لماذا فشلت زيارة بن سلمان لتونس؟

إن ثبت بالفعل أنه عرض عليها أن يضع في بنكها المركزي وديعة بملياري دولار، ويضخ لها شحنات من البترول بأسعار تفاضلية، ويرسل لجيشها بعض الطائرات، حسب ما أوردته صحيفة محلية، فهل سيكون طبيعيا جدا بعدها أن تفتح الدولة المأزومة ذراعيها وتقول لزائرها الشرقي أمام كرمه السلماني المفاجئ: «حللت أهلا ونزلت سهلا»، حتى وهي تعلم علم اليقين أن ضيفها هو قاتل خاشقجي وكثيرين مجهولين غيره؟ من المؤكد أنه لم يكن من باب الصدفة أبدا أن يخطط محمد بن سلمان في مثل هذا الظرف بالذات لزيارة مثل تلك التي قادته إلى تونس، فلا احد كان يظن أن درجة الغباء الاستراتيجي كان سيجره لأن يخطأ العنوان في مسألة تبدو مفصلية في تحديد مستقبله السياسي، فيخلط عن سوء تقدير بين الدول التي تواليه طوعا، وتلك التي قد تفعلها كرها وربما مواربة واضطرارا، ويضعها تلقائيا معا وبشكل عفوي في سلة واحدة.
فقد كان يعلم من دون أدنى شك مثلا أن محكمة العدل الدولية لم تنتقل بعد إلى تلك الدولة الصغيرة حتى يفكر في زيارتها والمثول أمام قضاتها لينزلوا به الحكم الذي يستحق في جريمة القنصلية، بل كان على يقين تام بالمقابل من أنها ما زالت على عهدها في لاهاي، وواثقا جدا أيضا من أنه خرج لغرض آخر بعيد تماما عما كان يفترضه التسليم بمنطق العدل والإنصاف. فهو لم يخطط في الأصل لجولته الأولى بعد جريمة إسطنبول حتى يتطهر من ذنب خاشقجي وأطفال اليمن، وذنوب كثيرة أخرى تلاحقه كظله، وحتى يقر بها مقدما نفسه للقضاء الدولي، بل فعلها ليكابر ويعاند ويدعي أن لاشيء يستدعي القلق والحيرة، ويثبت لنفسه قبل غيره أنه مازال قويا بما يكفي لأن يتنصل بسرعة من جرائمه ويلصقها بآخرين، ويجعلها مجرد أخطاء فردية بسيطة لا تستوجب شيئا عدا الإدانة اللفظية المحدودة، وربما التضحية إن لزم الأمر ببعض الرؤوس. وكان واضحا أنه اراد من وراء ضم تونس بالذات لتلك الجولة الاستعراضية أن يصور دخوله المهيب لقصر قرطاج وجلوسه، ولو لبعض الوقت إلى عميد رؤساء العرب وكبيرهم، الذي طالما افتخر بانه الوحيد المنتخب فيهم ديمقراطيا، على أنه نصر شخصي لإرادة المنشار على إرادة الشعوب، وأنه الدليل على أن لا فرق أبدا متى تعلق الأمر بالحفاظ على كرسي النظام بين زعيم عربي وآخر.
ولأسباب مجهولة لم يمتلك المحيطون به الشجاعة الكافية ليكشفوا باكرا عن برنامج الرحلة، التي يفترض أن تقوده في الأخير للأرجنتين، وربما لم يكن مثل ذلك التصرف المريب فارقا أو مهما في حالة الإمارات أو البحرين، ولكن كبار المسؤولين في تونس حاولوا جاهدا أن يداروا حجم الإرباك الشديد الذي سببه لهم ذلك القرار، وتجرعوا مرارة ساعات الزيارة القصيرة للأمير محمد بن سلمان لبلدهم، وظلوا يقولون مرة بعد أخرى أنهم كانوا دوما وأبدا حريصين جدا على الحفاظ على علاقة، لم يشك أحد في أنها كانت على مدى السنوات الأخيرة أضعف وأوهن ما يكون، مع مملكة لم تبد أي ارتياح لأي ربيع عربي، أو يرددوا بصيغ مختلفة المعنى نفسه الذي حملـــه تصـــريح وزير خارجيتهم قبل نحو شهر من الآن، في أول موقـــف رسمي على جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقـــجي، بأن «تونس تدين مقتل خاشقجي خصوصا أنها جريمة ضد صحافي» قبل أن يستدرك «ولكـــن السعــودية تفاعلت إيجابيا وفتحت تحقيقا.. ولكننا نقول أيضا إنه ينبغي عدم استغلال ذلك الحادث لاستهداف السعودية وأمنها واستقرارها، فهي دولة مهمة جدا في المنطقة والعالم».
وزاد التضارب الحاد الذي لاح بوضوح بين ما جاء في بيان الديوان الملكي السعودي الخميس الماضي، من أن جولة ولي العهد الخارجية، التي بدأت في اليوم ذاته من الإمارات، وكانت تونس واحدة من محطاتها تأتي «بتوجيه من الملك سلمان بن عبد العزيز، انطلاقا من حرصه على تعزيز علاقات المملكة إقليميا ودوليا، واستمرارا للتعاون والتواصل مع الدول الشقيقة في المجالات كافة، واستجابة للدعوات المقدمة من اصحاب الجلالة والفخامة والسمو». وبين ما نقل عن أكثر من مصدر رسمي مطلع في أكثر من محطة إذاعية محلية، من بينها محطة «أكسبريس أف أم» من أنه «بطلب من السعودية فإن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سيكون ضيفا على رئيس الجمهورية»، وإنه أي ولي العهد وحسب المصدر ذاته «سيتوقف بتونس لبضع ساعات قبل سفره للارجنتين، للمشاركة في قمة دولية، وقد طلب من تونس ملاقاة رئيس الجمهورية»، وزاد ذلك من حدة الغموض وفسح المجال لشتى التخمينات عن سر الزيارة وتوقيتها وعن المستفيد الأكبر منها، وكانت النتيجة هي أن الرأي العام المحلي والعربي ازداد يقينا بان صورة ديمقراطية الاستثناء العربي باتت على المحك، وأن الزيارة لم تكن سوى اختبار حقيقي لقدرة التونسيين على الحفاظ على شعلة ثورتهم ووهجها والصمود بوجه الإغراءات والوعود المالية الجذابة، في وقت يواجهون فيه أزمات وصعوبات اقتصادية واجتماعية جمة. وربما نجح ولي العهد السعودي هنا وبمجرد الإعلان غير الرسمي عن برنامج جولته الخارجية الأولى منذ جريمة القنصلية، في أن يحدث صدمة مقصودة ويحقق شبه انقسام داخل تونس حول أحقية قدومه لها من عدمه، وذلك بين من يرى أن بلاده أولى بدولارات الامير مادام مستعدا للدفع نظير خدمة رمزية هي تلميع صورته، ومن يصر على أن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها. ورغم انه لم يكن ليدور بخلد الكثيرين أن الرسالة المفتوحة التي وجهتها نقابة الصحافيين إلى الرئيس التونسي، وأكدت فيها «استهجانها لزيارة ولي العهد السعودي كونه خطرا على الامن والسلم في المنطقة والعالم، وعدوا حقيقيا لحرية التعبير»، وأن الزيارة تمثل «اعتداءا صارخا على مبادئ الثورة»، ثم ما تلاها من تحركات مدنية كالوقفات الاحتجاجية وقرار بعض المحامين التقدم بقضية استعجالية لمنع بن سلمان من القدوم لتونس، والتفاعلات التي ظهرت، خصوصا في وسائل التواصل الاجتماعي ستكون هي الخيط الناظم لوصم زيارة الامير السعودي بالفشل، إلا أن ذلك هو ما حصل بالفعل. فلم يفلح بن سلمان رغم كل شيء في الوصول لهدفه الاساسي وهو «تبييض وجهه»، لانه طرق لسوء حظه الباب الخطأ وهو باب الرئيس، في حين انه كان يعلم جيدا أن تونس لم تعد تختزل في شخص واحد، وان مجتمعها الأهلي صار قوة ضغط لا يمكن الاستخفاف بها.
وهكذا فقد استعاد التونسيون بمقدمه وبزخم أقوى ما جرى لخاشقجي وما حصل ويحصل لأطفال اليمن من جرائم وكوارث على يد القاتل نفسه، وبدلا من أن تكون الزيارة مفتاحا لتوطيد العلاقات الاقتصادية، كما زعمت وسائل الإعلام السعودية فان الارجح انها ستكون شرارة لتحركات مدنية أقوى لن يكون من السهل أن تفل من عزمها أو توقفها، لا وديعة البنك المركزي ولا شحنات البترول ولا حتى الطائرات الموعودة لمن صار يلقب اليوم في تونس بأبي منشار.

٭ كاتب وصحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد فوزي التريكي:

    بن سلمان يزور السبسي ولا يزور تونس
    زيارة في الليل مثل خفافيش الظلام بدون تغطية إعلامية ولا ضيوف لإستقباله في المطار واقتصرت على مستقبل واحد وهو رئيس الدولة الذي اصطحبه من المطار مباشرة الى القصر الجمهوري هل يريد بن سلمان من وراء زيارته ان يتطهر من دم خاشقجي ،ام من دماء اليمنيين هل يريد بن سلمان ان ينسينا شرائه لجزيرتي تيران وصنافير لكي يمكن إسرائيل من ممر مائي دولي هل يريد بن سلمان ان ينسينا موافقته على صفقة القرن التي سنفقد من خلالها القدس والمسجد الأقصى هل يريدنا ان ننسى تصريحات ترامب الأخيرة التي قال فيها “لو لا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة “بن سلمان زار السبسي فقط ولم يزر تونس فلا اهلا ولا سهلا به في تونس

  2. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    الدول لا تسير بتجوع الحرة و لا تأكل من ثديها !
    على فكرة أين بيان و موقف طائفة النهضة و موقف المرشد من الزيارة …؟ اغلب الأحزاب أصدرت بيانات ترحب و ترفض و بكل وضوح إلا الطائفة….!! اه فهمت هم يحترمون منطق الدولة ….هههههههه كم انت صعبة يا تقية… ….تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها

  3. يقول كريم الياس/فرنسا:

    فشلت الزيارة يا استاذ…نزار، لأنه ببساطة قاتل…جبان…!! جاء هذا المجرم لتبييض وجه القبيح…عند من ؟ عند السيد الرئيس السبسي..؟! و هو يعلم أن هذا الرئيس المنتخب من طرف الشعب التونسي الذي ثار ضد ظلم و طغيان و تفرد ديكتاتورية زين الهاربين- العفنة..- و المؤكد ان ( الرئيس خريج معهد الديكتاتوريات ) لن يفيده في شيء يذكر ، سوى تحصيل الفتات..لاعانة تونس على صراعاتها…بسبب سياسات الدولة العميقة ….العقيمة…لا مرحبا بهذا المجرم و من هم على شاكلته…و شكرا لقدسنا الموقرة

إشترك في قائمتنا البريدية