«وَصلْ»: مشروع فني يدمج الأختام السورية القديمة مع اللوحة التشكيلية

حجم الخط
1

كم مرّة زرتم منزلاً سورياً يزين أصحابه قطع الأثاث فيه بأغطية تمتلئ برسوم ملونة هندسية أو نباتية أو حيوانية؟ هل استوقفتكم يوماً أي زخارف أو نقوش على أقمشة صُنعت في سوريا، وشعرتم بأنها مرتبطة بشكل أو بآخر ببيئتكم ومخزونكم الثقافي؟
لقد عرفت مناطق سورية مختلفة منذ القديم، رسوماً ونقوشاً وُثقت على شكل أختام مسطحة، حجرية أو خشبية، وتنوّعت استخداماتها على مرّ العصور، من التجارة إلى التزيين. واليوم، تضيف مجموعة من الفنانين والفنانات في دمشق بعداً جديداً لهذه الأختام، مع إطلاق تجربة فنية تحمل اسم «وصل» وتتضمن ورشة عمل امتدت على أكثر من عشرة أسابيع، اختتمت بمعرض في صالة «زوايا» للفنون هذا الأسبوع.
«ببساطة، يسعى مشروعنا لإخراج الختم السوري من نطاق الاستخدام المقتصر على القطع القماشية المنزلية والديكور، وإدخاله على اللوحة التشكيلية بتنويعات واحتمالات لا حصر لها» يقول الفنان فادي العساف، صاحب فكرة مشروع «وصل» والمشرف على تنفيذه، أثناء لقاء مع«القدس العربي»داخل مرسمه في حي المهاجرين. والعساف حائز دبلوم دراسات عليا من قسم الحفر والطباعة في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 2003.

سبعون ختماً سورياً قديماً

في منتصف تموز/ يوليو الفائت، انطلق «وصل» مع ستة فنانين وفنانات شباب من خريجي كلية الفنون الجميلة في دمشق، وعملوا معاً بشكل يومي في مرسم العساف، على توثيق أختام سورية قديمة، ومن ثم استخدامها في لوحات متنوعة الشكل والحجم والموضوع. وبمساعدة آخر ممارسي مهنة الطباعة على الأقمشة باستخدام الأختام في مدينة حماه، التي تشتهر بشكل خاص بهذه المهنة، وثّق العساف قرابة مئتي ختم. من ثم اختار الفنانون، ذوي الاختصاصات المختلفة من حفر وتصوير ونحت وديكور، سبعين منها ليعيدوا حفرها بأنفسهم، وبعدها بدأت مرحلة توظيفها. «كل ما أردته من المشاركين أن يعتبروا أنفسهم في مرسمهم الخاص، وأمامهم لوحة فارغة وريشة ومجموعة من الألوان، وبجانبها أختام متنوعة، وطرحت عليهم سؤالاً: «لو لم تكن الريشة متوفرة لديكم، كيف يمكنكم استعمال الختم عوضاً عنها؟ أين يمكن أن يمر الختم في لوحتكم ذاتها التي تفكرون برسمها عادة؟ إذن هو التحدي بإدخال عنصر جديد، مع المحافظة على عناصرهم المعتادة ذاتها، وخصوصية كل واحد منهم على حدة» يقول العساف. بهذا، خرجت المحصلة النهائية للورشة على شكل عشرات اللوحات، لكل منها روح مختلفة، مع استخدام الفنانين لألوان وتقنيات وإيقاعات متنوعة تعكس هويتهم الخاصة. وأيضاً، تكمن أهمية التجربة التي يحرص العساف على تسميتها بـ»المختبر» في النقاشات التي دارت طوال تلك الأسابيع، ليس فقط بين المشاركين، وإنما مع مجموعة كبيرة من الفنانين والمهتمين بالشأن الثقافي، إذ كان المكان مفتوحاً للزيارات اليومية، ومرحّباً بأي حوارات فنية تغني التجربة. ونتج عن ذلك استضافة المشروع أربعة فنانين جدد كضيوف شرف أنجز كل منهم لوحة خاصة به، مع الأختام أيضاً.

حلول لا نهائية

قدمت الأختام للفنانين والفنانات المشاركين، كما تحدثوا لـ»القدس العربي» مجموعة واسعة من الاحتمالات الجديدة للعمل على اللوحة التشكيلية المعتادة، ما فتح أمامهم آفاقاً ما كانت في بالهم من قبل، خاصة أنهم يستخدمون هذه التقنية لأول مرة.
تقول الفنانة دانا السلامة، التي اختارت ختم «السمكة» للوحاتها، ومنها لوحة تمثل «العشاء الأخير»: «لم تكن عملية سهلة. عادة، أحرّك ريشتي كما أريد، وفجأة صار لديّ عنصر جديد يجب أن يسير مع لوحتي. كان تحدياً صعباً، وفي الوقت ذاته الفكرة قابلة للتطور وبأشكال كثيرة، فنحن هنا أمام معضلة واحدة نريد العمل عليها وفي الوقت ذاته هناك حلول كثيرة لها». في شكل مشابه تشير شهد الرز، التي ذهبت نحو ختم يظهر فيه حيوان بري، إلى أنها كانت تعمل ومنذ زمن، على موضوع الحرائق في سوريا، وجغرافية المنطقة الشرقية والمساحات المفتوحة فيها، فجاء هذا الختم قريباً جداً من الحكاية التي تطرحها، وأثناء العمل تبين لها أن التجربة ما هي إلا مجال مفتوح فيه الكثير من الخيارات، فكانت النتيجة لوحات بأحجام متنوعة، وألوان نارية، يبدو فيها الحيوان البري بقياسات ووضعيات متباينة. تضيف الفنانة، أن ما لفت نظرها في هذا الختم ودفعها لاختياره، كونه قديماً جداً وبأطراف متآكلة ومعالم غير واضحة، فأعادت حفره وفق ما تمكنت من ملاحقة الخطوط المتبقية فيه، شاعرة بأن تآكله هذا له علاقة مباشرة بالزمان والمكان اللذين تعيش فيهما اليوم. وبذلك، لم يكن الختم يعطيها الطبعة نفسها في كل مكان، ما جعل العمل أشبه بمفاجآت، ومعضلات فنية عليها كل مرة أن تحلها بطريقة مختلفة، ما أضفى عليه المزيد من المتعة.

أفق غير متوقع

هذه الاحتمالات المتنوعة دفعت الفنان مهند السريع للبدء مع انطلاق الورشة بلوحة حملت طابعاً هندسياً، ومن ثم العودة لتوظيف الختم مع المواد التي يستخدمها عادة، ومنها الرماد والرمل والزنك، وضمن الموضوعات الأقرب إليه، وهي موديلات الأجساد. ويقول لـ»القدس العربي»: «بداية كان الأمر صعباً، وشعرت بأن الختم كان مقحماً وسبب لي إرباكاً. بعدها سألت نفسي: لمَ لا أجعله جزءاً من الجسد؟ هنا، أعطاني الختم تقنية وملمساً جديدين، وعرفت بأنه يمكن أن يفتح لي أفقاً غير مألوف». الأفق الجديد تعدّى ذلك ليصل نحو استخدام ألوان جديدة، كما حدث مع مجدولين العلي، التي اعتادت منذ سنوات العمل على موضوع الغراب، بمجموعة لونية داكنة يغلب عليها الرمادي والأسود والأبيض، لكن رويداً رويداً خلال ورشة «وصل» بدأ الغراب وألوانه بالانسحاب من المشهد، ليطغى عليه الختم بشكل واضح، مع خيارات واسعة من الألوان التي تسمح بإظهار الأختام التي استخدمتها الفنانة، وتسليط الضوء على كل واحد منها وإعطائه حقه. ويظهر هذا الانتقال واضحاً في مجموعة اللوحات النهائية للفنانة، والتي تبدأ من لوحة تستخدم أختاماً منوّعة ضمن مربعات صغيرة رمادية، وتنتهي بواحدة أكبر تمتزج فيها طبعات الأختام الملونة دون حدود بينها.

أما تولين الرضائي، فقد اعتادت على العكس استخدام الألوان في أعمالها التي تتحدث عن الحرب والدم، لكن في مشروع «وصل» ومع اختيارها لأختام تمثل شكل العصفور والديك، سعت الفنانة للبحث عن تقنيات أخرى، فاستخدمت الأسود مع ألوان ترابية وباهتة، وحافظت على موضوعتها وخاماتها المعتادة ومنها الكرتون والورق، لكن وظفتها بطريقة أوضح كما تشرح: «الختم يعطي إحساساً قوياً جداً، وبالتالي كان لا بد للعناصر الأخرى في لوحتي من أن ترد عليه بالقوة ذاتها. خدمتني الأختام بطريقة رائعة وفتحت لي باباً لم أكن أعرفه من قبل».

ما هو أبعد من التراث

أثارت الأختام التي عمل مشروع «وصل» على توثيقها، الكثير من الأسئلة في ذهن الفنان المشارك محمود خليل، ويتحدث عن هذه النقطة بالقول: «بعد العمل المستمر خلال الأسابيع الفائتة، صارت لديّ علاقة مباشرة مع كل ختم. صرت أفكر: من أين جاء؟ ما هو أساسه؟ ما المقصود منه؟ ثم صرت أفكر بالنتيجة التي يمكن أن نحصل عليها في حال تكراره، والإجابة هي ما تتضمنه معظم لوحاتي الناتجة عن المشروع». يشير خليل إلى أن الختم، مع كونه عنصراً قوياً، واستخدامه عملية حرفية يدوية مهمة للغاية، إلا أن فكرته مبهمة عند غالبية الأشخاص: «كثيراً ما نشتري قطعة قماشية مزخرفة بنقوش الأختام، دون أن نعرف كيف صُنعت، وبأنها جزء مهم من تاريخنا» يقول ويضيف أن استغلال الختم ضمن اللوحات هو فكرة يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للتعريف بهذا الجزء من التراث والحفاظ عليه.
«آمل أننا من خلال هذه التجربة تمكّنا من تسليط الضوء على الختم السوري، وهو بطل حكايتنا اليوم، وإعادة الاعتبار لأختام كانت نوعاً ما قيد النسيان» يختتم فادي العساف حديثه، مشيرا إلى تمكّنهم من الوصول لأختام قديمة جداً، بعضها كان متآكلاً ومهترئاً بفعل الزمن، وإعادة حفرها وبالتالي توثيقها، ويؤكد أن التجربة تنبّه إلى إمكانية استخدام الأختام بطريقة مختلفة عن المعتاد، فهي ليست فقط للقطع القماشية المنزلية، وإنما يمكن أن تدخل للوحات، والكروت الصغيرة، والكثير من المنتجات الفنية الأخرى.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    اضع بعض الحروف أرق من شعرة الهدهد تحت ظل هد ا الخبر الفني التشكيلي قال لي صاحبي كيف يكون حالك ادا وقفت أمام التشكيل وجها لوجه قلت له أنحني أحتراما لمكانته ولما لا أنه المنافس القوي بين قوسين لشعر فاكلاهما يفاجئ عشاقه ومن الجنسيين باالمحير وباالمدهش وقلنا بأن التشكيل بحر لاشاطئ له غزى كل شيئ فاتنوع ولازال وسيظل دون توقف قد يعطي لشيء المتميز أكثر من لون .

إشترك في قائمتنا البريدية