كي لا تفتكر أن القراءة شيء هيّن

حجم الخط
0

من لحظة ما يصيرالكتاب الجديد بين أيدينا نبدأ بالتعرّف عليه: ملمسه وسماكة أوراقه وحجم الحرف الذي كتب فيه. ثم، بعد ذلك، ودائما قبل أن نبدأ بقراءة المقطع الأول من صفحته الأولى، نذهب إلى صفحته الأخيرة، لنعرف إن كان ما سنقرأه سيعيينا، كأن يكون في 374 صفحة مثلا. هذا كثير أقول. كان ينبغي أن أنتبه قبل أن أقرّر شراءه. لا أحبّ الكتب الكبيرة. إن اتفقّ أن بدأت بقراءة أحدها أكتفي منه بما يساوي عدد صفحات كتاب صغير، أو كتاب متوسط في أحسن الأحوال. ولم أعد أجد نفسي مقصّرا لتركي الصفحات الباقية بلا قراءة.
ساعدتني على التخلّص من عقدة الذنب ما قرأته مؤخرا على الفيسبوك. كانت الكلمات القليلة تلك لا تُدحض ولا يستهان بها، إذ هي من أحد أولئك الذين كتبوا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، ولم يتوقف الناس عن ذكرهم منذ ذلك الحين. «لا تقرأ إلا ما تجد نفسك سعيدا بقراءته» هكذا قال الكاتب الخالد معارضا كل ما لقّنته ونشأت عليه، منذ أن أدخلني والدي إلى المدرسة. كان يلحون عليّ أن أقرأ درس التاريخ، وأن أحفظه فوق ذلك، وأنا لا أحبّ التاريخ. وهذا على كل حال ما رحت أفعله مع أولادي، مع معرفتي كم هو ظالم أن أُجبرهم على قراءة، ثم على حفظ، ما لا يحبّونه.
حتى الذي أحبه لا أجدني سعيدا بإسرافه في إطالة عدد الصفحات. هكذا أروح، بعد أن أتعرف على الكتاب الجديد، بالطريقة التي وصفتها أعلاه، أقدّر كم هو عدد صفحاته فعليّا، أي ليس بحسب الرقم 374 الموضوع في أسفل الصفحة الأخيرة. أقصد أن أحذف من ذلك الرقم الصفحات البيضاء التي لا كلام فيها، بدءا من الصفحات الأولى التي قد يصل عددها أحيانا إلى 13 هي أول ما أحذفه، ثم الصفحات التي تعزل الفصول بعضها عن بعض، وهذه قد يصل عددها أحيانا إلى عشرين، ثم الصفحات التي يتوقّف فيها الكلام عند منتصفها، أو في ربعها أو ما يزيد عن ذلك، أو ينقص. هكذا أكون أجرّد الكتاب من فراغاته لأصل إلى العدد الصحيح الباقي.
غير أنني، حين أنتهي من عملي ذاك ويصبح الكتاب أصغر مما هو بأربعين صفحة أو خمسين، يباغتني تخيّلي للمخطوطات القديمة التي يحتشد فيها الكلام احتشادا يمنع الكلمات من التنفّس.
وفي كتب قديمة أحتفظ ببعض منها في ذاكرتي، لجأ مصنّف مقامات الحريري إلى وضع تعليقاته، المساوي عدد كلماتها لما كتبه الحريري نفسه، وكل ذلك وُضع في هوامش الصفحات، وهي المساحات التي كان ينبغي أن تُترك بيضاء. لم أقرأ مقامات الحريري تلك، إذ إضافة إلى تحمّل ذاك السواد المحتشد، سيكون عليّ أن أقرأ ما كتبه المفسّرفي الوقت نفسه، هكذا بما يشبه أن ينقسم نظري بين هنا وهناك، أقرأ بعين الشمال الهامش الذي على الشمال وأقرأ، بالعين الأخرى، المقامة التي صارت في جهة اليمين.
لا أحبذ إذن أن تكون الصفحات غاصة بالكلام من أعلاها إلى أسفلها، بل أجدني حين أبدأ قراءة الكتاب، بعد الخلاص من مرحلة التعارف، أسرع إلى بلوغ آخر الفصل كي أرتاح. أجمل الكتب هي تلك التي حين تبدأ فصولها لا تلبث أن تنتهي. كأنني أقرأ لأصل إلى حيث تلك الاستراحة، ملاحقا أثناء ذلك الوقت الذي ما زال أمامي. ذاك أني، من قبل أن ينتهي الفصل، ويبدأ فصل جديد أنظر كم عدد الصفحات التي سأقرأها قبل أن أعود إلى الاستراحة من جديد.
هذا الصبر النافد هل يشمل كل القارئين، أم أنه نقيصة فيّ وحدي، هذا ما لا أجد نفسي ساعيا إلى أن يجيبني أحد عنه. ذاك لأني أرى أن من يقرأون هم كلهم هكذا، مثلي. يقرأون قليلا ويرتاحون قليلا، بل يقرأون قليلا ويرتاحون كثيرا. كما أرى أيضا أن القراءة تعذيب ألزم بعض الناس أنفسهم به. أقصد بالتعذيب تلك الوحشة التي جرى في وصف حسناتها حبر كثير. وحشة أن تكون قادرا على أن تكون بين كثيرين لكنك مع ذلك تبقى منفردا بنفسك هكذا وحدك. بعضهم لا ينطبق عليهم ذلك. أبو العلاء المعري مثلا الذي كان، في إقباله على القراءة، كأنه يقلّب كتبا موجودة في داخل رأسه، أو كمثل طه حسين الذين كان هناك مؤانس يقرأ له ويشعل له سجائره ويعيد فنجان قهوته إلى مكانه على المنضدة قبل أن يصل إلى حافّتها فيقع.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية