من أنباء الحرب على الغرب

«الجنوب الشامل» هو التسمية الجديدة التي باتت تطلق، في شبه اتفاق أكاديمي وإعلامي، على ما كان يعرف بالعالم الثالث، أي المنطقة الأفرو-آسيوية مضافا إليها معظم أمريكا اللاتينية. وبما أن تكتل البريكس يعدّ تعبيرا سياسيا عن هذا الفاعل الجديد في العلاقات الدولية، فالتعريف الأدق للجنوب الشامل هو أنه العالم الثالث مضافا إليه روسيا. وما هو الجامع بين هذا الطيف الواسع من البلدان؟ الجواب الذي يكاد ينعقد عليه الإجماع في واشنطن ولندن وباريس أن الجامع بين هذه العوالم الحضارية المتباعدة المتنوعة إنما هو كراهيتها للعالم الأوروبي-الأمريكي. وأقوى دليل على هذه الكراهية هي الحرب التي يشنها الجنوب على الغرب. وإذا كنا لم نسمع بهذه الحرب فلا لوم علينا، لأنه يبدو أن الجنوب شنها بدون سابق إعلان. عدوان غير مسبوق بكلام أو مَلام، عدوان مجاني لا دافع له إلا الحقد الأعمى.
هكذا صارت سردية الكراهية، كراهية الجنوب للشمال (الذي يضم إسرائيل طبعا) تطل برأسها في كل مكان. من ذلك أن أسبوعية لوبوان خرجت بعد 7 أكتوبر بأيام بملف خاص بعنوان «كراهية اليهود: هجمات في إسرائيل، تهديدات في فرنسا» ركزت فيه على ما سمته استراتيجية الاستئصال التي تنتهجها إيران وحماس، وعلى انتشار اللاسامية التي أصبحت تعبر عن نفسها بلا عقد (أي بلا حياء) وعلى تحالف اليساريين مع اللاساميين إما بسبب التواطؤ الإيديولوجي أو بدافع المكر الانتخابي. وفي عدد الأسبوع التالي أفردت المجلة الفرنسية ملف الغلاف لما يسميه الغربيون «الإسلاموية» أي الحركات الجهادية، وسارت فيه أيضا على عادة الإعلام الغربي في تفسير كثير من ردود الفعل العربية والإسلامية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، والإفريقية ضد فرنسا، بأنها تعبير عن الحقد والكراهية. أي عن مرض نفسي متأصل في قلوب الكارهين. مرض لا علاقة له بالواقع السياسي والاقتصادي. مرض لا تسبقه مقدمات موضوعية. مرض حادث بذاته. وقد كان الأمريكيون سباقين بعد 11 سبتمبر 2001 إلى اعتماد هذا التحليل النفساني الذي يطغى عليه التسرع والسطحية والذي كثُرَ ترداده والاعتماد عليه حتى صار الجميع مطمئنا إليه. كما أن إدراج أحداث 7 أكتوبر في إطار أعمال الحركات الجهادية هو مما جرت عليه العادة، أي عادة الخلط بين حركات التحرر الوطني التي تكافح الاحتلال داخل بلادها، وبين الجماعات التكفيرية الإرهابية التي تستهدف الإنسانية، والمسلمين قبل سواهم، في كل مكان في العالم.

الأساس الأخلاقي الجديد للنظام العالمي ينبغي أن يكون مناهضة الاستعمار والأبارتهايد لأن الاستعمار والعنصرية هما أكبر الجرائم ضد الإنسانية

وبالطبع كان أول «الخبراء» المستشارين في ملف الجهادية هو الباحث الشهير جيل كيبيل. وبما أن تشخيص موضوع الحقد والكراهية ضد الغرب، باعتباره عاملا تفسيريا لكثير من الحركات والأفعال في العالم العربي والإسلامي، هو قاسم مشترك بين كثير من الباحثين والإعلاميين الغربيين، فقد تزامن صدور كتاب جديد لكيبيل هذه الأيام بعنوان «الهولوكوستات (هكذا بالجمع): إسرائيل، غزة والحرب على الغرب» مع صدور كتاب جديد للباحث جان-فرانسوا كولوزيمو بعنوان «الغرب عدوّا عالميا رقم 1». ومؤدى الكتاب الثاني أن معظم العالم قرر (هكذا بالاختيار المحض) أن يتخذ الغرب عدوّا له، وهذا هو سبب ما يتعرض له الغربيون الآن من مخاطر وتهديدات.
ومن العجائب أن العملية الإرهابية التي استهدفت موسكو يوم 22 مارس قد أقحمت هي أيضا في إطار سردية الكراهية، وأن كيبيل استطاع أن يجد صلة إيديولوجية بين أبي مصعب السوري والفيلسوف جيل ديلوز! ويرى كيبيل أن دعوى الإبادة التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل إنما تمثل طيا نهائيا للمرحلة التاريخية التي سادها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إجماع على وجوب عدم تكرر جريمة الهولوكوست ووجوب أن تكون لليهود دولة تقيهم كل خطر. ذلك أن الجنوب الشامل لا يأخذ الإجماع الغربي على أن الهولوكوست هو أكبر جريمة ضد الإنسانية مأخذ الجد، بل هو يؤمن أن الأساس الأخلاقي الجديد للنظام العالمي ينبغي أن يكون مناهضة الاستعمار والأبارتهايد لأن الاستعمار والعنصرية (لا الهولوكوست) هما أكبر الجرائم ضد الإنسانية. ويزعم كيبيل أن الجنوب يريد أن يفرض هذا الأساس الأخلاقي الجديد فرضا، الأمر الذي يضع الغربيين في موقع «المذنبين البنيويين» أي المذنبين بالضرورة وعلى الدوام. على أن صاحب كتاب «الحرب على الغرب» لا يتردد في تقرير الحقيقة التالية: أن «إسرائيل قد تحولت، بفعل مذبحة الفلسطينيين (هكذا) في غزة منذ أواخر أكتوبر، إلى الوجه القبيح لهذا الشمال الممقوت».

٭ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية