هل ماتت آمال الإصلاح في السعودية؟

مهما بلغ حجم “العقاب الشديد” الذي لوح به الرئيس الأمريكي في مقابلة بثتها معه الأحد الماضي قناة “سي بي أس” بأنه سيسلطه على حلفائه السعوديين، في حال ما اذا تبين له ان الصحافي جمال خاشقجي قد قتل على أيديهم وداخل قنصليتهم بإسطنبول، وسواء وصل حد خلط الأوراق بالكامل داخل القصر الملكي في الرياض، وفق ما تقوله بعض التكهنات أم لا، فإن ما حصل في الثاني من الشهر الجاري سيظل فعلا همجيا لن يمحى من ذاكرة الشعوب وجريمة دولة أثبتت مرة بعد أخرى أنها ليست جديرة بأن تكون رائدة في منطقتها مثلما رغبت بأن تكون، وأنها على عكس ما توهم المتفائلون لم تملك القدرة والقابلية على أن تغير نفسها بنفسها وتنتقل من مرتبة الإقطاعية التي تتستر بالإسلام الى مصاف الدول التي تحترم بالفعل تعاليم الدين وتصون النفوس التي حرّم الله المساس بها بغير حق من كل تعد وانتهاك.

وبغض النظر ما إذا وجه، في وقت لاحق، أصبع الاتهام مباشرة إلى ولي العهد السعودي بالوقوف وراء عملية قتل خاشقجي والتنكيل به بالشكل البشع الذي كشفته التسريبات؟ أم تمت لفلفة الموضوع والتضحية باكباش فداء في الصف الادنى، فإنه لن يكون باستطاعة أحد أن يجزم بأن الامور ستظل على حالها، وأن النظام السعودي سيحافظ، مع ما قد يبقى له من دعم غربي، على ثباته واستقراره ولن يتأثر بشكل ملحوظ بالانعكاسات والتداعيات المرتقبة لقضية ستنضاف حتما لسجله المريع في القمع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان داخل المملكة وخارجها.

والسؤال الأهم الذي سيطرحه ذلك الملف الذي صار دوليا بامتياز، لن يتعلق فقط بالمستقبل السياسي لولي العهد، وما إذا كان سيتمكن من تحقيق طموحه في الوصول إلى أعلى هرم السلطة ببلاده، وخلافة والده أم لا، بل بقاء الآمال في تحقق إصلاح جدي وفعلي في المملكة حية، أو ضمورها وانحسارها التام وربما نهايتها الحتمية. ولعل المفارقة الصارخة التي تستدعي مثل ذلك التساؤل الملح، تكمن في ملابسات الجريمة نفسها، فلم يعرف عن الضحية الجديدة، أي جمال خاشقجي أنه كان من المعارضين الشرسين للنظام، أو من دعاة الثورة أو الانقلابات، بل كانت تعد على العكس من ذلك من بين الشخصيات التي توصف بالمعتدلة، رغم بعض الانتقادات والمواقف التي كانت تصدر بين الحين والآخر عنه بأسلوب محترم وهادئ، لا ينتقص أو يمس في شيء من شرعية العائلة الحاكمة، ومن توجهاتها وسياساتها العامة الداخلية والخارجية، ولأجل ذلك فقد كانت طريقة التخلص منه هي التي لفتت الأنظار أكثر من فكرة تحييد الشخص والتخلص المادي أو الرمزي منه في حد ذاتها. اذ لم يكن احد يتخيل ان الكاتب الاعزل والمسالم الذي دخل مقر القنصلية برجليه كان سيلاقي مصيرا بمثل تلك القسوة والفظاعة داخل مقر دبلوماسي، يفترض أن القائمين عليه يراعون لا مكارم الاخلاق العربية الاسلامية، بل فقط حدا أدنى من المشاعر الآدمية.

الضغوط الخارجية التي يفترض أن تتكثف الآن على النظام السعودي ستكون الفرصة العملية لإحداث أي إصلاح أو تغيير محتمل

صحيح ان مشهد ليلة “السكاكين الطويلة” كان ما يزال ماثلا في الأذهان، وكانت طريقة اعتقال ذلك العدد الهائل من الأمراء والوزراء والمسؤوليين السامين في فندق الريتز، ثم طريقة إخراجهم منه بعد إتمام ما وصف بالتسويات المجهولة مع النظام، مثيرة لسيل من المخاوف والتأويلات، جعلت كثيرين لا يستبعدون أن تصدر مستقبلا عن الامير الشاب أفعال عشوائية اخرى. لكن ما حدث تلك المرة فاق كل التوقعات، فلا الثروة ولا المنافسة على السلطة ولا التهديد المباشر أو الفعلي للنظام كان يمكن ان يبرر ارتكاب تلك الجريمة الفظيعة، لان خاشقجي لم يكن يمثل ببساطة أي تهديد فعلي، أو يملك من القوة أو النفود أو التأثير ما يجعله قادرا على مواجهة السلطة والوقوف في وجهها.

ولعلنا نتذكر جيدا كيف أنه حتى عندما كان ممنوعا من الكلام والكتابة في السعودية، ومن التغريد في حسابه الشخصي على تويتر، وهو ما كان يمثل العقاب الاقسى الذي يمكن ان يسلط على أي صحافي أو كاتب، لم يحاول التمرد على القرار أو التهجم من خارج البلاد على النظام، والتشهير بالتضييقات التي سلطت عليه. لقد قبل الأمر ولم يفكر في مغادرة المملكة إلا حين سمح له بالعودة مجددا إلى الكتابة مع بدء الازمة الخليجية، ليكون واحدا من الأبواق المناوئة لقطر، الأمر الذي رفضه بشدة حتى لا يتحول لشاهد زور يدعى الى حفل لا يجيد الرقص فيه، بحسب ما قاله في مقابلة مع قناة “الشرق”. ولكن ما لا ينبغي ان ينسى بالمقابل ايضا، هو ان كثيرين غير خاشقجي لم يكونوا يشكلون ايضا اي خطر أو تهديد للنظام، تعرضوا بدورهم للسجن والاعتقال، ومن دون أن توجه لهم أي تهم أو أن يقدموا لمحاكمات عادلة تضمن لهم حق الدفاع عن أنفسهم، ولا يزال مصير هؤلاء إلى الآن مجهولا، ويكفي ان نذكر، من بينهم، الشيخ سلمان العودة والداعية سفر الحوالي والشيخ عبد العزيز الفوزان وغيرهم من الدعاة والائمة والمفكرين والكتاب، وحتى من رجال الاقتصاد.

إن تلك الحالة الكارثية جعلت الكاتب السعودي المغدور يقول في مقابلة سابقة مع قناة “الجزيرة” وبكثير من المرارة إن ما أصبح لا يطاق في السعودية هو فقدان الحرية والشعور بالعجز، أن تقول رأيك حتى وأنت محب للدولة وللملك ولسمو ولي العهد، وجعلت السعوديين، رغم مظاهر الانفتاح الشكلية التي بدؤوا يرونها، يشعرون يوما بعد يوم بأنهم يعيشون فعلا في سجن كبير داخل مملكة الخوف، لكن ما الذي بوسعهم فعله الآن وهل مازال أمامهم مجال لإصلاح نظام دموي مترهل وفاسد؟ إنهم يعلمون جيدا أن النظام لا يطيق الكلمة الحرة ويضيق حتى بالحياد والصمت ولا يرضى بشيء آخر غير السمع والطاعة العمياء لأولياء الأمور، أي للحكام الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء. وهم يعرفون أيضا إنهم إن تجرأوا ورفعوا أصواتهم أو احتجوا أو حتى غردوا أو كتبوا على مواقع التواصل ولو حرفا واحدا خارج ما يطلبه محمد بن سلمان، فإن مصيرهم سيكون شبيها بمصير الشيوخ والعلماء المحتجزين. فهل يسلمون بالامر الواقع اذن ويحنون رؤوسهم لولي العهد ويعيشون أذلة في وطنهم؟

إن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن أمل الإصلاح من داخل السعودية قد انعدم تماما، ولم يعد بوسع النخب الفكرية أو السياسية ان تتصدى لقيادة التطورات، أو تأخذ أي خطوة أو مبادرة إصلاحية. كما أن فرضية الانقلاب العسكري التي يطرحها البعض لا تبدو هي الحل الأمثل والأصلح. ولعل الضغوط الخارجية التي يفترض ان تتكثف الآن على النظام ستكون هي الفرصة العملية لإحداث أي اصلاح أو تغيير محتمل. ولكن في حال ما اذا التقط أحد ما تلك الفرصة فسيدفع السعوديون على الارجح ثمنا باهظا لرفع الحماية الأمريكية عن بن سلمان، إن صدقت تهديدات ترامب بتسليط عقاب شديد عليه، وربما سيجدون أنفسهم في الاخير مخيرين بين وبائين قاتلين هما إما الكوليرا وإما الطاعون !

*كاتب وصحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    العقاب سيكون من شعبي نجد والحجاز! وقد ينفصل هذان الإقليمان عن بعضهما !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول محمد فوزي التريكي:

    تشهد السعودية انهيارات في النفوذ السياسي الخارجي في كل الأبعاد و الإتجاهات، وهزائم عسكرية وسياسية متلاحقة ابتداءاً من سوريا مروراً باليمن انتهاء بمواجهة إيران، وفشل الحصار الرباعي التي تقوده الرياض على قطر..
    -خسرت السعودية السنة في لبنان بعد عملية احتجاز الحرير
    -خسرت سنة العراق
    خسرت السعودية السودان
    خسرت السعودية ماليزيا التي سحبت جيشها من اليمن
    -حاربت جميع الحركات الإسلامية السنية وأولها الإخوان المسلمون
    وقفت مع جميع الثورات المضادة ضد الربيع العربي في تونس ليبيا مصر سوريا
    -فشلت في ادارة صراعها مع إيران
    لم تعد تحظى باحترام الشعوب المسلمة بسبب تهور سياسة ولي عهدها ماذا بقي لها إلاالتحالف مع الكيان الصهيوني وهذا ما تفعله اليوم أطيد سيكون لهذه السياسةتبعات إما بفوضى وحرب داخلية أو تقسيمها الى ثلاث مناطق حسب المخطط الصهيوني المرسوم لها

إشترك في قائمتنا البريدية