التمكين لشعب الأردن المسكين

حجم الخط
14

ربّما من الصعب التأريخ لتلك الليلة الفاصلة من حياة الشعب الأردني، لكنها ليست غالباً أبعد من عامين. أعني الليلة التي نام فيها بعد نشرة أخبار طافحة بما اعتاد عليه من كلمات تحكي همومه الصغيرة والكبيرة وإن كانت لا تحلّ شيئاً؛ ليصحو بعدها فيجد العالم اللغويّ من حوله قد اجتاحته حمّى طارئة لم تتوقّف إلى الآن، وهي حمّى «التمكين»، الأردنية بامتياز. فلدينا التمكين الديمقراطي وتمكين المرأة وتمكين الأسرة وتمكين الشباب والتمكين الوظيفي والإداري والاقتصادي والعقاري ومؤخراً جدّاً: تمكين اللاجئين والإعلان عن تشكيل كتلة «تمكين» البرلمانية.
يتفاجأ المسكين من كلّ هذا التمكين ويسأل: «كم لبثنا؟»
يحاول التركيز.. ما معنى التمكين؟ هو يعرف أن الله «مكّن» ابن آدم في الأرض حسب القرآن، ويعــرف أن المرأة «تمكّن» الرجل من نفسها، وأن ملك مصر قال ليوسف بعد أن رأى براعته في التأويل «إنّك اليومَ لدينا مكين». التمكين هو إذن علاقة سلطة، لا علاقة تكافؤ أو مساواة بين عبد ومعبود، بين راغب ومرغوب، وبين حاكم ومحكوم، والمستفيد هو الأقــــوى «الممكِّـــن»، إلا إذا كان الطرف الآخر ببراعة يوسف في لعبة السلطة: رفض أن يمكّنها من نفسه وهي التي اقترحت التمكين، فسجن، وكان لا بدّ من طريقة يتحايل فيها بالتأويل إلى أن مكّنه فرعون. يفزع المسكين: ماذا لو كانت السلطة في الأردن تراوده عن نفسه بإغراء التمكين فينتهي به الأمر من حيث لا يدري إلى السجن؟ منذ متى والسلطة في الأردن معنية أصلاً باشتقاقات من لغة القرآن أو قصصه أو بافتراضات ميشيل فوكو؟ «كم لبثنا»؟
ما يكفي، كما يبدو، من الوقت لكي «تبتكر» السلطة بأن تنسخ عن مصطلح Empowerment في قاموس الإدراة الحديثة، ألفاظاً تستخف بعقول الشعب، الذي يعرف بعضه أن الديمقراطية تحتاج إلى «ثورة» والمرأة إلى «تحرير» (من قِبَلها) والشباب إلى «حراك». لم يستشر أحد المسكين في وصفه المفضّل لما يريد، كما لم يستشره منذ عقدين عندما تحوّل بين ليلة وضحاها «العدوّ الصهيوني الغاشم» إلى دولة، بل جارة تربطها مع الأردن معاهدة ولها سفارة، كما لم يستشره أحد حين حوّلت السلطة طريقــــة تواصلها معه من «خطاب» متلفز مباشر إلى «ورقة عمل» أو «ورقـــة نقاشـــية» تلقى في «منتدى» ما خارج البلاد ونصف كلماتها على وزن «تفعيل»: تأهيل، تنمية، تزويد، تجديد، تدريب، تعزيز، تغيير، تطوير، تشغيل والأهم: «التمكين» الذي هو لفظ رقيـــق، لطيف، محايد، أجنبي الأصل، خفيف، يواري بغباء فادح معانيَ التكميم والترويض والتدجين.
يبدو أن السلطة في الأردن تفكّر بعلاقتها مع المواطنين بمنطق إدارة الشركات: علينا أن نوهمهم بأننا نعمل معهم بـ»روح الفريق»، وبأن لهم رأيا تحترمه السلطة، وبأنهم من رواد العمل الاجتماعي، ولا بأس بأن نتناول معهم عشاء ما في أحد الفنادق، شرط أن يرتدي الشباب الممكّن ديمقراطياً بذلات ما، كي تخرج الصورة إلى الإعلام تحت عنوان «كلّنا الأردن». سعادة غامرة قد تجتاح الموظف بسبب رضا مديره عنه، وبسبب ما توحي به طاولة العشاء من حميمية ما، وقد يشعر فعلاً تحت تأثير أضواء اللغة بأنه «منخرط» بطريقة «فاعلة» و»مساهم» في «توجهات» جديدة لإيجاد «آليات» تعزز «الفاعلية» في الحياة السياسية والمدنية بما يعكس «الشفافية»، وبأنه جزء مهم من مشروع «إصلاح» الوطن/الشركة.
الأخيرة تريد أن تربح، و»التمكين» محض وسيلة إلهاء وتخدير لغوية، والموظف محض أداة. يعود «الموظف» الممكَّن إلى بيته ويخلع بذلته الوحيدة وينام فيحلم بالـ»ممكن» بعد هذا الحوار المتحضر مع السلطة حول التمكين والقيادة والريادة وغير ذلك من الحشو الفارغ، بينما تحلم زوجته بـممكن آخر، وتسمع الكثير عن «تمكين» المرأة الذي لا يبتعد كثيرا عن منطق الشركات، فتمكينها ببساطة يعني أن تعمل، وتعمل، وتعمل، فتساعد أسرتها فوق هموم البيت، والهدف في النهاية ألا يشكو أحد الفقر ولا يعاند السلطة فتنام الأخيرة مرتاحة البال. فالمرأة تظن أنها «ممكّنة» بمجرد أنها عملت، رغم أن شيئاً من سلطة الرجل عليها لم يتغير، بل هو المستفيد من تمكينها، فهي التي ستحضّر له العشاء وهي مرهقة من عملها في «المشاريع الصغيرة» ومن مشاركتها في «الحياة العامّة» وفي حملات «نبذ العنف» و»الفحص المبكّر»، وتمكّنه من نفسها في آخر الليل من غير أن تجرؤ حتى على الإفصاح عما تريد أن يمكّنها منه. لكنّ «روح الفريق» والتشابه الشكلي توهمها بالمساواة، كما أوهمته طاولة العشاء المشتركة بأنّ شيئا ما في سلوك السلطة قد تغيّر نحو ما قررت تسميته هي بـ»مناخ الشراكة».
مصدر الوهم، هو أن المواطن والمواطنة، بالإضافة إلى قيود الخوف ببساطة، غير ممكَّنين ثقافيّا وتأويليّا على طريقة يوسف، فسُلب منهما حتى الحلم الذي لا يجرؤان على الإفصاح عنه كي لا يُرميا في البئر. السلطة في الأردن تذهب بسلوكها اللغوي أبعد من إخوة يوسف، فهي تريد للأحلام أن تصبح «تطلّعات»، وللحقيقة أن تصبح «مهارات»، وللسبل أن تصبح «تقنيات»، وللجراح أن تصبح «تحديات»، وللحقوق أن تصبح «مكرمات»، وللواجبات أن تصبح «إنجازات»، وللأفعال أن تصبح «ممارسات»، وللوطن أن يصبح مؤسسة أو مشروع استثمار. لم يعد هذا الاستهتار باللغة محتملاً من وجهة نظري، ولا أدري كيف يعتقد أصحاب «التمكين» بـ»إمكانية» صناعة «قصص نجاح» )مترجمة عن (success storiesعلى مستوى الوطن العربي إذا كانوا لا يدركون أنّ واحدة من أهم الإشارات (بل والأسباب) على «تمكين» العربي في تاريخه هي علاقته بالغة القداسة باللغة. إنّ الخلاف اللغوي بين السلطة والشعب في الأردن، كما أشرت في مقال سابق، يعكس بالضرورة خلافاً وجدانياً وثقافياً عميقاً يصل حدّ النشاز. فبينما قد «تغرّد» السلطة بعصافيرها البلاستيكية الزرقاء عبارات باردة تبدو كأنها دعاية لأحد مرطّبات البشرة أو الشعر؛ عبارات من مثل «مبادرات لبناء أردن أفضل وأقوى لجميع أبنائه» التي لا تختلف في بنائها ومضمونها وزيفها عن «مستحضرات للحصول على بشرة أنعم وأنقى لجميع الأعمار»(، تعشش كبيض العصافير في عظام الناس كلمات لن تبرد يوما رغم جليد «التمكين»: «لاطلع عَراس الجبل واشرف على الوادي.. واقول يا مرحبا….نسّم هوا بلادي..».
« فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء …» التمكين باختصار يعني أن تتعاون معك السلطة لمصلحتها فقط، مدّعية، من خلال كلمات هلامية زئبقية لزجة مترجمة، اهتماماً بمصلحة الجميع. ليس هذا مقام النقاش في المصالح، لكن على المهزلة اللغوية أن تتوقف، سريعاً، بأي طريقة) بتدخل المثقفين والأكاديميين والإعلاميين الذين يتواطؤون أحياناً بالصمت أو بالإذعان اللغوي(، حفاظا على ما تبقى من ماء وجه الأردنيين، الذين هم رغم أزماتهم أبسط وأجمل من كل هذا الهراء، والذين تعودوا على أن يريدوا خبزا وحرية وكرامة وعدالة ومساواة وعروبة وتعليماً، لا ريادة وقيادة وتأهيلاً وتدريباً وتمكيناً، ويكفيهم ما في البلد من تلوث سياسي وفكري وأخلاقي كي يحتملوا فوقه كل هذا الزبَد.

٭ كاتبة أردنية

د. بلقيس الكركي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رائد -الاردن:

    والله ماصدقو الحاقدين على الاردن شخص يكتب على البلد زي غاده الشاويش انا اجزم ان المدعوه غاده الحافده انها لم تكن في الاردن ولا حدا طلبها على الدوار الثامن ولا يحازنون ليش ما سئلتي الكاتبه لم كان زوجها رئيس الديوان الملكي ما كتبت عن التمكين الا بعد ما ما ذهب عجيب كل مسؤول في الاردن لما يتقاعد بصير سياسي عجب .الاردن عصي عليكم

  2. يقول رائد -الاردن:

    الى بلقيس وين كنتي لم كان زوجك رئيس الديوان الملكي ليش ما كنتي تكتبي عن التمكين وغيره ولكن كل مسؤول لما يخرج من منصبه بصيبه نوبة غضب وبدو يضل الى الأبد وبعدين بصير سياسي ومعارض وبخاف على الشعب ومدافع عن حقوقه عجب عجب

  3. يقول ناديا:

    الاخت غادة التمسي للطرف الاخر في الوطن العذر ويا ريت تتفهمي مخاوف هذا الطرف من الذي يحاك له من العدو المتربص واذنابه الخونة من كل الاطياف ولا اعذر احد . اخت غادة عدم قبول اخيك في اماكن معينة ليست نهاية العالم . اقرا كل ما تقع عيني عليه من تعليقاتك فانت صاحبة حس وطني ومدركة حجم الخطر الذي يحيط الاردن حماه الله وحمى من يحبه .

  4. يقول غادة الشاويش:

    *الى الاخت نادية تحية لا نتمنى للاردن ان يلحق بسوريا ولكن العدالة والاخوة طريق الاستقرار لا نريد للاردن ان يصبح وطنا بديلا بان نوطن نحن الفلسطينيين به فنكون قد عانينا احتلالين احتلال اسرائيلي للاراضي الفلسطينية واحتلال فلسطيني من دون قصد للاراضي الاردنية شارون روج لفكرة تعيسة جدا هي الاردن هي فلسطين .
    رائد للتصحيح انا مش حاقدة على الاردن انا احب الاردن فهو شقيق فلسطين وستواتي الجميلة بجباله وثلجه وشهامة اهله المضيافين لنا كفلسطينيين لكنني حاقدة على المخابرات لانني فعلا انا وغيري من الابرايء تعرضنا للتحقيق في الدوار الثامن ولانني منفية ولا يمكن عودتي وجريمتي مقاومة العدو فانتبه لا تستفزني حتى لا استفز مشاعر اخوتي في الوطن فيظنوا انني اعنيهم انا اعني الدوار الثامن هل فهمت ام تريدني ان اكتب عن قصر الليزيه وبرج ايفل ونهر السين في الدوار الثامن مبنى المخابرات الاردنية مظاليم يجب ان تتظاهر من اجلهم لانهم الوطن الوطن ليس جهاز المخابرات الوطن هو السماء والارض الطيبة وانحن جميعا

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية