأندلسي من الكاتب الكبير وهو أن نكتب لا لنخاطب العالم بكتاباتنا، بل لنتحدث أولا وقبل كل شيء إلى محيطنا القريب.

والمفاجأة التي لم أكن أتخيلها أبدا هي أن كل واحد من كبار الكتاب والصحافيين كان يملك مكتبا فخما، وكانت له سكرتيرة خاصة وكانت مقابلته أشبه بمقابلة وزير أو مسؤول من المسؤوليين الكبار في الدولة، وهذا أمر لم يكن معروفا أو موجودا في تونس، حيث كان مدير الصحيفة ثم وبدرجة أقل رئيس أو مدير التحرير هما وحدهما من يملكان مكاتب واسعة أو فخمة نسبيا، بالمقارنة بباقي الصحافيين الذين كانت مكاتبهم تشبه قوالب السكر. أما ما هزني حقا فهو أن الأستاذ الخولي رحمه الله خرج ليستقبلني بالأحضان، ما أن أخبرته السكرتيرة بوجودي مرددا: أزاي سي إسماعين أنا كنت عندكو في تونس من أسبوعين؟ وحين أخبرته أنني جئت لاكتشاف مصر والتعرف لأدبائها ومثقفيها وفنانيها، سألني على الفور إن كنت قد شاهدت الفيلم الأخير لنجلاء فتحي ثم نصحني بمشاهدته. لكن ما أدهشني حينها هو أنني لما استئذنته في أن أسجل معه مقابلة صحافية رحب بذلك بسرعة ولم يسألني حتى لصالح أي صحيفة أو مطبوعة سيكون ذلك، بل استرسل في الحديث لأكثر من ساعة وهو يجيب عن سؤالين فقط طرحتهما عليه كان أحدهما على ما أذكر يخص جريدة «الأهرام» والتحولات التي شهدتها مند تأسيسها على يد الأخوان اللبنانيان تقلى. وبعد خروجي من مكتبه لمحت في الطابق نفسه مكاتب لكتاب وأدباء آخرين فدفعني الفضول للذهاب إلى مكتب بنت الشاطئ والحديث معها لبعض الدقائق. ثم مررت بالقرب من صورة ضخمة لتوفيق الحكيم كانت معلقة على أحد الجدران وقال لي أحدهم إنها وضعت قرب مكتب الأديب الراحل. لكن وغير بعيد عن ذلك المكان لاح لي مكتب نجيب محفوظ وقيل لي إنه ليس موجودا، لأنه يمضي كعادته كل عام إجازته الصيفية في الإسكندرية. وسيكون موجودا مساء الجمعة في كازينو قصر النيل. وهكذا فقد كان من السهل عليّ أن اتدبر الأمر وأصل إلى المكان المحدد رفقة صديق أندلسي تعرفت عليه في البنسيون، وكان يدرس العربية في إسبانيا، وقرأ بعض روايات محفوظ المترجمة إلى الإسبانية. ووجدت الاستاذ يتصدر طاولة كبيرة فيما جلس من حوله عدد كبير من الأشخاص، لم يكن بمقدوري أن أميز أو أعرف منهم في تلك الفترة غير الأديب جمال الغيطاني، الذي كان يجلس عن يمينه. ولما لم أجد أي وسيلة أو طريقة لدخول تلك الجلسة فقد اقتربت من الغيطاني وقلت له لقد جئت من تونس وجاء صديقي من الأندلس ونحن نريد التحدث إلى الاستاذ نجيب. وبمجرد أن استدار نحوه ورفع صوته بعض الشيء ليخبره بذلك كان رد محفوظ هو أهلا وسهلا تفضلا بالجلوس، لكنني قلت له نحن نريد أن نجلس معك على انفراد. وهكذا فقد حدد لنا موعدا في صباح اليوم الموالي في مقهى علي بابا في ميدان التحرير. ولم أعد أذكر إن كنت أنا من قلت لايناثيو من تلقاء نفسي، أم كان هو من سألني عن وقت ذهابنا لموعدنا مع محفوظ. غير أنني ما زلت أذكر أنني قلت له سيكون من الصعب جدا أن يأتي الرجل في الموعد الذي حدده لنا، أي الثامنة والنصف صباحا. ففي العادة يتخلف كبار الأدباء والفنانين والمشاهير عموما عن مواعيدهم. لكن بوصولنا متأخرين فوجئنا بالأديب الكبير جالسا إلى طاولة في الطابق العلوي من المقهى تطل على ميدان التحرير، ولم يتردد بعد الترحاب بنا في تذكرينا بلطف بأننا تأخرنا عن الموعد. وكان هذا أول درس تعلمناه يومها من نجيب محفوظ وهو الالتزام بالوقت والحرص على النظام، بعد أن كانت الصورة التي تشكلت في أذهاننا هي أن الأديب لا يمكن أن يكون إلا شخصا فوضويا ومنفلتا من كل القيود.
ولأنه ليس باستطاعتي الآن أن استعرض كل ما دار بيننا في تلك الجلسة فسأكتفي فقط بأن أذكر الدرس الثاني الذي تعلمناه أنا وصديقي الأندلسي من الكاتب الكبير وهو أن نكتب لا لنخاطب العالم بكتاباتنا، بل لنتحدث أولا وقبل كل شيء إلى محيطنا القريب. لقد سألته حينها: يتردد أنك مرشح بقوة لنيل جائزة نوبل للآداب فما تعليقك؟ أما رده فلا يزال إلى الآن محفورا في ذاكرتي. لقد أجابني وبالحرف: شوف أحنا الأمية عندنا خمسين في المئة.. والخمسين في المئة إلى بيقروا، أي يقصد غير الاميين ما فيش خمسة في المئة منهم يقرأوا كتب، فلأوصل لدول وبعدين أفكر في العالمية. وبعد ثلاثة شهور فقط من ذلك الكلام كانت المشاعر التي أحسست بها وأنا أسمع في نشرات الأخبار نبأ فوزه بنوبل للآداب فوق الوصف، لكن ذلك لم يجعلني أفكر في أي وقت من الأوقات في التفريط في ما اعتبرته كنزا شخصيا، وهو ذلك الكاسيت الذي لا يزال إلى اليوم موجودا في إحدى حقائبي.

كاتب وصحافي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Muhammad:

    كأحد محبي أدب نجيب محفوظ، أغبط الأستاذ نزار على هذا الكنز الشخصي الذي يحتفظ به، وعلى كونه استطاع أن يلتقي بالروائي العظيم والحديث معه على انفراد.
    وكدت أن أغضب من السيد نزار وأستنكر عليه تأخره في معاده مع الراحل، لولا أن ذلك حدث وهو لا يزال بالثامنة عشرة فقط من العمر.
    شكرا على نيتك أن تنقل إلينا حوارك وتشاركنا فيما قاله الأديب العالمي رحمه الله.

  2. يقول ناجية الرمضاني:

    صديقي،نزار،انت،كنت محظوظا،بلقاءك،بنجيب محفوظ،اتمنى،لك النجاح.

  3. يقول نجم والي:

    “كما أن إحساسي بتقدم العمر قد يكون هو من دفعني لأن أدرك ….” معقولة عزيزي تكتب ذلك، عن تقدمك بالعمر وأنت الآن في سنّ 51 عاماً؟ مازلت شباباً يا صديقي…. أرجوك!

  4. يقول متابع.:

    أتمنى أن يتم حفظ تاريخ هذا الرجل وذكراه وأعماله الخالدة وأن لايتم المس أو العبث بشخصه من طرف أي كان كما أعتبر الكاتب الكبير نجيب محفوظ من كبار الكتاب والرواءيين في العالم وعلى مر التاريخ لأنه أبدع في تجسيد معنى الرواية كما كان يقال أنها فن الغوص في أعماق النفس البشرية .

إشترك في قائمتنا البريدية