في استعارة الألوان للزمان

الألوان أعراض عالقة بما تلوّنه وقليلة هي الأشياء الملموسة التي لا نراها بلون فحتى الماء الذي يقال إنّه لا لون له يوسم بالضدّ أو يعرّف بالخلف أي بعدم اللون. وتحدّث اللسانيّون كثيرا عن أنّ اللغات الطبيعية تقسّم الألوان تقسيما ثقافيا اعتباطيّا ولذلك توجد في لغات من أسماء الألوان وتفريعاته ما لا توجد في لغات أخرى، وإن نحن ربطنا ذلك بالإدراك قلنا إنّ هناك من يرى تفاصيل في اللون ويسميّها ولا يراها آخرون فلا يسمّونها، فمعلوم أنّا لا نرى الألوان ذاتها بتفصيلاتها نفسها وتدقيقاتها عينها.
الثقافات لا تتعامل مع الألوان تعاملا محايدا، فمنّا من يحبّ لونا معيّنا ولا يحبّ آخر والثقافات تضفى على الألوان سمات رمزية، فبات اللون الأخضر لونا عالميا للبيئة حتى إنّ بعض مسدسات ضخ البنزين في محطاتها باتت تلوّن بالأخضر ترميزا لبنزين صديق للبيئة في مقابل آخر ضارّ أو ملوّث لها. ولسنا نريد الرجوع إلى رمزية الأحمر في الحبّ والثورة، ولا لرمزية الأبيض للسلام، والأسود للحزن وغيرها من الألوان التي لم تترسخ رمزيتها، إلاّ بعد جهد من التجريد والنشر، واكتساب ثقافة اللون طبيعتها التجريدية المحليّة أو الكونية.
ما يعنينا في هذا المقال هو الحديث عن الكيفية التي تصبح بها الألوان استعارات تقترض لفهم الكون، وسوف نصرف الاهتمام لضرب منها موجّه إلى التعبير عن الزمان. فمن المعلوم أنّ الزمان مفهوم مجرّد رغم تلبّسه بالبشر وبتفاصيل حياتهم، فهو ليس شيئا ملموسا أو محسوسا يرى ويلمس ويسمع أو يتذوق. صحيح أنّك ترى نور الفجر وظلّ الشمس المستطيل، أو المتصاغر فتدرك منه الوقت؛ لكنّك وأنت تقرن بين الضياء والظلال تحتاج أن تستدل بهما على الوقت حتى لكأنّك تتوهم أنّ إشراق الشمس زمان غروبها زمان في ذاته؛ والحقّ أنّهما من قرائن الزمان، وأنّ الزمان كائن أيضا في المناطق التي لا إشراق للشمس فيها يرى ولا غروب يلمح.
معضلة الزمان عند إدراكه يكمن في أنّه تمثّل ضروري جدّا، وقد نتمنّى لو أنّه كان محسوسا كي نلامسه ولو كان الزمان شيئا يُلمس ويحتوى، لكانت أعمارنا على سبيل المثال شيئا متحكما فيه تسجن أو تباد، فيحيا بعضنا بعد الآجال ويموت بعضنا بعدها، ولكنّ الأزمنة شيء من حركات الفلك التي لا تختل وتمضي مرتبة بنظام فلكي فريد التوازن. غير أنّ احتواء البشر للزمان كان متاحا للبشر بالاستعارة.
استعار الناس للزمان عناصر لإدراكه وتمثله واستيعابه إدراكيا، فأمكن لهم تكميمه وحصره في وحدات قابلة للعدّ، كالدقيقة والساعة والأسبوع والشهر والحول والقرن وهذه حسبة تحوي الزمان في أوعية كما تحوي العلب الماءَ. الزمان كالماء الذي يجري منسابا في نهر وهذه استعارة من استعاراته القديمة: صحيح أنّ الأنهار تحبس الماء بشكل من الأشكال فتتحكم في مسيرها، لكنّها لا يمكن أن تتحكم في حركتها وفي مضيّها ويمكن أن تركد المياه ولكن لا تركد الأزمنة. لقد أجرينا كما ترى ضربا من المقايسة بين الزمان والماء، فباستعارة شيء ملموس ومرئيّ هو الماء ومجراه فهمنا الزمان وسيرورته.
للزمان استعاراتٌ كثيرة وثرية أهمّها، أن تستعار له الألوان فهناك زمان أبيض وزمان أزرق وزمان أحمر وزمان أسود، هذا في الثقافة العربية لكن ليس فيها، على الأقلّ في ما أعلمه. وليس من الرجم بالغيب أن نجد زمانا برتقاليّا أو كستنائيّا، إلاّ في استثناءات شعريّة نادرة يراد منها مثلا أن يحاكي الزمان لونا في ثوب بديع تخلعه حبيبة، أو في عين لحبيب أو حبيبة.
يختار اللون جزءا من الزمان الذي يناسبه فالليلة مثلا غالبا ما تكون حمراء أو بيضاء. اللون الأحمر إذا نسب إلى الليلة عَنى حميميّتها وصخبها ومجونها، ولسنا ندري هل الضوء الأحمر الخافت المستعمل في أماكن اللهو الليلية، وفي الأماكن الحميميّة هو تنفيذ لهذه الاستعارة، التي تنسب الحمرة إلى الليالي التي يراد منها أن تزيل الحواجز بين الأرواح، ولا تقيم الحدود بين الأجساد أم أنّ نسبة اللون الأحمر إلى هذه الليالي جاء من هذا العادة الثقافية. لعلّ الحمرة المنسوبة إلى ليالي الشهوات والمجون عادة غير عربية فليل اللقاءات عند العرب كان خاليا من الألوان، إلاّ من تلك التي توحي بها الحبيبة وأبرزه وجهها الذي يذكر بالقمر. ومهما يكن من أمر فإنّ النور ولونه هو الذي يعطي استعاريّته لهذه الليالي التي تجمع بين الأحبة سرقة أو بذلا ومنحة.
اللون الأسود هو اللون الذي يمكن أن يستعار لليل أو للنهار وحتى للأيام والسنوات وهو لون تمرّدت فيه الاستعارات على حقيقتها، فالليل في أصله حالك أسود ولكنّ الاستعارات تعيد بناء السواد لتخرجه من الطبيعة وتكسبه دلالة العدم، عدم السعادة والفرح ووجود الكآبة والحزن. اللون الأسود الذي يضفى على الأيّام يجعلها بلا نور، ويجليها لنا وكأنّها غياهب إلى الأبد، لا خروج منها إلى ضياء. اللون جاء إذن من عدم الضياء فهو ليس في أصله لون على الحقيقة مثلما كان اللون الأحمر أيضا مكتسبا من مادة الضوء: الضوء وعدمه هو المعين الذي يقترض منه الإنسان ألوانه للأزمنة البيضاء والسوداء والحمراء. لكنّ لغتنا ولهجاتنا وهي تسند السواد إلى الزمان تقصره على الليلة واليوم والسنة، ولكنّها لا تستعمله للأسابيع أو للقرون فلا يقال مثلا أسبوع أسود، ولا قرن أسود كما يقال سنة سوداء. الأسبوع ليس وحدة قياس شعبيّة عند الناس، هي وحدة قياس إدارية، لذلك لا يراها الإنسان العادي الذي لا يرتبط بعمل، والقرون أيضا شيء ليس على ملك الإنسان الفرد لذلك لا يسند إليهما هذا اللون لأنّه لا يراهما أو لا يرى نفسه فيهما.
ومثلما توجد ليلة سوداء وسنة سوداء، توجد ليلة بيضاء وسنة بيضاء وهذا استعمال مستحدث لم تعرفه العربية، ارتبط في الغالب بمرور الوقت من غير أن يحدث فيه نشاط معلوم. فالليلة البيضاء هي ليلة بلا نوم، والليلة التي تقضيها نائما هي ليلة بلا لون، أي لم يستعر لها الناس لونا لأنّها ليلة عادية أو طرازيّة، فمن العادي أن ننام ليلا ولكنّ ليلة بلا نوم هي شيء مفارق لعادتنا، ولذلك أسند إليها البياض من حضور النور فيها، أو كحضوره فيها فهي ليلة في ثوب نهار وحلكة في ثوب ضياء.
لكنّ اللون الأزرق يستعار لليوم والليلة والسنة للدلالة على كثرة الأحداث الضاجّة والمفزع،ة وخروج الحياة والحركة فيها عن مألوفها وهدوئها. الزمان الأزرق هو زمان حدثت فيه أفعال تتجاوز توقّعاتِنا وهدوءَنا، والفرق بين الليلة السوداء والزرقاء يكمن في أنّ الأولى استعارة شرعيّة ولكنّ الثانية يمال فيها إلى هذا اللون لأنّه مبهم على من تبيّنه فالسواد هو البلاء الذي لا فرج منه، والزرقة هي المرحلة من الشدّة التي تتهيّأ للدخول إلى ما يكون أكثر منها شدّة، فما من أزرق إلاّ وهو في هذا التصوّر متحول إلى داكن أسود لولا غوث القدر.
لقد استعارت الثقافة العربية شأنها شأن غيرها من الثقافات للأزمنة ألوانا، خلعت عليها شعورها بالأحداث والأعمال والحالات التي تمرّ بها، فالأرق زمان له لون والحزن زمان له لون آخر، ولهياج الأحداث وبلبلتها لون ثالث، والمهمّ في هذا جميعا أنّ المرء لا يلوّن الأحداث في الغالب إلاّ ليشكو باللون من شيء حُرِمه أو من مأساة ألمّت به. إلاّ أنّه حين يتحدّث عن ليلة حمراء يكون كمن يستعيد لنفسه مجدا فرسانه اللذة، وأسلحته بهجة الروح، حتى إن كان لديه شعور أنّ كلّ شيء فيه عابر.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية