ليست نهاية حرب غزة

حتى ساعة كتابة السطور، لم تكن مفاوضات القاهرة غير المباشرة قد اقتربت من اتفاق يعلن، ظلت محاولاته تتدحرج من باريس إلى الدوحة، إلى القاهرة، على مدى يزيد على الشهرين، ودون بلوغ تفاهم مشترك على المسائل الأساسية، لا في أرقام وتواقيت تبادل الأسرى، ولا في إعادة النازحين من جنوب قطاع غزة إلى الشمال، ولا في أفق المراحل التالية، حيث تصر حركة «حماس» وأخواتها على اتفاق متدرج، يصل إلى وقف إطلاق نار شامل ودائم، وعلى انسحاب قوات العدوان من كامل أراضي غزة، وعلى إزاحة كل العوائق لإعادة إعمار القطاع، بينما حكومة الاحتلال لا تريد سوى اتفاق موقوت، يتيح إعادة أسراها ورهائنها، ودون تعهد بوقف الحرب والعدوان، بل تكرار التصميم على اجتياح مدينة رفح بريا، الذي قال بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، إن موعده تحدد، وإنه «لا قوة في العالم» تملك منعه من الاجتياح اللازم لتحقيق ما يسميه «النصر المطلق».
وبافتراض أنه جرى الالتفاف لاحقا على العقبات، وإعلان التوصل إلى اتفاق عابر، يضاعف تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة المحاصر، ويعيد عشرات الآلاف من النازحين إلى مدينة غزة وشمالها، ويخلي سبيل مئات الأسرى الفلسطينيين مقابل إطلاق عشرات المحتجزين الإسرائيليين والأمريكيين، وإنجاز تهدئة موقوتة تمهد لتهدئة مستدامة، فقد لا يعد ذلك كافيا لوقف العدوان وإنهاء حرب الإبادة، ولا لدفع «حماس» وأخواتها إلى الاستسلام وإلقاء السلاح، كما يحلم بذلك علنا أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، وكان تصريحه في منتهى الفجاجة وغاية الاستفزاز، وهو يشير إلى ورقة اقتراحات أمريكية قيل إنها تسهل عودة النازحين الفلسطينيين، وتخفف قيودا اشترطتها إسرائيل، من نوع ضمان حق قواتها في تفتيش العائدين، وبقدر ما تنضح به أحلام بلينكن المنزلقة على لسانه، وأوهامه عن دفع «حماس» للاستسلام، بقدر ما تكشف عن سوء النية، وعن اشتراك واشنطن وتل أبيب في الأهداف نفسها، حتى إن بدت واشنطن أحيانا أكثر مرونة، على طريقة ما جرى بعد المكالمة الهاتفية الشهيرة بين نتنياهو، والرئيس الأمريكي جو بايدن، التي بدا فيها الأخير غاضبا من مراوغات نتنياهو، وطلب من تل أبيب فتح المعابر وفتح ميناء «أسدود» لاستقبال المساعدات، وهو ما بدا أن نتنياهو استجاب لبعضه مكرها، وقرر فتح معابر «إيريز» و»بيت حانون» و»كرم أبو سالم»، والسماح بدخول مئات من شاحنات المساعدات، بلغت نحو 400 شاحنة يوميا، لا تلبي الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية، فقد كانت 500 شاحنة على الأقل، تدخل إلى قطاع «غزة» يوميا قبل بدء الحرب، ومع زلازل التدمير وشلالات الدماء وتحطيم أغلب المستشفيات، فإن القطاع يحتاج لدخول ألف شاحنة على الأقل كل يوم، وإزالة القيود الإسرائيلية، المفروضة على دخول مواد الإغاثة كافة، وهو ما لن يتحقق غالبا مع الاتفاق أو من دونه، بما يفسر بعض إصرار فصائل المقاومة الفلسطينية على الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال، فليس ممكنا التقدم لإغاثة شاملة لأهل القطاع، ولا لإنقاذ أهل غزة من غوائل القتل بالقصف والتدمير وبالتجويع الممنهج، وليس ممكنا الوصول إلى شيء من ذلك، مع بقاء قوات الاحتلال بأي منطقة «غزاوية».

نتنياهو، يريد استمرار الحرب، ويسعى لتوسيعها باتجاه إيران و»حزب الله»، ودفع أمريكا للتورط معه في حرب بلا أمل ولا ثقة في كسب أكيد، سوى أنها تفيده في البقاء على كرسي السلطة

والمعروف أن قوات الاحتلال انسحبت إلى اليوم من قلب مدينة غزة وشمالها بعد التدمير الثاني الشامل لمستشفى «الشفاء»، ثم انسحبت من مدينة خان يونس بعد الخسائر الفادحة للفرقة «الإسرائيلية» رقم (98)، ونجاح المقاومة في نصب كمائن موت متقنة مركبة لقوات الاحتلال في الزنة شرق خان يونس وغربها، في حي الأمل، وفي حين انسحبت قوات الاحتلال من أغلب مناطق القطاع، فإنها أبقت على كتائب من لواء «ناحال» عند طريق عرضي جرى شقه في منطقة نتساريم، وبهدف فصل منطقة شمال قطاع غزة عن الوسط والجنوب، إضافة لهدم آلاف المنازل في شريط عازل على حدود القطاع مع مستعمرات غلاف غزة، تهدف سلطات الاحتلال إلى وضع قواتها فيه بصفة دائمة، وربما لاستكمال المنطقة العازلة جنوبا بعد عملية اجتياح رفح، ورغم إعلان واشنطن غير مرة عن معارضتها لاجتياح رفح بريا، فإن واشنطن في حقيقة موقفها، لا تختلف مع هدف نتنياهو المعلن، ولا في رغبته بتدمير كتائب «حماس» الأربعة المتبقية في «لواء رفح»، لكن واشنطن تختلف فحسب على الأسلوب لا في الهدف، وتطرح صيغا بديلة لعمليات تسميها جراحية، تستهدف فقط قوات «حماس» وأخواتها، ولا تدمر حياة المدنيين الفلسطينيين المكتظين في منطقة رفح، وفيها نحو المليون ونصف المليون مدني فلسطيني، أغلبهم نازحون من مناطق شمال ووسط القطاع، وفي حال اجتياح رفح على الطريقة الإسرائيلية الوحشية الهمجية، فسوف يتضاعف عدد الضحايا الفلسطينيين الشهداء والجرحى من نحو 120 ألفا الآن إلى مئات الآلاف المضافة، فوق التدمير الكلي للمباني والطرق والمنشآت الصحية، وهو ما تتخوف منه واشنطن، ليس بدوافع أخلاقية طبعا، فهي الشريك الأساسي لكيان الاحتلال في حرب إبادة غزة، وكل دمار أو دم سقط في غزة، معلق برقبة بايدن، كما رقبة نتنياهو، وإن كانت مصالح بايدن السياسية الشخصية تختلف عن مصالح نتنياهو في هذه اللحظة، فإدارة بايدن تدرك أكثر، أن الأهداف الأصلية للحملة العسكرية الإسرائيلية الأمريكية المشتركة، لم يتحقق منها شيء جوهري، فلا الأسرى ولا المحتجزون أعيدوا بالضغط العسكري، ولا بالقوة المسلحة والعمليات الاستخباراتية المكثفة، ولا القوة القتالية لحركة «حماس» وأخواتها جرى القضاء عليها، ولا جرى تحفيز عشائري عميل بديلا لحكم «حماس» في «غزة»، والدوائر الأمريكية المعنية لا تشتري أوهام نتنياهو عن إفناء عشرين من كتائب «حماس»، وتقديرات الأمريكيين أن خسائر «حماس» لا تزيد على ثلث قواتها، وأن أغلب مدن الأنفاق العسكرية لا تزال سليمة وفعالة، وما قد لا يدركه الإسرائيليون والأمريكيون معا، أن الخسائر العسكرية لفصائل المقاومة، لا تعني استنفاد قوتها، فهي تخوض مع قوات العدو حربا غير متناظرة وحرب عصابات استنزافية، في حين تخوض قوات العدو حرب غزو تقليدية، وكلما بدا لها أنها تقدمت فوق سطح الأرض من الشمال إلى الجنوب، وأنها تدمر وتحتل مدنا وبلدات ومخيمات، لكنها لا تهنأ أبدا باستقرار لغزو، وتعود لتكتشف بعد ستة شهور وتزيد، أنها وقعت في ضلال السراب، وأن كتائب المقاومة تعود مجددا في حركة معاكسة من الجنوب إلى الشمال، إما عبر شبكات الأنفاق، أو عبر حطام المباني التي هدمتها قوات الغزو نفسها، وهكذا تعود المعارك لتتكرر في الأماكن ذاتها، وبطريقة دائرية، تعود فيها نقطة النهاية إلى نقطة البداية مجددا، على نحو ما جرى في مجمع «الشفاء» وما حوله، وفي معسكر جباليا أقصى شمال غزة، وفي حي الشجاعية، وفي مخيم النصيرات، وغيره من مخيمات الوسط، وفي منطقة «نتساريم» على مراكز قيادة لواء «ناحال»، وغدا في نواحي خان يونس، التي انسحبت منها قوات الغزو بعد أربعة شهور، وقد تعود إليها مجددا، أضف إلى ما جرى، أن عملية اجتياح رفح التي يهدد بها نتنياهو، لن تضمن له شيئا من أهدافه وأوهامه، ولا تبدو تهديدا جديا للمقاومة، بقدر ما قد تكون فخا جديدا لقوات جيش الاحتلال، لن تلقى فيها سوى الهزائم العسكرية ذاتها، التي تجرعت كؤوسها المريرة في مدينتي غزة وخان يونس، ولا تملك سوى الاستئساد كعادتها على المدنيين الأبرياء، بينما تكسب المقاومة مددا مضافا يعوض خسائرها من المقاتلين، حتى لو جرى قتل المزيد من قادة المقاومة، وأيا ما كانت الأسماء، فاستشهاد القادة يزيد المقاومة لهيبا وصلابة، وهكذا تدور الحرب إلى مدى زمني مفتوح، إلا أن ترحل قوات الاحتلال جبرا أو اختيارا، وهو ما تدركه الإدارة الأمريكية المندمجة استراتيجيا مع كيان الاحتلال، وتسعى لاستنقاذ رقبة بايدن من العواقب الوخيمة، ومن «سواد الوش» الذي جلبته له حرب الإبادة، ومن اهتزاز فرصه في الفوز بولاية رئاسية جديدة في انتخابات أواخر العام الجاري، وهو ما يفسر خشونة بايدن ونقمته اللفظية على نتنياهو، الذي يرتبط مصيره السياسي بالحرب، ولكن في الاتجاه المعاكس، فهو يريد استمرار الحرب إلى يوم يبعثون، ويسعى لتوسيعها باتجاه إيران و»حزب الله»، ودفع أمريكا للتورط معه في حرب بلا ضفاف، وبلا أمل ولا ثقة في كسب أكيد، سوى أنها تفيده في البقاء على كرسي سلطة، يعرف أنه سوف يفقده إذا توقفت الحرب، أو إذا جرت انتخابات مبكرة، أيهما جاء أقرب.
*كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية