سيميائيات الفساد

يعتقد عالم العلامات (السيميائيات) الفرنسي غرايماس أن العلامات لا يمكن أن تكون مفيدة في ذاتها، بل لا تكون كذلك إلا إذا بحثنا عما يكون مخفيا تحتها فتحت العلامات كما يقول «تختفي لعبة الدلالات، ويقود التحليل المعمق إلى هدم هيكل العلامة وتحطيمه كي تظهر عوالم الدلالة». نحتاج فرعا من السيميولوجيا وهي السيميولوجيا الاجتماعية كي نحلل ظواهر اجتماعية مهمة من نوع الفساد.
تركز السيميولوجيا الاجتماعية على الطابع الاجتماعي للعلامات، يقول تيو فان لوان Theo Van Leeuwen إن الانتقال من السيميولوجيا العامة إلى السيميولوجيا الاجتماعية يكون بالانتقال من العلامة إلى طريقة استخدام الناس للموارد السيميائية لإنتاج المواضيع والأحداث التواصلية وتفسيرها، في سياق مواقف وممارسات اجتماعية محددة». ويرى أن السيميولوجيا الاجتماعية تركز على الكيفية التي بها ينظم الناس استخدام الموارد السيمائية، في سياق ممارسات ومؤسسات اجتماعية محددة، وبطرق مختلفة وبدرجات متباينة. مصطلح «الموارد السيميائية» يعني به لوان العلامات المستخدمة في الدلالة على شيء، سواء أكانت تلك العلامات كلاما أم صورا أم إيماءات أم غيرها من التعابير، أي هي علامات تنتج فيسيولوجيا أو آليا. لهذه الموارد الســـيميائية طاقات سيميائية، وهي دلالاتها التي يمكن أن تفيدها، وما من عمل سيميائي إلا وهو رابط بالضرورة بين الموارد والقدرات السيميائية، أو بين العبارات السيميائية مهما كان نوعها والدلالات المرتبطة بها.
سنهتم في تحليل الفساد سيميائيا بالأمثال التي يقول عنها برتران رسال: المثل هو فكر فرد وحكمة الجميع. وسنهتم بالأمثال والأقوال السائرة باعتبارها علامات قولية لها قوة إقناعية وحجاجية، ولذلك سنهتم بها من جانبها التداولي (البراغماتي) الذي فيه يركز النظر على العلامات في علاقتها بمستعملها ومن يؤولها، باعتبارها عملا قوليا له سياقات استعمال معلومة، هي التي تضمن فعله بما هو عمل لغوي. الأمثال بما هي أعمال لغوية لا تفيد في الغالب مضمونها الحرفي، ولهذا عادة ما تكون أعمالا لغوية غير مباشرة. بهذا تعد الأمثال علامات خاصة، فهي وإن كانت أقوالا فإنها تنسج نظاما علاميا ذا طبقات: طبقة الدلالة الأولى، وهي الدلالة الحرفية التي تتحول بدورها إلى دال على دلالة غير حرفية أو رمزية. الأمثال في الأقوال أي في المسموعات كالصور في المرئيات، لكنها ليست كالصور الإيقونات التي تربطها بما تمثله علاقة تشابه، بل هي من الصور الرموز التي ترتبط بما تمثله بعلاقة اعتباطية، أو غير مبررة. هي كصورة الحمامة التي لا تدل على الحمامة، بل تدل على رمزها وهو السلام مثلا.

إن معنى الأمثال ينتمي كما يقول جان بيار أسكانزي إلى كون الموضوع الرمزي ذاته. ونحن سنعتبر الفساد بما هو استغلال سلطة لتحقيق مصلحة «الموضوع الرمزي» للمثل.

إن معنى الأمثال ينتمي كما يقول جان بيار أسكانزي Jean- Pierre Esquanzi إلى كون الموضوع الرمزي ذاته. ونحن سنعتبر الفساد بما هو استغلال سلطة لتحقيق مصلحة «الموضوع الرمزي» للمثل. ليس جديدا أن يتناول الفساد علاميا، ففي دراسة بالفرنسية تعود إلى سنة 2001 عنوانها «السيميولوجيا الشعبية للفساد»، بين كاتبا المقال جيورجيو بلوندو وأوليفياي دي صاردان أن الفساد سلوك يومي واجتماعي؛ وانطلقا من أقوال سجلاها في ثلاثة بلدان افريقية، هي البنين ونيجر والسنغال، رسما المشهد الرمزي والأيديولوجي والحجاجي للفساد في هذه البلدان الثلاثة المدروسة. وفي دراسة حديثة بالإنكليزية نشرت منذ سنة تقريبا (أغسطس/آب 2018) وعنوانها «سيميائيات الفساد: التشابكات الأيديولوجية في السياسيات المكسيكية»، بين كتاب المقال وهم بوب هودج وإيفا صالغادو أندرادي وإفريدة فيلانسينو زارازا دور تشعب التناقضات في تحليل الدلالات الاجتماعية الاستراتيجية للفساد.
الجديد في هذا المقال أننا سنعتمد الأمثال «علامات» أو «موارد سيميائية» أساسية للفساد، ونحن سنعتمد عينات من الأمثال والأقوال الرائجة التونسية، لنبين كيف أنها تعمل سيميائيا في هذا الموضوع الرمزي. من بين الأمثال التونسية مثل يقول: «اللي يسرق يغلب اللي يحاحي»: (من يسرق يغلب الصائح المستنفر). هذا المثل لا قيمة له سيميائيا من غير تحديد المؤول والسياق الذي يطرح في القول، بما هو عمل يهدف إلى التأثير أو الإقناع بشيء حول الفساد. لنقل إن السياق المحدد هو تبرير صعوبة مكافحة الفساد، وأن من يستعمل المثل هو منظمة أو شرطة تسهر على مكافحة الفساد، وتجد صعوبة في ذلك. الفساد من وجهة نظر مستعمل المثل، محكوم عليه في إطار عام هو السرقة، والفاسد هو السارق وهذا تبسيط للمسألة بما يسقط منها أركانا كثيرة منها، ركن التواطؤ على الفساد، الذي ليس موجودا في عملية السرقة، ومنها خيانة المؤتمن الذي يوجد في كل فساد ولا يوجد في كل سرقة. ومن جهة أخرى فإن استعارة صورة المستنفر لكل مراقب للفساد لا يستقيم ههنا لأن مكافحة الفساد جهاز كامل فعال بالردع والعقاب، وليس كصاحب ملك لا حول له إلا الصوت، ولا قوة له إلا الصياح. إن نحن افترضنا سياقا آخر ومؤولا آخر، اختلف التدلال، فعلى سبيل المثال لنفترض أن السياق يكون الترغيب في الفساد والمؤول هو شخص راغب فيه، أو دافع عليه، في هذا السياق الاستعمال سيكون الرمز مفككا في شيفرة الفاسد المنتصر والرادع المنهزم. نحن في سياق التحريض على الفساد بدعوى انهزام من يسهر على ردعه. السياقان الأول والثاني ليسا متضاربين كما يعتقد، لأنهما يوكلان الصراع مبتدأ ومنتهى للسارق، لا إلى الشرطي أو القائم على الحق العام. الدولة التي هي صاحبة المال العام المسروق لا تحضر في المخيال الشعبي، إلا على أنها ملك مشاع له حرس إن نام الحرس يمكن أن نأخذ شيئا مما تحت عينيه.
مثل تونسي آخر فيه أمر على وجه النصيحة للخلاص: إطعم الفم تستحي العين: (إطعم الفم ستصاب العين بالحياء) استعارية هذا المثل النصيحة أنه يجعل الحواس قابلة للفساد: الفم الذي يأكل سيوصي العين بألا تراقب، أو أن تتغاضى عن الحقيقة. يرتبط هذا المثل بمفهوم في الفساد يسمى «إسكات الفم ويعني أن الأعوان العموميين يغمضون أعينهم على هذا الفساد أو ذاك وذلك في مقابل مكافأة». وقد يستعمل لهذا المعنى مصطلح آخر هو «الري» ويعني أن يعطي شخص مالا في مقابل حصوله على محاباة أو خدمة. هذا المثل يشتغل على أنه شعار بمعنى أن المثل يرفع حلا لمن أراد ممن رغب في أيسر السبل، أن يستفيد من الفاسد، وهو شعار مستمد من طول تجربة ومن عرك للعادة البشرية عموما، وبالتالي لصنف منهم هم الموظفون القابلون لإبرام الصفقات المشبوهة.
إن الأمثال التي قدمناها ههنا على أنها علامات ليست أمثالا يستخدمها الفاسد في سياق تبرير الفساد، ولا يستخدمها المنتفع بفساد الفاسد، بل قد لا يفكر فيها وقد لا يعلمها إنما اعتمدناها على أنها نصوص جاهزة مقبلة من ثقافة قديمة يمكن أن تكون لا وعي الإنسان في الحاضر أو خلفية ثقافية يسند إليها الفساد. الأمثال علامات ترمز لتجربة كما ترمز إشارات المرور لما سيكون عليه الطريق بعدها.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله الشراقعة:

    لا فض فوك

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري هذا عنوان يُمثّل عقلية القولبة (سيميائيات الفساد) ولكن هل الإنسان آلة/حيوان،

    لكي نستطيع التعامل معه من خلال القولبة أو الفوبيا،

    ولذلك بسبب هذه العقلية من وجهة نظري كان هناك مشكلة عند اليهودي/المسلم في أوربا (دولة الحداثة) في اسبانيا (الأندلس) ثم ألمانيا التي تسببت بالحرب العالمية الأولى والثانية،

    على أرض الواقع، مفهوم المواطن الصالح في أمريكا، يختلف عن مفهوم المواطن الصالح في أوربا، وواجبات الدولة تجاه المواطن في أميركا، تختلف عن واجبات دولة الحداثة الأوربية (الرعوية/الربوية)،

    ومن هذه الزاوية أفهم، لماذا كانت أمريكا خلف مشروع العولمة (بعد عام 1945) وكذلك خلف مشروع الإقتصاد الرقمي/الإليكتروني (بعد عام 1991)،

    حصار العراق بعد 2/8/1990، فرض على العراق، أن يبتكر مفهوم جديد للإقتصاد،

    بعيدا عن مفهوم (المال/النقد أولاً)، فخرج بمفهوم (النفط مقابل الغذاء) ومفهوم (البطاقة التموينية) للمحافظة على كرامة الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية في الدولة.

    الصين وبقية دول شرق آسيا، بعد 2008 وروسيا في عام 2019 طرح بوتين الانضمام إلى مفهوم (المقايضة في بناء مشاريع البنى التحتية) أو الانضمام إلى اقتصاد سوق الحرير،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    الذي تعلمته شركة هوا وي وخلفها الصين في تعاملها مع العراق، لنقل تقنية التواصل والاتصال والتدوين الإليكتروني، لتجاوز الحصار المفروض على العراق تقنياً،

    فقد ثبت على أرض الواقع، أن عقلية الحاجة أم الاختراع أفضل وأكثر عائد اقتصادي من عقلية/فلسفة الاختراع لأجل الاختراع.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية