هل هناك سيميائيات ما بعد كلاسيكية؟

حجم الخط
0

عرفت السرديات في مسيرتها الانتقال من فرنسا، موطنها الأصلي لتصبح عالمية، ويعمل على تطويرها باحثون تحت مسمى «السرديات ما بعد الكلاسيكية» منذ أواخر القرن الماضي، وهي الآن تحتل مكانة مهمة في الدراسات السردية المعاصرة، بينما السيميائيات بقيت أهم منجزاتها حبيسة فرنسا، رغم كونها سبقت السرديات إلى العالمية منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، حيث عقد مؤتمر عالمي سنة 1969، ساهم فيه باحثون من مختلف أرجاء العالم. فلماذا لم تتحول السيميائيات البنيوية إلى «كلاسيكية» على غرار السرديات، لتفسح المجال لبروز «سيميائيات ما بعد كلاسيكية» ولو على سبيل الاستعمال، أسوة بما يجري أكاديميا حين نتحدث عن تطور مشاريع، أو نظريات.
ظهرت السيميائيات في المرحلة البنيوية مثل السرديات، وسارتا جنبا إلى جنب، كفرسي رهان، تستقطب كل منهما باحثين وأتباعا، وتسعيان معا إلى فرض وجودهما نظريا وتطبيقيا، لاسيما وأنهما معا تنبنيان على خلفية لسانية، ولدى كل منهما طموح إلى أن تتحولا إلى علم من العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة. كان الاختلاف واضحا بينهما، وقد أتيح لكل منهما عالمان من طراز رفيع: غريماس المعجمي واللساني، وجنيت البوطيقي والبلاغي. صاغ كل منهما مشروعا علميا مختلفا عن الآخر، وظل في خلد كل منهما أن المشروع قابل للتطور، والتوسع مع الزمن.
عندما كنت أشتغل بالسرديات ما بعد الكلاسيكية في الأدبيات الأنكلو أمريكية، كنت أفكر في السيميائيات، وكنت أترصد العثور عن أحاديث تدور حول «سيميائيات ما بعد كلاسيكية». وكنت من خلال متابعاتي للسيميائيات منذ بدايات الثمانينيات أرى أنه لا يمكن أن نتحدث عن سيميائيات ما بعد كلاسيكية، لسبب بسيط، هو أن السيميائيات منذ تأسيسها كانت تقدم نفسها «علما للعلامات، سواء كانت لغوية أو غير لغوية». وأمام تعدد المشتغلين بالسيميائيات، والمدارس، والنظريات والخلفيات، توزعت أعمال السيميائيين وتنوعت العلامات التي اهتمت بها، فكان أن برزت إلى جانب السيميائيات الأدبية التي كانت هي الأصل، سيميائيات متعددة بتعدد العلامات اللغوية والصورية. كما أن بروز سيميائيات بورس بخلفيتها الفلسفية جعلت السيميائيات مستعملة في الأصل بالجمع، عكس السرديات الجنيتية التي ظلت موحدة منذ البداية.
لقد تنوعت النظريات السيميائية، وفرضت نفسها عالميا.

لكن داخل فرنسا ظلت بوجه عام تنطلق من المسار التوليدي الذي أقامه غريماس، وكل السيميائيين يتعاملون معه بكيفيات واجتهادات مختلفة، بحيث صار بالإمكان الحديث عن أي سيميائيات مقرونة بباحث محدد، وبذلك كانت الإنجازات السيميائية تتطور باستمرار. دفع هذا الوضع في الآونة الأخيرة إلى إعادة النظر في المنجزات والتصورات المختلفة، وجاء التفكير في إعداد ملف حول موضوع «أشكال النظريات السيميائية» بإشراف كل من جاك فونتاني، وفرانسيسكو مارسياني، ونشر في مجلة «أعمال سيميائية» في العدد 130، سنة 2024. ولعله ليس من غريب الصدف أن يجتمع المشرفان، وكل منهما نقيض الآخر في الاشتغال بالسيميائيات. بيَّن المشرفان الأهداف الرئيسية للملف بالقول: «إن التحدي الذي اتخذناه في مشروعنا كان صعبا. يتعلق الأمر بتسليط الضوء، في حقل ما يسمى بالسيميائيات «البنيوية» ليس فقط على الاختيارات النظرية المختلفة والبديلة في كثير من الأحيان، لكن أيضا، وفي بعض الحالات، وهو ما نتوقع، على ما هو ضمني نظريا، أو بالأحرى ما اتصل بالخطط والآفاق المرجعية، التي لا تسترشد دائما بالاختيارات الصريحة، وهي آفاق تؤدي في الواقع إلى ممارسات نظرية ومنهجية متباينة ضمن الإطار المرجعي العام نفسه».
هكذا ولدت فكرة دعوة السيميائيين لمناقشة ما يوِحِّد، وفي الوقت نفسهما يَفصِل بين التوجهات السيميائية المختلفة والعديدة التي «ظهرت على مدى العقود الثلاثة الماضية، منذ وفاة غريماس، وحتى من قبل، بناءً على بعض الاقتراحات من الماضي». يميز الباحثون بين السيميائيات المسماة «المعيار» أو القياسية، واحتمالات تطويرها، أو تجاوزها. لقد اعتبرت السيميائيات المعيارية تكريسا لنظرية مرجعية تنبني على سيميائيات الخطاب، «ونظرا لأن السيميائيين الذين اشتغلوا بالخطاب تعاملوا مع أشياء غريبة ومزعجة، مثل: الأهواء، والممارسة التلفظية، والتوتر، وغير ذلك، فقد أصبح هذا الانتقال محفوفا بالمخاطر، وبدأ يفرض علينا السؤال التالي: هل يجب أن نترك السيميائيات القياسية؟ هل كان من الضروري الاكتفاء بها؟ وكيف يمكن التقدم في سيميائيات الخطاب دون إثارة البلقنة النظرية؟ وما هي السيميائيات القياسية أو المعيارية؟». لقد تطورت السيميائيات عن الشكل الذي اتخذته بنيويا وتوليديا من خلال «صياغة البنيات الأساسية للتمفصل الدلالي والسردية، خلال السبعينيات، التي قدمت نفسها في شكل دقيق ومستقر، المسار التوليدي، بمستوياته المنظمة وفقا لتقدم منظم، على نطاق هرمي يتراوح بين المستوى الأكثر تجريدا والمستوى الأكثر تحديدا لتمفصل الدلالة». وقد عزز نجاح النموذج التوليدي للمعنى، الذي اقترحه تشومسكي في منتصف الستينيات، مبدأ معرفيا عاما جدا يتمثل في تقديم وصف الأشياء المعرفية، في العلوم الإنسانية، إلى تمثيل مجرد ورسمي.
شارك في هذا الملف سيميائيون من جنسيات متعددة، ومن خلال عدة محاور تم التوقف على المنجزات المختلفة وإمكانات التطوير، وبرزت الفروقات المثمرة بين المشتغلين الذين أسهموا في تطوير «النظريات» السيميائية.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية